حين يؤلف المؤلفُ كتابه ويدفعه إلى الناشر ؛ فهل له أن يسأله ثمنَ هذا الكتاب ؟ وهل يُعَدُّ من بيع ما يملك أم من بيع ما لا يملك ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
حين يؤلف المؤلفُ كتابه ويدفعه إلى الناشر ؛ فهل له أن يسأله ثمنَ هذا الكتاب ؟ وهل يُعَدُّ من بيع ما يملك أم من بيع ما لا يملك ؟
A-
A=
A+
أبو مالك : طيب ، شيخنا ، الآن يقودنا الحديث هذا إلى سؤال آخر ، وهو أن العلم عندما تحوَّل وقد كان علماؤنا الصالحون السابقون إذا ألَّفَ أحدهم كتابًا ما كان يبحث عن كسب مادي أو نفع دنيوي ، أو أن يصل إلى ذي سلطان أو دينار ليكسب من ماله أو سلطانه ، وإنما كان يؤلف ثم ينشر الناسُ عنه علمَه كما يأخذونه من فيهِ يأخذونه من كتابه .

الآن - أيضًا - شاع بشيوع العلم وكثرة الطباعة وتداولها دخل إلى الطباعة والتأليف والنشر شيء لا بد - أيضًا - من الحديث حوله ؛ وهو أن بعض طلبة العلم بعد أن يؤلف الكتاب ويصفَّ هذا الكتاب ويجهِّزَه إلى الطبع ، وربما لا يكون هناك المُكْنة التي تؤهِّله أن يطبع الكتاب من جيبه الخاص ، فيأتي إلى الطابع أو الناشر ، ثم بعد ذلك - أو صاحب المكتبة يعني - يتفق معه على طباعة كتابه ، ولكنه يسأله أن يعطيه من ثمن هذا الكتاب أو ثمن هذا الكتاب مقدَّمًا قبل أن يصدر الكتاب من تحت يد الطابع أو الناشر أو المكتبة التي تتبنَّى طباعة هذا الكتاب ؛ فيا تُرى هذا التعامل المالي على هذا النحو هل يُعَدُّ من بيع ما يملك أو من بيع ما لا يملك ؟

الشيخ : هو إذا كنَّا أردنا أن نستعمل كلمة البيع ونُورد هذا السؤال ؛ لا شك أن هذا الكتاب هو ملك هذا المؤلف والمصنف ، ولكن هذا الاستعمال للبيع ما أراه يعني سائغًا ؛ على اعتبار أن فيه العلم الذي تحدَّثنا عنه آنفًا الذي دندنَّا حول وجوب أن يكون خالصًا لوجه الله - تبارك وتعالى - ، فإذا ألَّفَ مؤلفٌ ما كتابًا ما في العلم الشرعي وقال : أنا أبيعه بكذا ؛ ففيه ظاهرة أنه لم يكن في تأليفه لهذا الكتاب مخلصَا فيه لوجه الله - تبارك وتعالى - .

لكن هذه المسألة تُشبه تمامًا مسألة أخرى طالما اختلط فيها الصواب بالخطأ أو الخطأ بالصواب عند كثير من طلاب العلم ؛ ألا وهو أخذ الرزق لِنقُلْ ، أو ما يشابه هذه الكلمة : مقابل قيام المسلم بواجب ديني كالتدريس - مثلًا - في الشريعة أو كالإمامة في المسجد أو التأذين أو الخطابة أو نحو ذلك ؛ فهنا يكثر السؤال : هل يجوز أخذ الأجر على هذه الأعمال وهي عبادات محضة تدريس الشريعة ، إمامة الناس ، الأذان في المسجد ؛ إلى آخره ؟

فنحن نجيب في مثل هذه المسألة بما يأتي :

لا يجوز أن يأخذ المسلم أجرًا - وأعني ما أقول - أقول : أجرًا على عمل ديني شرعي ؛ لا يجوز ، لا يجوز للمؤذن أن يأخذ أجرًا على أذانه ، كذلك الإمام ، كذلك المدرِّس ، كذلك الخطيب ، ولكن هل من الضروري أن نربط بين ما يأخذه هؤلاء وبين أن يكون المأخوذ أجرًا ؟ ليس من الضروري الربط بين الأمرين ؛ بمعنى يمكن أن يأخذ الآخذُ شيئًا ما من المال وليس من الضروري أن يكون أجرًا له على عمل له ؛ فقد يكون عطية ، وقد يكون - كما قلنا آنفًا - جُعالة ، وقد يكون هبة ، وقد يكون رزقًا من الدولة على كل مَن كان مسلم كما كان الأمر في عهد عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز ؛ كل شخص له رزق مقسوم ، فهذا الذي يُعطى لهؤلاء الموظفين الذين سمَّيناهم آنفًا من الإمام والمؤذن والخطيب والمعلم ليس من الضروري أن نعتبره أجرًا ؛ ذلك لأن الأجر هو الذي يستحقُّه الإنسان حقًّا شرعيًّا مقابل عمل له ، لكن هذا العمل إذا كان عملًا دنيويًّا فهو حقُّه له أن يطالب به مَن حاول منعَه إياه ، أما إذا قام بعمل شرعي هو عبادة فلا ينبغي أن يكون طالبًا أجرًا على هذه العبادة ؛ لِمَا ذكرنا آنفًا من الآيات والأحاديث ، وباختصار (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )) .

ومن أجل ذلك لما بعث النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عثمان بن أبي العاص الثقفي إلى قبيلة ثقيف إمامًا قال له - عليه الصلاة والسلام - : ( أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم ، واتَّخذ مؤذِّنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا ) ، ( اتَّخذ مؤذِّنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا ) ، معنى هذا اتخذ مؤذِّنًا يؤذن لله - عز وجل - وليس للمال ، هذا المؤذن إخلاصه بينه وبين ربِّه ، فكل مَن أذَّن يبتغي ثواب المؤذنين يوم القيامة كما أشار إلى ذلك - عليه السلام - في قوله : ( المؤذنون أطول الناس أعناقًا ) ... في أذانه ، ثم جاءه رزقٌ من إمامه كالحاكم مثلًا ، أو من بعض أهل الخير وهو لا يبتغي بأذانه ذلك الأجر ؛ فهذا يأخذه حلالًا زلالًا كما يقال .

على ذلك نقيس كلَّ العبادات ، ومنها ما كنا نحن في صدده آنفًا ؛ ألا وهو التأليف .

لقد اختلف علماء السلف في مسألة ، وفي ظنِّي ما كان ينبغي أن يقع في ذلك اختلاف ، ولكن طبيعة البشر أوَّلًا ، ثم الأمر يدل على أهمية الإخلاص في موضوع العبادة ثانيًا ؛ اختلف السلف في أخذ الأجر على كتابة المصحف ، فمنهم مَن أجاز ومنهم مَن لم يُجِزْ ، والذي لم يُجِزْ ملحظه هو أن كتابة المصحف عبادة ، لكن هذه الكتابة في ظنِّي هي وسيلة ليست في ذاتها عبادة أوَّلًا ، وثانيًا لها شَبَه ببعض ما جرى في الزمن الأول مما يتعلق في التفصيل الذي ذكرته آنفًا ، وأضرب من ما وقع في السلف الأول :

أوَّلًا : الخليفة الأول الخليفة الراشد أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - حينما وُلِّيَ الخلافة جعلوا له رزقًا ، هذا الجَعل من الرزق له ليس أجرًا بقيامه بواجب إدارة شؤون الدولة المسلمة ، وهو - لا سمح الله - لو أخذها أجرًا كان معصية ، وحاشاه أن يفعل ذلك ، لكنه أخَذَه تعويضًا ؛ وبدليل أنه - رضي الله تعالى عنه - وهذا من تمام علمه وفقهه أنه لم يتورَّع أن يقول لهم بعد أيام من اعتياده على هذا الرزق أن يقول لهم : هذا لا يكفيني ، فزادوه ؛ لأنه هو بحاجة ، وإلا بدو يضطر أن ينصرف عن خدمة المسلمين بخلافته إلى تعاطيه أسباب تحصيل رزقه ؛ فزادوه ، هذا كمثال خاص بهذا الخليفة الراشد .

ثم جرت سنة الخلفاء جميعًا حينما وظَّفوا قاضيًا أو وظَّفوا مفتيًا أن جعلوا لكلٍّ من هؤلاء رزقًا ؛ هذا ليس أجرًا ، وإنما هو رزق ، ولنسمِّه اليوم بالتعويض .

إذا تبيَّن هذا التفصيل وهو أوَّلًا التفريق بين النية التي يُؤخذ هذا المال كأجر أو كرزق أو تعويض أو ما شابه ذلك ؛ لأن مسألة النية كما لا يخفى على الجميع العمل واحد وبالنية يختلف من كونه حرامًا أو حلالًا ، وهذا معروف من أدلة كثيرة من أشهرها قوله - عليه السلام - : ( وفي بُضْع أحدكم صدقة ) . قالوا : يا رسول الله ، أيأتي أحدُنا شهوتَه وله عليها أجر ؟! قال : ( أرأيت إن وَضَعَها في الحرام أليس عليه وزر ؟! ) . قالوا : بلى يا رسول الله . قال : ( فكذلك إذا وَضَعَها في الحلال كذلك له عليها أجر ) .

إذًا هذه شهوة قضاها وأُجِرَ عليها ثوابًا حسنًا ، وتلك شهوة قضاها وأُجِرَ عليها وزرًا وسيِّئة ؛ إلى آخره . فإذًا هنا يمكن أن نقتبس قوله - عليه السلام - : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى ) .

نعود إلى موضوع الكتب ؛ ينبغي كل كاتب أو ينبغي على كل كاتب أو على كل مؤلف أن يراقب نفسه حينما يكتب ويؤلف رسالةً أو كتابًا أو مجلدات ، ماذا يبتغي من وراء ذلك ؟ يبتغي عرض الحياة الدنيا فهو وشأن أحد الثلاثة الذين ذكروا تمامًا ، لا ؛ هو يبتغي .

نعم ؟

أبو مالك : قد وُفِّيَ أجره .

الشيخ : نعم ، قد ، شو قال الحديث ؟ ( وقد قيل ) ، أنت قصدت أن يقال عنك عالم ( وقد قيل ) ! إلى آخره ؛ لا ، هو قصد إفادة الناس ولا عليه بعد ذلك هذه الرسالة طُبِعت ولَّا لم تُطبع ، عُوِّض أو لم يُعوَّض ؛ فهذه أمور تتعلق بالقلوب ، لكن هذه الكتابة وهذه الجهود التي تُبذل ؛ هذه كما قلنا بالنسبة لكتابة المصاحف ، وهذا طبعًا يمكن أن نتوسَّع من كتابة المصاحف إلى طباعة المصاحف ؛ فهل نقول أنُّو لا يجوز للطابع أن يطبع المصحف إلا لله - عز وجل - ، وقد جاء بالآلات وجاء بالموظَّفين وما شابه ذلك ؟! نقول هنا : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكلٍّ ما نوى ) .

هذا أظن ما عندي جوابًا عن هذا السؤال ، ولعلَّنا نقتصر ، وبدأ السعال يعمل عمله !

أبو مالك : أنت مأجور - إن شاء الله - بنيَّتك يا شيخ .

الشيخ : إن شاء الله [ الشَّيخ يضحك ! ] .

سائل آخر : مع صحة الجسد .

الشيخ : إن شاء الله .

أبو مالك : سؤال باقي الحقيقة سؤال وهو سؤال مهم ... الحديث عن دور النشر والطابعين والمؤلفين ، فهذه فيما أخبَرَني أحد إخواننا القادمين من الرياض أن دارًا من دور النشر اتفقت مع كاتب مع مؤلف على شراء الكتاب ، واشتُرِيَ هذا الكتاب .

طبعًا عفوكم - شيخنا - قبل هذا السؤال نحن ما انتهينا إلى يعني ما كان بصراحة في هل هذا التعامل بشراء الكتاب قبل أن يُبدأ بتوزيعه ، وهو لا زال على الأوراق عنده ، وأُعطِيَ يعني صار عقد بيع وشراء ؛ إذًا نحن نقول : هذا العقد الذي نسمِّيه عقد البيع والشراء على هذا النحو لا ينبغي أن يكون ؟

الشيخ : لا ، أنا قلت آنفًا بأن هذا إذا سمَّيناه بيعًا فهو يبيع ما يملك ، لكن من ناحية الإخلاص لله - عز وجل - ما ينبغي أوَّلًا أن يُدخل في مسمَّى البيع ، وثانيًا : ما ينبغي أن يستعجل هذه العجلة .

أبو مالك : أيوا ، هذا هو ... .

الشيخ : نعم .

مواضيع متعلقة