هذا كلامٌ لا يُشتغل به ولا يُلتفت إليه، والحجج التي ذكرها المعترض ضعيفةٌ مهلهلة لا تدل على مطلوبه، فمن ذلك:
١) «لأنّ الألباني يصحح الحديث مرة، ومرة يضعفه».
وعلى التسليم بما قال، وهو مسلّم له بالجملة، لكن لا يُسلّم له بأنه فعله في كثير من المواضع؛ لأن الكثرة والقلة نسبية، تُقدّر بالنسبة إلى كثرة أحكام الناقد وقلته، والألباني رحمه الله مكثر من الأحكام النقدية، فهو عرضة للخطأ أكثر من غيره، فتُحتمل منه الأوهام والتراجعات وتغيُّر الاجتهاد كما يُحتمل من الحافظ المكثر الذي يحفظ ثلاثين ألف حديث أن يخطئ في مئة أو أكثر منها، في حين أن الخطأ في هذا العدد من المقل يضرُّه بل ربما يُسقطه!
قلت: على التسليم بما قال، فإن تغيُّر أحكام الناقد ليس دليلًا على سقوط أحكامه النقدية إلا عند من لا يفهم هذا الشأن ولم يمارس أحكام نقاد الحديث؛ لأن تغيُّر اجتهاد الناقد، سواء في الحكم على الأخبار أو في الحكم على الرواة، أمرٌ طبيعي، وخلافه هو المستغرَب بل الشاذ، وهذا يُعد عندهم من البدهيات، حتى إنهم يقررونه للمبتدئين في المتون الأولية، كما قال الذهبي في الموقظة: «بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده، في الحديث الواحد، فيومًا يصفه بالصحة، ويومًا يصفه بالحسن، ولربما استضعفه». فلو كان تغيُّر اجتهاد الناقد، في حدود ما يُحتمل، مستلزمًا لفقد الثقة بأحكامه؛ لما سلم لنا أحد من نقاد الحديث!
٢) «لأن أسلوب كلامه غير مرضي، ففي كلامه إساءة أدب في حق السلف، فلا اعتبار له».
قلت: هذا كلام إنشائي لا طائل تحته، وفيه إجمال، فلم يوضح مقصوده بالسلف، ومعنى إساءة الأدب إليهم. فإن كان يقصد مخالفته مَن قبله، أو شدّته على من خالفه ممن تقدّمه، فهذا كثير في أحكام نقاد الحديث ولم يختص به الألباني. ثم لو سُلم له بذلك، فهذا لا يتنافى مع حجية أحكامه النقدية؛ لأن مدار الأمر على الأهلية والتزام قواعد النقد، فإذا تحققت فيه فلا يضرُّه أسلوبه الخشن أو ما أسماه بإساءة الأدب.
٣) «ليس وظيفتنا أن نصحح حديثا أو نضعفه، بل علينا نقل أقوال الجهابذة فقط في الحكم على الحديث».
قلت: وهذا أليق بالفقيه أمثال هذا المعترض، فحقه تقليد أحكام نقاد الحديث لجهله بهذا الشأن، أما من عنده أهلية النقد فهو غير ملزم بأحكام غيره إلا في حدود ضيقة، وبسط هذا في غير هذا الموضع. والحافظ ابن حجر نفسه خالف نقاد الحديث الأوائل في كثير من أحكامه النقدية، فهذا المعترض يحتج بما ينقض عليه حجته؛ لأن اعتراضه مبني على المناكفات المذهبية لا على التحقيق العلمي.
ثم إن معرفة أحكام نقاد الحديث الأوائل ليس بالأمر الهين؛ لأن أحكامهم الصريحة على الأحاديث قليلة، وغالب أحكامهم جُملية تُفهم من خلال استيعاب مناهجهم في التصنيف وشروطهم في كتبهم، ولا يميز هذا إلا العارف بهذا الشأن، فوق أن كثيرًا من كتب المتأخرين لا يمكن استخلاص أحكام النقاد عليها، فيلزم دراستها وفحصها والحكم عليها.
- سعد الشيخ -