تتمة شرح الحديث السابق حديث ابن عمر رقم ( 388 ) : ( المُؤمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ ... ) . كلام في التوكل الصحيح في الإسلام . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
تتمة شرح الحديث السابق حديث ابن عمر رقم ( 388 ) : ( المُؤمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ ... ) . كلام في التوكل الصحيح في الإسلام .
A-
A=
A+
الشيخ : من آثار هذا العكس بهذا القلب أنهم يفهمون التوكل بخلاف المعنى الشرعي له ؛ حيث أنهم يفهمون التوكل بمعنى التواكل ، وشتَّان بين التوكل والتواكل !

التوكل جاء ذكره في عديد من الآيات الكريمة ، منها قوله - تبارك وتعالى - : (( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ )) ، فالتوكل على الله يكون بعد أن يتَّخذ المسلم الأسباب التي تُوصله عادةً إلى ما يبتغيه من سبب ؛ مثلًا الذي يريد من أرضه أن تثمر له الثمر اليانع ، وأن تنبت له الحبَّ الكثير لا بد من أن يخدمها بكلِّ أنواع الخدمات التي تتطلَّبها الأرض عادةً من حرث وزرع وتنقية وسقي ونحو ذلك ، فإذا هو فعل هذا يتوكل على الله - عز وجل - ولا يتوكل على أسبابه ؛ لأن هذه الأسباب قد تتأخَّر ؛ فلا بد من أن يقرِنَها مع التوكل على الله - تبارك وتعالى - ، أما أن يقول الإنسان إن كان الله - عز وجل - كتب لي أن آكل من هذه الأرض من ثمرها ومن حبِّها فسآكل ؛ سواء خدمتُها أو لم أخدمها فهو في الواقع يخادع نفسه ، ويفسِّر التوكل بخلاف المعنى الحقيقي المراد منه .

ومن هذا العكس الذي يقعون فيه فَهُم حينما يفسِّرون التوكل بهذا المعنى لا يعدمون أن يركنوا إلى بعض النصوص التي يدعمون بها تفسيرهم ، لكنهم في الوقت نفسه حينما يدعمون ما يذهبون إليه من تفسير التوكل بالتواكل قد أُصِيبوا - أيضًا - بانعكاس في فهمهم لبعض تلك النصوص ، من ذلك أنهم يحتجُّون بقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( لَئِن توكَّلتم على الله حقَّ التوكل لَرَزَقَكم كما يرزق الطير ؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا ) ، ففهموا الحديث مقلوبًا ، قالوا : هذا الله يرزق الطير ، لكنهم غفلوا عن النَّصِّ وما فيه من التفريق بين الغدوِّ والرواح ؛ حيث قال - عليه الصلاة والسلام - : ( لَئِن توكَّلتم على الله حقَّ التوكل لَرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا ) . ما قال : تصبح خماصًا في أعشاشها ثم تمسي بطانًا - يعني ممتلئة البطون - وهي في أعشاشها ، وإنما قال - عليه السلام - : ( تغدو ) ؛ أي : تبكِّر بالانطلاق وراء السعي للرزق ، فترجع وقد امتلأت بطونها .

إذًا هذا الحديث لا يؤيد هؤلاء المتصوِّفة الذين يفسرون التوكل بمعنى التواكل ؛ أي : الكسل وعدم الأخذ بالأسباب ، بل إن هذا الحديث يؤيد معنى الآية السابقة : (( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ )) ، اعزِمْ وتوكَّل كما قال : ( اعقِلْ وتوكَّلْ ) ، وهذا حينما جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو على ناقته قال : يا رسول الله ، أعقِلُها ؟ أقيِّدها وأربطها أم أتوكل على الله ؟ قال : ( لا ، اعقِلْ وتوكَّلْ ) ؛ أي : اجمع بين السبب والتوكل على الله - تبارك وتعالى - ، وهذا الموقف - أي : الجمع بين السبب والتوكل على الله - هو موقف المسلم ، وضده على طرفي نقيض ؛ هؤلاء المتصوفة - مثلًا - يَدَعُون الأخذ بالأسباب ويتوكلون على الله بزعمهم ، فهؤلاء أخذوا بالشيء وأعرضوا عن شيء ، عكسهم اليوم جماهير المسلمين بجهلهم ، أما المتصوفة فلانحرافهم في مذهبهم ، أما جماهير المسلمين اليوم فهم يتَّكلون على الأسباب متأثِّرين في ذلك بالمذهب المادي الأوروبي ، فنحن نعلم يقينًا اليوم أن الأوروبيين اليوم لا يكادون يذكرون الله إطلاقًا ، وإنما عمدتهم على علومهم على عقولهم على أبدانهم وأخذهم بالأسباب ؛ فهؤلاء في طرف والمتواكلة من المتصوفة في طرف ، وكلاهما على طرفي نقيض ، والحقُّ بينهما ، والحقُّ الجمع بين الأخذ بكلِّ طرف من الطرفين اللَّذين أخذ كلٌّ منهما بطرف وأعرض عن الطرف الآخر ؛ ذلك أن نأخذ بالأسباب ونتوكل على ربِّ الأرباب ، هذا كله مما نستوحيه من هذا الحديث الذي نحن بصدد التعليق عليه .

مواضيع متعلقة