أفتى بعض المعاصرين في أستراليا أن المال المتجمع من الربا حرام على صاحبه حلال لغير صاحبه . فما رأيكم.؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
أفتى بعض المعاصرين في أستراليا أن المال المتجمع من الربا حرام على صاحبه حلال لغير صاحبه . فما رأيكم.؟
A-
A=
A+
السائل : الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد رسول الله وعلى آله وسلم .

الشيخ : نعم.

السائل : أيها الإخوة يسرنا أن نلتقي بفضيلة شيخنا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في منزله بالأردن، وقد قدّر الله عزّ وجل لنا أن نلتقي به بعد أن اتصلنا به وأرسلنا له فاكسا، ونسأل الله عزّ وجل أن يكون لقاءنا معه لقاء خير وبركة ونفع - إن شاء الله - .

فضيلة الشيخ عندنا بعض الأسئلة بعضها يتعلق بأمور عامة، وبعضها بأمور نسائية قد وُكلنا أن نسألكم إياها .

السؤال الأول: فضيلة الشيخ أفتى بعض المشايخ العصريين، أثناء زيارته لأستراليا بأن المال المتجمع من الربا حرام على صاحب المال، حلال لغيره لا سيما المحتاجين، فما مدى صحة هذا القول في الشرع ؟

الشيخ : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى من اتبعه بهداه. أما بعد:

فكنت أود أن يقال لهذا المفتي إن لم يُقَلْ له، (( هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين )) ، ذلك لأن هذه الفتوى تتعارض مع بعض النصوص العامة التي تعتبر من الأصول والقواعد الإسلامية, فضلا عن بعض النصوص الخاصة التي تعتبر فروعا مُفَصِّلة لتلك القاعدة، أما القاعدة فأصلها قول ربنا تبارك وتعالى: (( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )) أما النصوص الخاصة والتي على مثلها قامت تلك القاعدة، فمن المعلوم قوله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يتعلق بهذا السؤال نفسه: ( لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه، وشاهديه ) ، ومن ذلك قوله عليه السلام في الخمر: ( لعن الله في الخمرة عشرة ) ، ابتدأ بساقيها ثم كمّل الرقم بالذين يتعاونون مع السّاقي بتحضير هذا الشراب المحرم له بمثل العصر والبيع والشراء والحمل، ونحو ذلك مما هو منصوص عليه في الحديث، فإذا قيل بذلك القول الذي سمعته لأول مرة آنفا, أنّ الربا والذي يسّمونه اليوم بغير اسمه فائدة هي حرام على من قلت؟

السائل: على صاحب المال

الشيخ: على صاحب المال وحلال لغيره، فنقول: ما بني على فاسد فهو فاسد، لأن القول بهذا الرأي الهزيل, يعني أنه يجوز للمسلم أن يودع ماله في البنك، وبالتالي أن يأخذ الربا ويطعمها غيره، وحينئذ انصبت اللعنة عليه من الناحيتين؛ من الناحية الأولى: أنه أطعم البنك، ومن الناحية الأخرى: استفاد الربا وأطعمها غيره، فهو إذا صح التعبير ألعن مما لو أكله بنفسه، لأن الحديث حينذاك ينصب على الآكل، والموكل، الموكل لمن؟؛ للبنك أو أهل البنك, أما هنا فصار الإيكال إذا صح التعبير له شعبتان، وله جانبان.

فلذلك الواقع الذي نشعر به مع الأسف في كثير من الفتاوى التي تصدر في العصر الحاضر، إنما هي فتاوى إما أن تكون صادرة بحسن نية, ولكنها صدرت مِن مَن ليس من أهل العلم، من أولئك الذين أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أمثالهم حينما قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص من رواية الشيخين البخاري ومسلم رضي الله عنهما قال : قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا من صدور العلماء وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم, فضلوا وأضلوا ) ، هذا إذا كان بحسن قصد.

ولكن من الممكن أن يكون هناك أناس يُفتون بقصد التضليل وإخراج المسلمين عن الصراط المستقيم الذي خطه لهم نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بما جاء من البيان والشرح لنصوص الكتاب السنة، فالآية التي أشرنا إليها آنفا كقاعدة من قواعد التعامل مع الآخرين وهي قوله عزّ وجل: (( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) يدل على أن هذا الذي أفتى بهذه الفتوى لا يعبأ بالأحاديث التي تفصل مثل هذه الآية وتُفَرع عنها فروعا، المسلمون أحوج ما يكونون إليها في كل زمان وفي كل مكان, وبخاصة في زمان الغربة الذي نحن نعيشه في هذه الأيام، فلذلك فالقول بإباحة الربا لغير صاحب المال كما جاء في السؤال هذا يتنافى مع الأصول والفروع معا.

الذي نراه - والعلم عند الله تبارك وتعالى- هو أن الذي ابْتُلي بأن يتعامل مع بعض البنوك ثم تاب إلى الله عزّ وجل وأناب, ففي هذه الحالة هو بين أمرين اثنين:

- إما أن يدع الربا لأهل الربا لأصحاب البنك.

- وإما أن يأخذه دون أن ينتفع هو به، ثم دون أن ينتفع به شخص بعينه.

هنا يبدأ الجواب الفقهي خلافا لذلك القول بناء على ما بينا من أدلة، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال كما في حديث مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا )) ، لذلك فهذا الذي رابى ثم تاب إلى الله تبارك وتعالى, وأعطي له مع رأس ماله الربا، فلا يجوز له أن يستفيد بالربا، لصريح قوله تبارك وتعالى: (( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ )) فهذه الآية صريحة كل الصراحة بأن المرابي إذا تاب إلى الله عز وجل فإنما يحل له أن يسترجع رأس ماله دون ما ترتب عليه من ربا يسمونه فوائد: (( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ )) .

إذا كان الأمر كذلك, فقلنا: إما أن يستلم من البنك رأس المال ورباه، وإما أن يدع الربا للبنك، في كل من الأمرين محظور, إن تركه للبنك استفاد منه البنك, وإن أخذه هو معنى ذلك أنه أخذ الربا، ولكن إذا قلنا بأنه لا يجوز أن يستفيد هو لذات نفسه لما سبق أن ذكرنا من الأدلة, يبقى الأمر إما أن يفيد غيره بهذا المال كما جاء بالنسبة لذلك المفتي، وإما أن يفيد مشروعا لا تعود فائدته إلى شخص بعينه .

لا بد من أحد أمرين: إما أن يفيد بهذا الربا شخصا بذاته، وإما أن يصرفه فيما يسمى بلغة الفقهاء بالمرافق العامة، المرافق العامة: معروف لدى أهل العلم أنها تعني كل مشروع يعود فائدته إلى مجموعة المسلمين وليس إلى فرد من أفرادهم, مثل مثلا: جلب ماء كسبيل في مكان ليس فيه ماء، أو تعبيد طريق، أو اتخاذ جسر على نهر، أو ما شابه ذلك.

لولا-وعليكم السلام ورحمة الله- لولا أن الأمر الأول وهو ترك الربا لأهل البنك كان قوة لهم, لكان الأولى أن يأخذ رأس ماله كما قال الله عزّ وجل، ولكن هناك قاعدة فقهية مهمة يجب على كل طالب علم أن يكون دائما على ذكر منها, ألا وهي: إذا وقع المسلم بين مفسدتين فلا بد له من إحداهما، هو في هذه الحالة يختار المفسدة الصغرى على المفسدة الكبرى؛ من باب دفع الشر الأكبر بالشر الأصغر، الشر الأكبر هنا: أن يترك الربا لأهل الربا للبنك؛ الشر الأصغر: أن يصرف هذا المال في المرافق العامة حيث لا يستفيد منه شخص بعينه كما قال ذلك المشار إليه في السؤال.

بهذا يمكن الرد على إبطال قول ذلك المفتي، ويبقى معالجة هذا الربا بأحد الطريقين: إما أن يترك للبنك وإما أن يصرف في المرافق العامة؛ وهذا شره أقل من شر الأمر الأول، أما أن يضع المسلم ماله في البنك، ثم يزعم أن هذا الربا في الوقت الذي يحرم عليه يفيد به غيره من المسلمين, فهذا نقض للآية السابقة ولِما تفرع منها من أحاديث ذكرنا آنفا بعضها، (( وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )) ، لأن هذا المرابي إذا أودع ماله في البنك وأخذ الربا وأطعمه لفقير, فإنما هو طعام خبيث, وقد سمعتم آنفا قوله عليه السلام: ( إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبا ... ) إلى آخره, هذا جواب السؤال الأول.

السائل : جزاكم الله خيرا.

مواضيع متعلقة