بيان أن خبر الواحد يفيد العلم واليقين في كثير من الأحيان ، وبيان أمثلته ، ونقل كلام ابن القيم عن شيخ الاسلام ابن تيمية الدال على ذلك . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
بيان أن خبر الواحد يفيد العلم واليقين في كثير من الأحيان ، وبيان أمثلته ، ونقل كلام ابن القيم عن شيخ الاسلام ابن تيمية الدال على ذلك .
A-
A=
A+
الشيخ : فينبغي أن يُعلم أن ذلك ليس مسلَّمًا على إطلاقه ، بل فيه تفصيل مذكور في موضعه ، والذي يهمُّنا ذكرُه الآن هو أن خبر الآحاد يُفيد العلم واليقين في كثير من الأحيان ، من ذلك الأحاديث التي تلقَّتْها الأمة بالقبول ، ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم في " صحيحيهما " مما لا يُنتَقَد عليهما ؛ فإنه مقطوع بصحته ، والعلم اليقيني النظري حاصل به كما جزمَ به الإمام ابن الصلاح في كتابه " علوم الحديث " ، ونصَرَه الحافظ ابن كثير في " مختصره " ، ومن قبلِه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتَبِعَه العلامة ابن قيم الجوزية في " مختصر الصواعق " ، ومثَّلَ له بعدة أحاديث منها حديث عمر : ( إنما الأعمال بالنيات ) ، وحديث : ( إذا جلسَ بين شُعَبِها الأربع ثم جهدَها ؛ فقد وجب الغسل ) ، وحديث ابن عمر : " فَرَضَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صدقة الفطر في رمضان على الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، وأمثال ذلك . قال ابن القيم : " قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فهذا يُفيد العلم اليقيني لجماهير أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - من الأولين والآخرين ، أما السلف فلم يكن بينَهم في ذلك نزاع ، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة ، والمسألة منقولة في كتب الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ؛ مثل السرخسي ، وأبي بكر الرازي من الحنفية ، والشَّيخ أبي حامد ، وأبي الطَّيِّب ، والشَّيخ أبي إسحاق من الشافعية ، وابن خُواز منداد وغيره من المالكية ، ومثل القاضي أبي يعلى ، وابن موسى ، وأبي الخطاب ، وغيرهم من الحنبلية ، ومثل أبي إسحاق الإسفراييني ، وابن فورَك ، وأبي إسحاق النَّظَّام من المتكلِّمين .

وذكره ابن الصلاح وصحَّحه واختاره ، ولكنه لم يعلم كثرة القائلين به ليتقوَّى بهم ، وإنما قال بموجب الحجة الصحيحة ، وظَنَّ مَن اعترض عليه من المشايخ الذين لهم علم ودين وليس لهم بهذا الباب خبرة تامَّة أن هذا الذي قاله أبو عمرو بن الصلاح انفرد به عن الجمهور ، وعذرهم أنهم يرجعون في هذه المسائل إلى ما يجدونه من كلام ابن الحاجب ، وإن ارتفعوا درجة صعدوا إلى السيف الآمدي وإلى الخطيب ، فإن عَلَا سندهم صعدوا إلى الغزَّالي والجويني والباقلاني " .

قال : " وجميع أهل الحديث على ما ذكره الشَّيخ أبو عمرو ، والحجة على قول الجمهور ؛ أنَّ تلقِّي الأمة للخبر تصديقًا وعملًا إجماع منهم ، والأمة لا تجتمع على ضلالة كما لو اجتمعت على مُوجب عموم أو مطلق أو اسم حقيقة أو على موجب قياس ؛ فإنها لا تجتمع على خطأ ، وإن كان الواحد منهم لو جُرِد النظر إليه لم يؤمن عليه الخطأ ، فإن العصمة تثبت بالنسبة الإجماعية ، كما أن خبر التواتر يجوز الخطأ والكذب على واحد من المخبرين بمفرده ، ولا يجوز على المجموع ، والأمة معصومة من الخطأ في روايتها ورأيها " .

قال : " والآحاد في هذا الباب قد تكون ظنونًا بشروطها ، فإذا قويت صارت علومًا ، وإذا ضعفت صارت أوهامًا وخيالات فاسدة " .

قال : " واعلم أن جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب كما ذكرَه الشَّيخ أبو عمرو ، ومن قبله من العلماء كالحافظ أبي طاهر السِّلفي وغيره ؛ فإن ما تلقَّاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصِّل للعلم مفيد لليقين ، ولا عبرة بِمَن عداهم من المتكلمين والأصوليين ، فإن الاعتبار في الإجماع على كلِّ أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم ، كما لم يُعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون المتكلِّمين والنحاة والأطباء ، وكذلك لا يُعتبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله ، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيِّهم ، الضابطون لأقواله وأفعاله ، المعتنون بها أشدَّ من عناية المقلدين بأقوال متبوعيهم .

فكما أن العلم بالتواتر ينقسم إلى عام وخاص ، فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون معلومًا لغيرهم ، فضلًا أن يتواتر عندهم ؛ فأهل الحديث لشدَّة عنايتهم بسنة نبيِّهم وضبطهم لأقواله وأفعاله وأحواله يعلمون من ذلك علمًا لا يشكُّون فيه مما لا شعور لغيرهم به البتَّة " .

قال ابن القيم : " وإنما أُتِيَ منكرُ إفادة خبر الواحد العلم من جهة القياس الفاسد ، فإنه قاس المخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرعٍ عام للأمة أو بصفة من صفات الرَّبِّ - تعالى - على خبر الشاهد على قضية معيَّنة ، ويا بُعْدَ ما بينهما ! فإن المخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لو قُدِّر أنه كذبَ عمدًا أو خطأ ، ولم يظهر ما يدل على كذبه ؛ لَزِمَ على ذلك إضلال الخلق ؛ إذ الكلام في الخبر الذي تلقَّته الأمة بالقبول وعملت بموجبه وأثبتت به صفات الرَّبِّ وأفعاله ؛ فإن ما يجب قبوله شرعًا من الأخبار لا يكون باطلًا في نفس الأمر ، لا سيَّما إذا قَبِلَتْه الأمة كلهم ، وهكذا يجب أن يُقال في كل دليل يجب اتباعه شرعًا لا يكون إلا حقًّا ، فيكون مدلوله ثابتًا في نفس الأمر .

هذا فيما يخبَرُ به عن شرع الرَّبِّ - تعالى - وأسمائه وصفاته بخلاف الشهادة المعيَّنة على مشهود عليه معيَّن ؛ فهذه قد لا يكون مقتضاها ثابتًا في نفس الأمر .

وسرُّ المسألة أنه لا يجوز أن يكون الخبر الذي تعبَّدَ الله به الأمة وتعرَّف به إليهم على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - في إثبات أسمائه وصفاته كذبًا وباطلًا في نفس الأمر ؛ فإنه مِن حجج الله على عباده ، وحججُ الله لا تكون كذبًا وباطلًا ، بل لا تكون إلا حقًّا في نفس الأمر ، ولا يجوز أن تتكافأ أدلة الحق والباطل ، ولا يجوز أن يكون الكذب على الله وشرعه ودينه مشتبهًا للوحي الذي أنزله على رسوله وتعبَّدَ به خلقه ، بحيث لا يتميَّز هذا عن هذا ؛ فإن الفرق بين الحق والباطل ، والصدق والكذب ، ووحي الشيطان ووحي المَلَك عن الله أظهر من أن يشتبه أحدهما بالآخر ، أَلَا وقد جعل الله على الحقِّ نورًا كنور الشمس يظهر للبصائر المستنيرة ، وألبس الباطل ظلمةً كظلمة الليل ، وليس بمستنكر أن يشتبه الباطل بالنهار على أعمى البصر ، كما يشتبه الحقُّ بالباطل على أعمى البصيرة .

قال معاذ بن جبل : " تلقَّ الحقَّ ممَّن قاله ؛ فإن على الحقِّ نورًا " ، ولكن لما أظلمت القلوب وعميت البصائر بالإعراض عمَّا جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وازدادت الظلمة باكتفائها بآراء الرجال التبس عليها الحقُّ بالباطل ، فجوَّزت على أحاديثه الصحيحة التي رواها أعدل الأمة وأصدقها أن تكون كذبًا ، وجوَّزت على الأحاديث الباطلة المكذوبة المختلفة التي توافق أهواءها أن تكون صدقًا فاحتجب بها " .

قال : " وإنما المتكلمون أهل ظلم وجهل يقيسون خبر الصِّدِّيق والفاروق وأبي بن كعب بأخبار آحاد الناس ، مع ظهور الفرق المبين بين المخبِرَين ، فمَن أظلم ممَّن سوى بين خبر الواحد من الصحابة وخبر الواحد من أفراد الناس في عدم إفادة العلم ؟ وهذا بمنزلة من سوَّى بينهم في العلم والدين والفضل . فإذا قالوا : أخباره وأحاديثه الصحيحة لا تفيد العلم ؛ فهم مخبرون عن أنفسهم أنهم لم يستفيدوا منها العلم ، فهم صادقون فيما يُخبِرُون به عن أنفسهم ، كاذبون في إخبارهم أنها لا تُفيد العلم لأهل الحديث والسنة " .

قال : " إذ لم يحصل لهم من الطرق التي استفاد بها العلم أهل السنة ما حصل لهم ، فقولهم لم نستفد بها العلم لم يلزم منها النفي العام على ذلك ، وهذا بمنزلة الاستدلال على أن الواجد للشيء العالم به غير واجد له ولا عالم به ؛ فهو كَمَن يجد من نفسه وجعًا أو لذَّةً أو حبًّا أو بغضًا ، فينتصب له من يستدل على أنه غير وجع ولا متألِّم ولا محب ولا مبغض ، ويكثر له من الشُّبه التي غايتها أني لم أجد ما وجدته ، ولو كان حقًّا لَاشتركت أنا وأنت فيه ، وهذا عين الباطل ، وما أحسن ما قيل :

" أقول للَّائم المُهدِي ملامَتَه *** ذُقِ الهوى وإن استطعْتَ الملامَ لُمِ "

... فيقال له : اصرِفْ عنايتك إلى ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - والحرص عليه ، وتتَّبعه واجمَعْه ، والزَمْ معرفة أحوال نَقَلَتِه وسيرتهم ، وأعرض عمَّا سواهم ، واجعله غاية طلبك ونهاية قصدك ، بل احرص عليه حرص أتباع المذاهب على معرفة مذاهب أئمتهم ؛ بحيث حصل لهم العلم الضروري بأنها مذاهب أئمتهم بحيث حصل لهم العلم الضروري بأنها مذاهبهم وأقوالهم ، ولو أنكر ذلك عليهم منكر لسخروا منه ، وحينئذٍ تعلم هل تفيد أخبار رسول - صلى الله عليه وسلم - العلم أو لا تفيده ؟ فأما مع إعراضك عنها وعن طلبها فهي لا تفيدك علمًا ، ولو قلت : لا تفيدك - أيضًا - ظنًّا لَكنت مخبرًا بحصَّتك ونصيبك منها " انتهى .

مواضيع متعلقة