تتمة شرح الحديث السابق رقم ( 293 ) : ( حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ... فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ ) . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
تتمة شرح الحديث السابق رقم ( 293 ) : ( حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ... فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ ) .
A-
A=
A+
الشيخ : ... وإلَّا أنه كان رجلًا يخالط الناس ، شو معنى يخالط الناس ؟ يعني لا يعتزلهم ، وإنما كما هو يقول اليوم إنسان اجتماعي ، ما هو منعزل ولا هو منزوي عن الناس ، إنما هو يُخالطهم ويعاملهم كما قال - عليه الصلاة والسلام - في حديث صحيح يبيِّن فيه قضية المؤمن الذي يُخالط الناس ولكن بالخير ، وإذا أُوذِيَ منهم لم يُؤذِهِم ، وإنما تحمَّل أذاهم ، قال - عليه الصلاة والسلام - : ( المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يُخالطهم ولا يصبر على أذاهم ) ، فالمؤمن الذي يُخالط على الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم يعتزلهم إما في داره أو في زاوية أو حتى في المسجد ؛ لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ؛ هذا بلا شك بسبب إيمانه فيه خير ، ولكن ذاك الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من هذا المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم . فهذا الرجل الذي كان قبل الأمة المحمَّدية ، وحُوسب فلم يوجد في صحيفته شيء من الخير سوى الإيمان كان له - يقول الرسول عليه السلام في هذا الحديث - كان له خصلة واحدة فقط ؛ ألا وهي أنه كان يخالط الناس ويعاملهم ، وبسبب هذه المعاملة كان قد اكتسب مالًا حتَّى صار رجلًا مُثريًا موسرًا ، وصار عنده خزن للمال ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( فكان يأمرُ غلمانه أن يتجاوزوا عن المُعسر ) .

هذا الرجل بسبب هذه المخالطة والمعاملة مع الناس بالأخذ والعطاء بالتجارة والربح صار من كبار الأغنياء ، وصار تاجرًا له إمَّا خدم بالأجرة وإما غلمان عبيد ، كان الرِّقاق العبيد كانت عادة قديمة حتى في عهد النبي - عليه الصلاة والسلام - ، وهذا أمر مشروع ، لكن له شروطه المعروفة في كتب الحديث وكتب السنة ، ولست الآن في صدد بيان شيء من هذه الشروط على الأقل . المهم أنَّ هذا الرجل صار بسبب المخالطة رجلًا مُوسرًا غنيًّا ، وصار له غلمان خَدَم يُحاسبون الناس ، فكان يأمر غلمانه بأنهم إذا حاسبوا رجلًا من زبائنه ألَّا يُؤاخذهم وألَّا يشتدَّ بالمطالبة عليه ، بل يأمرهم أن يتجاوزوا وأن يصفحوا ؛ معك توفِّي ما عليك من الذِّمَّة فَبِهَا ، ما عليك الله يصفح عنك ، ما بدي منك شي .

فالله - تبارك وتعالى - الذي هو أكرم الأكرمين وأرحم الأرحمين عامل هذا الإنسان من جنس العمل الذي كان هو نفسه يُعامل بني الإنسان ، كان هو يتجاوز ويعفو ويصفح عن العاجز عن الوفاء بما عليه من دين أو ذمَّة ؛ فكان هذا الرجل الغني الموسر يتجاوز ويصفح عنه ، فقال الله - عز وجل - لملائكته يوم حاسَبَه - عز وجل - ولم يجد في صحيفته خيرًا كما ذكرنا إلا هذا التجاوز عن زبائنه ، وعن المدينين له ؛ فقال الله - عز وجل - لملائكته : ( نحن أحقُّ بذلك منه ) ، إن كان هو يتجاوز عن عبادي وهو عبد من عبيدي ؛ فأنا أحقُّ بالتجاوز عنه ، تجاوزوا عنه ، فغفر الله - عز وجل - لهذا الإنسان المُوسر وتجاوز عن كلِّ سيئاته ؛ لماذا ؟ لأنه تجاوز عن أصحابه وعن زبائنه الذين لم يستطيعوا أن يبرِّئوا ذمَّتهم أمامه ، فالله - عز وجل - قابَلَ هذا الإنسان بنوع عمله مع أنَّ تجاوز الله ومغفرته - تبارك وتعالى - لا مثل لها ؛ لأن هذا الإنسان الذي يتجاوز إنما هو يتخلَّق بجزء ضئيل ضئيل جدًّا لا يمكن المشابهة بين هذه الصفة وبين صفة ربِّ العالمين في المغفرة ، فهو تخلَّق بشيء من أخلاق الله - عز وجل - ؛ وهو التجاوز عن المقصِّر ، التجاوز عن المخطئ ، فلما عَلِمَ الله - عز وجل - من هذا الإنسان أنه كان يتجاوز عن الناس الذين يقصِّرون معه ؛ فالله - عز وجل - تجاوز عن تقصيره معه ؛ وهذا كما قال - عز وجل - في القرآن الكريم : (( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ )) ، بل ربُّ العالمين يُجازي بخير مما يستحقُّه الإنسان ؛ لأنه كما قال : (( ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ )) .

مواضيع متعلقة