مدى صحة الحديث الذي جاء فيه أن الميت يسمع قرع النعال ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
مدى صحة الحديث الذي جاء فيه أن الميت يسمع قرع النعال ؟
A-
A=
A+
السائل : بالنسبة لموضوع الموتى لا يسمعون ... فيه أن الميت يسمع قرع النعال ؛ فما مدى صحّة هذا الحديث ؟

الشيخ : أولُا هذا الحديث صحيح ؛ لأنه مخرج في " صحيح البخاري " : ( إذا وضع الميت في قبره ، وانصرف الناس عنه ، إنه ليسمع قرع نعالهم ، وهو عنه مدبرون ) ، هذا الحديث صحيح ، لكن هذا كذاك ، أي : هذا مستثنى من القاعدة العامة ؛ لأنه يقول : ( حين ) ، فهو ليس في كل حين يسمع ، نفس الحديث يعطيك التخصيص ، ولا يعطيك العموم ، ( يسمع قرع نعالهم حين ) ، حين شو معنى حين ؟ يعني وقت ، حين يولون عنه مدبرين ، لكن هل يعني الحديث أن الموتى كل ما مرَّ مار من المقابل فهم يولولون بسمع قرع النعال ؟!

السائل : ألا يحمل على وجه البلاغة يعني مثلًا ... ؟

الشيخ : ما هو الذي يحمل يا أخي ؟ حدِّد كلامك .

السائل : يسمع الناس يسمعون قرع نعالهم ، - مثلًا - : في إعلان عن شقة ... شقة ترى البحر ، هي لا ترى البحر ، ولكنها في موضع يسمح لها من فيها برؤية البحر ، فهنا المعنى يُحمل على أنهم أن الصوت يصل إليهم ؛ لو أن حيًّا في مكانهم لَسمع قرع النعال .

الشيخ : أما قرع النعال لا يسمعون ؟

السائل : نعم ؟

الشيخ : يعني في النهاية تعني : أنهم لا يسمعون قرع النعال ؟

السائل : يعني أنا أتصور ، والله أعلم .

الشيخ : أنا أسألك حتى أفهمَ منك ؛ تعني أنهم لا يسمعون قرع النعال ؟

السائل : قد يُحمل المعنى على هذا .

الشيخ : وقد لا يُحمل ، ما الذي تستفيده من القدقدة ؟

ثم أنا أذكِّر السائل وسائر الحاضرين بقاعدة لغوية مهمَّة جدًّا : " إذا دار الأمر بين التقدير وعدمه ؛ فالأصل عدم التقدير " ، بعبارة أخرى : إذا أمكننا أن نفسِّر العبارة أو الجملة العربية من كلام الله أو من حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أو أي جملة عربية ؛ إذا أمكننا أن نفسِّرها على الحقيقة ؛ فلا يجوز تفسيرها على المجاز ، إلا إذا قامت القرينة الشرعية أو العقلية ؛ فحينذاك يقال وُجدت القرينة التي تضطرُّنا إلى تفسير الآية أو الحديث أو الجملة العربية على المجاز ، وليس على الحقيقة ، لكن إذا دار الأمر بدون وجود قرينة بين تفسير الجملة على الحقيقة أو على المجاز ؛ فالأصل الحقيقة وليس المجاز ، وإلا فسدت اللغة ، وفسد استعمالها بين الناس ، إذا قال قائل : " جاء الأمير " ؛ فهل يجوز للسامع أن يفهم " جاء خادم الأمير " ؟! - وهذا تعبير عربي معروف بتقدير مضاف محذوف - ، لا يجوز ؛ لأنه ليس هناك ما يضطر السامع أن يتأوَّل قول القائل : " جاء الأمير " يعني لأ مش الأمير ، وإنما جاء خادمه أو جاء نائبه !! أو أو إلى آخره ، لو فتح هذا الباب لَفسد التخاطب بين الناس باللغة العربية ، ومن هنا كان من ردِّ العلماء والفقهاء على غلاة الصوفية الذين يقولون من جهة بما يعرف عند العلماء بوحدة الوجود ، والذين يتكلَّمون بعبارات صريحة في الكفر وفي وحدة الوجود ، فيأتي المدافعون عن أولئك الصوفية بالباطل فيتأوَّلون كلامهم تأويلًا يتَّفق في نهاية المطاف مع الشريعة ، فنحن نقول لهؤلاء بهذه الطريقة : لا يمكن أن نقول أنو هذا الكلام كفر !! حتى قلت مرة لبعضهم : اِيتني بأي جملة فيها كفر في ظاهر العبارة وأنا على طريقتكم أجعلها توحيدًا خالصًا ، طريقتهم ما هي ؟ تأويل النصوص ، مثلًا مما قال قائلهم المغرق في الضلال :

" وما الكلب والخنزير إلا إلهنا *** وما الله إلا راهب في كنيسة "

يتكلَّفون في تأويل : " وما الكلب إلا إلهنا " أي : إلَّا إلى هنا ، إلى حرف جر ، هنا !! إيش التأويل هذا ؟ ولذلك مثل هذا التأويل يمكن إجراؤه على أيِّ عبارة ، مثلًا أنا بقول لو قال قائل : " الخوري القسيس خلق السماوات والأرض " ؛ إيش رأيكم في هذا الكلام ؛ يجوز ولَّا لا يجوز ؟ طبعًا بالإجماع لا يجوز ، لكن أنا أجعله توحيدًا بطريقة الصوفية ، وهو ربُّ الخوري ، هذا معروف في اللغة ، تقديرها محذوف ، على حدِّ قوله - تعالى - : (( وسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون )) ، اسأل القرية إيش ؟ حيطانها ؟ شجرها ؟ لأ ، إنما أهلها ، كذلك العير ، لكن هذا المضاف المحذوف الأسلوب العربي نفسه يُوحي به إلى السامع ، فإن أحدًا لا يتساءل يا ترى المقصود هنا فعلًا القرية ؟ لا ، ولذلك تسمية هذا التعبير في اللغة العربية أن هذا مجاز مما يدفعه ابن تيمية - رحمه الله - في رسالته الخاصة في الحقيقة والمجاز ، يقول : تسمية هذه العبارة خاصة بأنها مجاز من باب حذف المضاف ؟ هذا اصطلاح طارئ ، وأن العرب ما كانوا يفهمون من هذه العبارة إلا معنى واحدًا ، هو الذي يسمونه بالمجاز ، بحذف المضاف ، كذلك - مثلًا - في الأسلوب العربي : " سال الميزاب " على طريقة المتأخرين في تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز ، حقيقة هذه العبارة : " سال الميزاب " يعني : الميزاب من شدَّة الحرارة ذابَ ، وصار سائلًا ، سال الميزاب ، لكن مَن مِن العرب إذا سمع هذه العبارة يتبادر إلى ذهنه المعنى الذي يسمونه حقيقة ؟ فيقولون : لا ، هنا المقصود المجاز ، هذا المعنى الذي يسمونه مجازًا في هذا المثال هو المعنى الحقيقي المراد منه ، " سال الميزاب " يعني : سال ماءُ الميزابِ ، مثل : (( وسئل القرية )) تمامًا .

وهكذا أمثلة كثيرة يذكرها ابن تيمية ، منها - مثلًا - : " جرى النهر " ، النهر هو الأخدود الذي يجري فيه الماء ، فحينما يقول العربي جرى النهر ، لا هو يعني جرى الأخدود نفسه بدون ماء ، ولا السامع منه - من العرب - يفهم إلا الذي أراده ؛ أي : جرى ماء النهر ، إذًا تسمية هذه التعابير بأنها مجاز يقول ابن تيمية هذا خطأ ! المجاز هو الذي يُقرن بالمعنى بالظاهر من العبارة إلى المعنى الآخر لوجود قرينة ، لكن هنا لا معنى آخر إلا معنى واحد محدد هو : (( اسأل القرية )) يعني أهلها ، " سال الميزاب " أي : ماؤه ، " جرى النهر " أي : ماؤه ، من هنا يبتدئ ابن تيمية إلى الرد على المتأخرين الذين يتأوَّلون آيات الصفات وأحاديث الصفات باللجأ إلى ارتكاب طريق التأويل ، وهو سلوك طريق المجاز ، لكن ما الذي يضطرهم إلى ترك فهم المعاني من هذه الآيات وتلك الأحاديث المتعلقة كلها بالصفات أن تُفسر على حقائقها ، لا سيما وهم يقولون جميعًا - المتقدمون منهم والمتأخرون - : الأصل في كل عبارة أن تُفسر على حقيقتها ؟! فمثلًا قوله - تبارك وتعالى - : (( وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا )) ، لأ ، جاء ربك لا يجوز هذا الفهم !! إذًا جاء رحمة ربك ، جاء أيُّ مضافٍ محذوف يُقدِّرونه ، وعلى ذلك فقس ، نحن نقول : الحق كما نطق الحق في كتابه : (( وجاء ربك )) ، لكن كيف يجيء ؟ ما ندري ، وهذا البحث طرقه العلماء قديمًا وحديثًا ، ونحن في مناسبة قريبة تعرَّضنا لمثلها - أيضًا - .

الخلاصة : أن الكلام العربي أول ما ينبغي أن يُفسر هو على الحقيقة ، فقوله - عليه السلام - : ( إذا وُضع الميت في قبره فإنه ليسمع قرع نعالهم وهم عنه مدبرين ) على الحقيقة يسمع قرع النعال ، بل أنا أقول خلاف ما قلت أنت ، هو لا يمكن أن يتصور أنه يسمع كل شيء ؛ لأنه هو بكل شيء سميع ، هذا أمر مستحيل ! لكن ما دام أن الأصل أن الموتى لا يسمعون - كما شرحنا لكم آنفًا - ؛ فإذا جاء نصٌّ ما يُعطي لميت أو موتى ما سماعًا ما نستثنيه من القاعدة ، نقول : أولئك المشركين في القليب سمعوا قول الرسول - عليه السلام - ، لكن ما كان حوله من أحاديث الصحابة وحينما قال عمر : " يا رسول الله ، إنك لتنادي أجسادًا لا أرواح فيها " ؛ ما نقول إنهم سمعوا قول عمر ؛ لأن سماعهم لقول الرسول معجزة للرسول ، فيوقف عندها ، كذلك في هذا الحديث : ( يسمع الميت قرع نعالهم ) بس ، وما نزيد على ذلك لسببين اثنين :

أولًا : أنه خلاف الأصل ، أن الموتى لا يسمعون .

ثانيًا - وأخيرًا - : أن الأمور الغيبية - وهذا من الغيب في البرزخ - لا يُتوسع فيها أبدًا .

والحق الوقوف عند النص وعدم التزيُّد عليه .

مواضيع متعلقة