ما هي الغاية من التأليف العلمي بوجهٍ خاص ، ومن العلم بوجهٍ عام ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
ما هي الغاية من التأليف العلمي بوجهٍ خاص ، ومن العلم بوجهٍ عام ؟
A-
A=
A+
أبو مالك : فالسؤال الأول - شيخنا - بارك الله فيكم : هل ، أو نريد أن نبيِّن الغاية من التأليف العلمي ؟ نريد أن تبيِّن لنا الغاية من التأليف بوجهٍ خاصٍّ ، ومن العلم على وجهٍ عامٍّ ، وجزاكم الله خيرًا . هذا السؤال أو هذا ما نريده أوَّلًا ؟

الشيخ : إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله ، أما بعد :

فإنَّ خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .

لا شك أن ما أشرت إليه ظاهرةٌ رهيبةٌ جدًّا في عصرنا الحاضر ، وهو ما أشار إليه ما ذكرتَه من حديث الرسول - عليه السلام - أنه قال : ( لا تقوم الساعة حتى يفشُوَ القلم ) ؛ فالحقيقة فشوُّ القلم اليوم يمكن التعبير عنه بلغة العصر الحاضر بمحو الأمية ، وهذه ظاهرة في العصر الحاضر غريبة جدًّا ، وتدل على أن هذا العصر يمشي في طريق الوفاق وحبِّ الظهور وعدم إصلاح النفوس ؛ ذلك لأن القضاء على الأمِّيَّة التي انتشرت من قبل بحرص شديد جدًّا في البلاد الكافرة ، ثم وصلت إلينا تقليدًا منَّا لهم لم يكن مقصودًا به ما يُقصد عادةً من تعلُّم العلم والوسيلة التي تؤدي إلى هذا العلم ؛ ألا وهي الكتابة .

لا شك أن تحصيل العلم وإن كان مِن مزايا الأمة العربية الأولى التي بُعِثَ فيها نبيُّنا الأمي العربي كان من مزيَّتها أنها كانت أمةً أمِّيَّةً لا تكتب كما قال - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح من رواية البخاري ومسلم عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( نحن أمَّة أمِّيَّة لا نكتب ولا نحسب ؛ الشهر هكذا وهكذا وهكذا ، والشهر هكذا وهكذا وهكذا ) ؛ يعني أن الشهر قد يكون ثلاثين ، وقد يكون تسعًا وعشرين .

الشاهد أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخبَرَ عن واقع الأمة العربية أنها كانت تغلب عليها الأمية ، وهذا لا ينفي أن يكون فيها أفراد قليلون جدًّا كانوا يحسنون القراءة والكتابة ، ومنهم عديُّ بن حاتم الطائي الذي ساعَدَتْه معرفته بالكتابة أنه قرأ التوراة والإنجيل ، ووجد فيهما من العلم ما يعرفه العرب في جاهليَّتهم ؛ لأنها أمة لا شريعة عندها ولا ثقافة عندها ؛ ولذلك كانت معرفته بالقراءة والكتابة سببًا لأن يتبنَّى النصرانية ، وقصَّته في إسلامه وإيمانه بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - معروفة .

الشاهد : أنه وإن كان من معجزات الرسول - عليه السلام - أنه أمِّي ، ومن تمام هذه المعجزة أن قومه الذين بُعِثَ فيهم كانوا أمة أمِّيِّين ، لكن هذا لا يعني أن الإسلام لا يحضُّ على الكتابة التي هي وسيلة من وسائل طلب العلم ؛ كيف والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وصلَ به اهتمامه بأن تتعلَّم أمَّتُه الكتابة كوسيلة للتعلم أن قال ذات يوم لـ " الشفاء " من الصحابيات الفاضلات قال لها ذات يوم - عليه الصلاة والسلام - وهو يشير إلى زوجته حفصة : ( ألا علَّمتيها الكتابة كما علَّمتيها رقيةَ النملة ؟! ) ، فحضَّها - عليه الصلاة والسلام - على أن تعلِّمَ زوجتَه - عليه السلام - الكتابة كما علَّمَها رقيةً من الرقى .

...

وفي خطبة جاءت في " صحيح البخاري " من حديث ابن عباس فيما أظن الآن أنه - عليه السلام - خَطَبَ خطبة يتعلق بأشهر الحج ، وفي القوم مَن يسمَّى أو يُكنى بأبي شاه ، فقال طالبًا منه - عليه السلام - أن تُكتَبَ له هذه الخطبة ، فقال - عليه السلام - : ( اكتبوا لأبي شاه ) .

وهكذا كان في الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - بعض الكَتَبَة الذين كانوا يجلسون حول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يتلقَّون العلمَ عنه كتابةً وحفظًا ، أما عامة الصحابة كانوا يتلقَّون العلم حفظًا ، أما بعضهم فكانوا يتلقَّون العلم منه - عليه السلام - حفظًا وكتابةً ، ومن هؤلاء عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنهما - ، وهو المعروف بأن له صحيفةً صحيفة مكتوبةً يرويها عنه بعض أبنائه وأحفاده ؛ وهي التي تُعرف عند المحدثين بصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، والجدُّ المقصود هنا هو عبد الله بن عمرو بن العاص ، له صحيفة توارثوها عنه وهي مكتوبة ؛ ذلك لأنه كان من أولئك الأصحاب الذين يحسنون القراءة والكتابة ، قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، إذ سأله سائل ونحن نكتب ، جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نكتب .

أبو مالك : هنا الشاهد .

الشيخ : إي نعم ، هنا الشاهد .

إذ سأله سائل فقال : يا رسول الله ، أقسطنطينية نفتحها أوَّلًا أم روميَّة ؟ قال : ( لا ، بل قسطنطينية ) . هذا الحديث تلقَّاه ابن عمرو - رضي الله تعالى عنه - من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يكتب الحديث عنه .

والمقصود أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما حضَّ أمَّته على العلم فضلًا عن الآيات الكريمة المعروفة بكتاب الله - عز وجل - فهو بالإضافة إلى حضِّه على العلم حضَّ على تعلُّم الوسيلة التي يُحصَّل بها العلم ؛ ألا وهي الكتابة . ولعله مما يناسب المقام ذكرُه أن نذكِّر الحاضرين بحديث في ثبوته خلاف عند أئمة الحديث ، لكنه قد ثبت لديَّ بمجموع طرقه وله صلة وُثقى بما أنا الآن في صدده ؛ ألا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( قيِّدوا العلمَ بالكتاب ) ، مصدر الكتاب الكتابة شيء واحد ، ( قيِّدوا العلم بالكتابة ) ؛ ذلك لأن الحافظة مهما كانت قويَّةً فقد ينسى ، وقد تضعف الذاكرة ، أما الكتابة فتبقى إلى ما شاء الله ، وهذا أمر لا يحتاج إلى بيان وتوضيح .

سائل آخر : الكتابة ... .

الشيخ : نعم ؟

أبو مالك : الكتابة ... .

الشيخ : أيوا .

سائل آخر : ثبت عندك ... شيخنا ؟

الشيخ : نعم ؟

سائل آخر : ثبت هذا الحديث عندك ؟

الشيخ : هذا الذي قلته ، وهذا الذي رميتُ إليه في تبسيطي المذكور آنفًا .

المقصود إذا كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد حضَّ على تعلم الكتابة حضَّ النساء كما ذكرنا آنفًا فضلًا عن الرجال ، وما ذلك إلا لأنه وسيلة لتحصيل العلم .

لكن يجب أن نذكُر بمثل هذه المناسبة أن الكتابة إذا كانت وسيلةً للعلم ؛ فالعلم - أيضًا - هو وسيلة كالكتابة ، وليس دائمًا مقصودًا لذاته ، وإنما للعمل به ، وإذا كانت هذه حقيقةً معروفةً لدى كافة علماء المسلمين أن العلم وسيلة وليس غاية ؛ وذلك لأنه من المتفق عليه بين علماء المسلمين أن العلم الذي لا يعمل به صاحبه يكون وبالًا عليه يوم القيامة ، وقد يكون الجاهل الذي ليس بالعالم خيرًا منه أو أسلم عقيدةً منه ؛ هذا عالمٌ لم يعمل بعلمه ، وهذا ليس بعالم ؛ ولذلك جاء في بعض الآثار - أقول في بعض الآثار - الموقوفة : ( ويلٌ للجاهل مرَّة ، وويلٌ للعالم سبع مرَّات ) ، ويشهد لهذا أحاديث فضلًا عن الآيات ، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ )) .

ومن الأحاديث الخطيرة في هذا المجال ما أخرَجَه الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنه كان في مجلس لمعاوية أيام خلافته - رضي الله تعالى عنه - فطلب منه معاوية أو أحد الحاضرين أن يحدِّثَهم بأحاديث الثلاثة العالم والمجاهد والغني ، فتهيَّأ أبو هريرة ليحدِّث بهذا الحديث .

سائل آخر : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الشيخ : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .

نعود إلى حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - ؛ وهو في مجلس معاوية - رضي الله تعالى عنه - إنما طلب هو أو غيره من أبي هريرة أن يحدِّثَهم بحديث أول مَن تُسعَر بهم النار يوم القيامة ، فتهيَّأ أبو هريرة لِيُحدِّثهم بهذا الحديث ، ولكنَّه لم يتمالك نفسه ، فبكى بكاءً شديدًا حينما استحضر هولَ الحديث ورهبتَه ، ثم أفاق ، ثم غُشِي عليه ، وهكذا ثلاث مرات ، ثم تكلَّف التحديث فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( أول مَن تُسعَر بهم النار يوم القيامة ثلاثة : عالم ومجاهد وغني ، يُؤتى بالعالم فيقال له : ماذا عملْتَ فيما علمْتَ ؟ فيقول : يا ربِّ ، نشرتُه في سبيلك . فيقال له : كذبتَ ؛ إنما فعلتَ ليقول الناس : فلان عالم ، وقد قيل ؛ خذوا به إلى النار ، فيلقى في النار . ثم يُؤتى بالمجاهد فيقال له : ماذا عملْتَ فيما أنعمْتُ عليك من قوَّة ؟ فيقول : يا ربِّ ، قاتلْتُ في سبيلك ؛ فيقال له : كذبتَ ، إنما قاتلت ليقول الناس : فلان شجاع ، وقد قيل ؛ خذوا به إلى النار . ثم يُؤتى بالغني فيقال له : ماذا فعلْتَ بما أنعمْتُ عليك من مال ؟ فيقول : يا ربِّ ، أنفقتُه في سبيلك ، فيقال له : كذبت ، إنما أنفقت ليقول الناس : فلان كريم ، وقد قيل ؛ خذوا به إلى النار ) . قال أبو هريرة : فهؤلاء أول مَن تُسعَر بهم النار يوم القيامة .

الشاهد من هذا الحديث هو العالم الذي كان المفروض فيه أن يتحقَّق عليه قوله - تبارك وتعالى - : "" يرفعُ "" (( اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )) ، فكان هذا العالم .

نعم ؟

أبو مالك : لعلها بالجزم (( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ )) .

الشيخ : (( يَرْفَعِ )) ؟

أبو مالك : (( يَرْفَعِ )) .

الشيخ : شو اللي جزمها ؟

أبو مالك : ... (( إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا )) .

الشيخ : آ ، جواب شرط .

أبو مالك : جواب شرط ، نعم .

الشيخ : آ ، (( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )) ، المفروض أن يكون هذا في أعلى الدرجات ، وإذا هو في النار ؛ ما هو السبب ؟ هو أنه لم يعمَلْ بعلمه ، ماذا يقول له العلم ؟ قال - تعالى - : (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )) ، ولا شك أننا عرفنا ممَّا سبق أن العلم هو من الدين ، لكن يكون من الدين إذا أخلص لله فيه ، فحينما ابتغى به وجه غير الله عُذِّب عليه ، ولم يكن في الدرجات العليا في الجنان .

وهكذا جاءت أحاديث كثيرة وكثيرة جدًّا تؤكِّد وجوب إخلاص المسلم في كل شيء من الطاعات والعبادات لله ، فقال - عليه الصلاة والسلام - في حديث أبيِّ بن كعب - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( بشِّرْ هذه الأمة بالرفعة والسَّناء والتمكين في الأرض ، ومَن عَمِلَ منهم عملًا للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب ) .

لهذا إذا عُرِفَ أن الكتابة وسيلة للعلم ، وأن العلم وسيلة للعمل كان العلم والكتابة الموصلة إليه نعمة ووسيلة مشروعة ، وإلا إذا ترتَّب من وراء الكتابة والعلم الإعراض عن ما يقتضيه العلم النافع من العمل الصالح كان هذا العلم وَبَالًا على صاحبه . إذا عرفنا هذه الحقيقة حينئذٍ يتبيَّن لنا أن ما جاء في الحديث السابق ذكرُه في السؤال وفي الجواب أيضًا ؛ وهو أن مِن علامات الساعة فشو العلم فشو القلم فليس يعني ذلك أن القلم والكتابة المَكْني عنها بالقلم هي نعمة مطلقًا ، وإنما هي نعمة مقيَّدة بما إذا أوصلت صاحبَ القلم إلى العلم النافع واقترن مع هذا العلم العمل الصالح ؛ كان حين ذاك نعمةً ، وإلا كان نقمةً ؛ بدليل ما ذكرنا من الآيات والأحاديث .

وقد أكد هذا حديث ينبغي أن يُذكر مع حديث فشوِّ القلم وهو أن في بعض الروايات وفي " صحيح البخاري " فيما أذكر - أيضًا - أن الساعة لا تقوم حتى يفشو الجهل ؛ فإذًا لا يعني فشو القلم فشو العلم والعلم النافع ؛ فقد يقترن معه جهل ، وهذا هو - مع الأسف - ما نشاهده اليوم ، وهذا الكلام يُوجب عليَّ أن أُلفِتَ النظر إلى هذا العلم الذي نتحدث عنه ، ما هو هذا العلم ؟ لا شك أن العلم كما قال ذلك العالم السلفي ألا وهو الإمام " ابن قيم الجوزية " - رحمه الله - في شعره المأثور :

العلمُ قال الله قال رسولُهُ *** قال الصحابة ليس بالتمويهِ

إلى آخر ما قال ، فالعلم النافع هو ما كان مستنبطًا من كتاب الله ومن حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وعلى ما كان عليه سلفنا الصالح ، فإذا تعلَّم المتعلِّم الكتابة ، وصار بارعًا في الكتابة ، وقصد بذلك الوصول إلى هذا العلم النافع كان بلا شك مأجورًا على ذلك أجرًا كبيرًا ، ويكون أثر علمه ثوابه واصلًا إليه ما دام علمه لا يزال الناس ينتفعون به ، كما هو معلوم من حديث أبي هريرة أيضًا - رضي الله تعالى عنه - في " صحيح مسلم " قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( إذا مات الإنسان ) وفي رواية : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم يُنتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) ، فإذا كانت الكتابة استُعمِلَت في سبيل هذا العلم النافع ، ولا يكون نافعًا كما سبق بيانه إلا إذا كان كاتبُه مخلصًا فيه لله - عز وجل - .

وما أُشِيرَ إليه في السؤال من تكاثر الرسائل والكتابات والنشرات في هذا العصر الحاضر هو - مع الأسف الشديد - آية من آيات المعجزات العلمية التي يتحدث عنها الرسول - عليه السلام - ، وبخاصَّة حديث فشو القلم ؛ ذلك لأن هذه الرسائل يبدو عليها واضحًا جليًّا أن أكثر القائمين عليها هم أوَّلًا ليسوا من العلماء الذين ينبغي لهم أن يكتبوا في هذه المواضيع التي يتعرَّضون للكتابة فيها ، وإنما أكثرهم ينقلون نقلًا عن غيرهم ممَّن سلف أو خلف ، يريدون من ذلك أن يُحشر اسمهم في زمرة المؤلفين ، وهم ليسوا أهلًا للتأليف ؛ بل هم في الواقع حينما نرى كتاباتهم ونرى أبحاثهم تتذكَّر قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي أخرجه البخاري ومسلم في " صحيحيهما " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( إنَّ الله لا ينتزع العلم من صدور العلماء ، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا ، فسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ ؛ فضلُّوا وأضلُّوا ) .

ولا ينبغي بهذه المناسبة أن نقف عند حرفية هذا الحديث الذي يقول فيه - عليه السلام - : ( فأفتوا بغير علم ؛ فضلُّوا وأضلُّوا ) ؛ ذلك لأننا إذا لاحظنا الغاية المقصودة من هذا الحديث وهي أن يُفتي المفتي بغير علم وهو الكتاب المُستنبط من الكتاب والسنة فلا فرق حين ذاك بين مَن يفتي بغير علم أو يكتب بغير علم ، فهُمَا في النتيجة سواء ؛ بل أنا أعتقد أن هؤلاء الذين يكتبون في غير علم ضلالهم في ذوات أنفسهم وإضلالهم الواصل إلى غيرهم أشد تأثيرًا من فتوى المفتي ؛ ذلك لأن المفتي في كثير من الأحيان قد لا تتجاوز دائرة فتواه الشخص المفتي في أغلب الأحيان ، وإن تجاوزت فإلى أفراد قليلين ، أما الكتابة فهي تمضي وتبقى بعد وفاة الكاتب ما شاء الله من سنين ؛ إن خيرًا فخير ، أو شرًّا فشر .

لذلك نحن في الواقع ننصح كلَّ مَن يريد أن يتكلم ألَّا يتكلم إلا بعلمٍ ؛ مذكِّرًا ومتذكِّرًا بأن هذا العلم الذي ينبغي أن يتكلم فيه هو إذا كان هو قد استند إلى كتاب الله أو إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وأما إن لم يكن مِن هؤلاء العلماء حقًّا فهنا نحن نذكِّر طلاب العلم سواء مَن كان منهم يكتب أو يعظ أو يعلِّم أن لا يحرِّم وأن لا يحلِّل بكلامٍ يفهم السامع منه أن هذه الفتوى هي صادرة منه ، والحقيقة أنه قرأها في كتاب أو سَمِعَها من فَهْم عالم من العلماء ؛ فهؤلاء الكاتبون أو هؤلاء العالمون عليهم ألَّا يتكلَّموا في مسألة إلا بحالة من حالتين ؛ أن يكونوا مجتهدين وهذا بعيد عن أكثر الكاتبين اليوم ، وإما أن يكونوا ناقلين ، وفي هذه الحالة عليهم سواء أفتوا أو كتبوا أن ينسبوا القول إلى قائله حتى ترتفع المسؤولية عن المفتي أو الكاتب أوَّلًا ، ثم لِكي لا ينسب إلى نفسه ما ليس له ، فيدخل في عموم قوله - عليه السلام - : ( مَن تشبَّع بما لم يُعطَ فَهُو كلابس ثوبي زور ) ، ( مَن تشبَّع بما لم يُعطَ ) أي : تظاهر بما ليس له وإنما هو لغيره ( فهو كلابس ثوبي زور ) .

أبو مالك : هذا الحديث - شيخنا - لو سمحتم ( كلابس ثوبي زور ) لماذا لم يكن كلابس ثوب زور واحد ؟ لأن هذا السؤال يُسأل .

الشيخ : هو ما أدري إذا كان تقصد شيئًا ما فهمتُه ، لكن معروف لدى العرب أن إزار ورداء فهو مبالغة أن الزور يشمله من قمة رأسه إلى أخمص قدمه ؛ هذا هو المقصود .

فالشاهد فالرسول يقول : ( مَن تشبَّع بما لم يُعْطَ فهو كلابس ثوبي زور ) ؛ لذلك يقول العلماء : " مِن بركة العلم عزوُ كلِّ قولٍ إلى قائله " ، وهذا في الواقع من البلاء الذي أُصِيبَ به الشباب المعاصر اليوم ؛ وبخاصة الكُتَّاب منهم ؛ حيث أنهم يستندون فيما يكتبون على جهود وأقوال غيرهم ، ثم هم لا يُفصِحُون عن هذه الحقيقة ، بل يُوهمون الناس أن هذا من كدِّهم ومن جهدهم ومن تعبهم .

خلاص الكلام في هذا البيان أن نقول : أن الكتابة إذا كانت اليوم فاشية فهي معجزة من معجزات الرسول - عليه السلام - التي أخبر عنها بقوله : ( ويفشو القلم ) ، وثانيًا : أن هذه الكتابة التي انتشرت في العالم اليوم بالنسبة لِمَا كان عليه العالم من قبل ؛ حيث كان يغلب عليه الأمية ؛ فالآن تكاد هذه الأمية تُمحى من على وجه الأرض ، وبعض الدول تتفاخر - وهذا من بلاء هذه الثقافة المنتشرة - ؛ تتفاخر بأن نسبة الأمية نزلت إلى بالمئة خمسة عشرة عشرين إلى آخره ، هذا ليس فيه ما ينبغي أن يفتخر فيه الإنسان ؛ لأننا نرى اليوم - مع الأسف الشديد ، وهذا نعرفه جميعًا - أن كثيرًا من المتخرجين من الجامعات لا يحسنون قراءة كتاب الله - عز وجل - ، فما فائدة هذه الأمية التي مُحِيَت ووصلوا إلى مرتبة دكتوراة وهم لا يحسنون قراءة كتاب الله - عز وجل - ؟!

إذًا فشو القلم في حدِّ ذاته ليس مدحًا ، لكن هو من حيث الواقع هو ذم ؛ لأنه كما بيَّنَّا آنفًا هو وسيلة لتحصيل العلم والعلم الشرعي النافع ، بينما الواقع اليوم إن هذا المحو للأمية اتُّخِذَ وسيلةً للعلوم المادية العصرية التي تفيد العالم بها دُنيا ، ولا يفيده علمًا في الشرع ، وهذا من آثاره انصراف هؤلاء الطلاب عن دراسة الشريعة في أكثر الجامعات المعروفة اليوم إلى دراسة العلوم الأخرى ؛ ذلك لأن دراسة الشريعة في الغالب لا تقدِّم إليهم فائدة مادية عاجلة ، بخلاف دراستهم للعلوم الأخرى !

فإذًا الكتابة وسيلة ... .

...

... العلم النافع ، فوصلت إلى العلم النافع ، لكن هذا العلم النافع ما كان من ثمرته العمل الصالح ؛ لا شك أن هذه الكتابة تكون وَبَالًا على صاحبها كما كان شأن ذلك العالم الذي كان مصيره أن أُلقِيَ في النار ؛ ذلك لأنه مع كونه كان عالمًا لم يكن مخلصًا فيه لله - عز وجل - فأُلقِيَ في النار وبئس القرار .

هذا ما يحضرني جوابًا عن هذا السؤال .

مواضيع متعلقة