ما هي المسافة التي يقصر الصلاة فيها في السفر ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
ما هي المسافة التي يقصر الصلاة فيها في السفر ؟
A-
A=
A+
السائل : ... السفر .

الشيخ : السفر ؟

السائل : ... وهل يعني ... .

الشيخ : أنت تسأل عن القصر في السفر ؛ هل هو عزيمة أم رخصة ؟

السائل : مع تحديد المسافة .

الشيخ : مع إيش ؟

السائل : تحديد المسافة .

الشيخ : أما تحديد المسافة فلم يأت في الشرع تحديد للسفر الذي تترتَّب عليه أحكام المسافر ، بل ظاهر النصوص التي ذُكر فيها السفر كان ذكره مطلقًا من كلِّ قيد ، شأنه في ذلك شأن المرض الذي يتعلَّق بالصائم ، فالله - عز وجل - يقول : (( فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدَّة من أيام أخر )) ، فكما أنه أطلق لفظة المرض في (( مريضًا )) ، كذلك أطلق لفظة السفر فيمن كان مسافرًا ؛ (( فمن كان منكم مريضًا أو على سفر )) ، فهذا الإطلاق يعني أن أيَّ سفر يتلبَّس به المسلم فقد ترتَّبت عليه أحكام السفر من جواز الإفطار فيه في شهر رمضان ، ومن جواز الجمع بين الصلاتين ، ومن وجوب القصر ، فلم يحدِّد ربنا - عز وجل - للسفر مدَّة كذلك المريض ، ومن البداهة بمكان أن أيَّ مريض في رمضان يريد أن يتمتَّع بالرخصة التي قدَّمها ربُّنا - عز وجل - لعباده المؤمنين في هذه الآية ليس به من حاجة أن يأخذ راشيته - رخصة - من أيِّ طبيب ليقول له : أنت مريض ؛ فيجوز لك الإفطار ، أو لست مريضًا ؛ فيحرم عليك الإفطار .

إذًا من الذي يفتيه ؟ من الذي يقول له يجوز لك أو لا يجوز ؟ هو نفسه ؛ لأن المريض أدرى بنفسه ، أدرى بكونه مريضًا من أيِّ طبيب يجري عليه فحصه مهما كان دقيقًا ، فإذًا حينما قال ربنا : (( فمن كان منكم مريضًا )) ؛ هل يعني مرضًا معيَّنًا شديدًا خفيفًا ظاهرًا يبدو للعيان باطنًا لا يراه ولا يحسُّ به إلا ذلك الإنسان ؟ قال - تعالى - : (( مريضًا )) ، فكلُّ مريض له رخصة الإفطار ، وكلُّ مسافرٍ كذلك له هذه الرخصة وله الأحكام الأخرى التي أشرنا إليها ، هذا القول هو الذي ترجَّح بعد الاختلاف الكثير والكثير جدًّا جدًّا في تحديد مسافة القصر ، ثم أنا أُضيف إلى هذ الإطلاق المُستفاد من القرآن الكريم ومن الأحاديث الواردة عن الرسول - عليه السلام - ؛ أنه كان إذا سافر قصر ، وما جاء في بعض الأحاديث الصحيحة أنه قَصر في مسافة كذا فراسخ مثلًا ، فذلك لا يعني تقييد السفر بتلك المسافة ؛ لأنها حادثة عين لا عموم لها ، فلو أنه اتفق له - عليه السلام - بأنَّه قصر دون تلك المسافة بربع فرسخ مثلًا ؛ أليس يكون مسافرًا ؟ فالسفر لا يُقاس بالفراسخ أو الأمتار أو الكيلومترات ؛ لأنه تكليف يتنافى مع يُسر الإسلام وتسهيل الإسلام في الأحكام .

لو أن رجلًا خرج من بلدته يريد ناحية في قرية أو في بادية ما ؛ لو قيل بأنه يجب عليه أن يعرف المسافة لأن السفر مقيَّد بمسافة معروفة لَكان الشَّرع قد كلَّف الناس ما لا طاقة لهم به ، وهذا منفيٌّ والحمد لله عن عباده المؤمنين كما هو معروف من قوله - تعالى - : (( آمن الرسول )) إلى آخر الآيات ، فمعرفة كلِّ إنسان المسافة التي بينه وبين مقصده أو منزله الذي يريد أن ينزل فيه ؛ هذا لا يمكن أن يتحقَّق به الإنسان ؛ حتى ولو كان له ثقافة خاصَّة بمعرفة مسافات الطرق ، إلا أن يكون قد درس من قبل مسافة ما بين هذه البلدة وكل البلاد التي تحيط به ، وهذا لا ينهض به إلا أفراد قليلون جدًّا جدًّا ، هذه المسألة تشبه مسألة أخرى لكنها تختلف عن هذه اختلافًا كلِّيًّا ، ذلك لأنَّ العلماء قد ذكروا - على اختلافهم - للسفر مسافة ، ما بين قائل ثلاثة أيام بلياليها كالمذهب الحنفي ، ما بين قائل يوم وليلة كالمذهب الشافعي ، أما المسألة التالية ، والتي سأضرب لها مثلًا يقرِّب مسألتنا هذه ؛ فهي الماء الكثير الذي لا يتنجَّس بوقوع النجاسة فيه ، ما هو هذا الماء الكثير ؟ أقوال معروفة - أيضًا - لكن يهمُّني منها قول الحنفية : " الماء الكثير ما كان في حوض مساحته عشر في عشر " ، من الذي يستطيع أنه إذا وقف على بحيرة على مكانٍ فيه ماء أن يقول هذه عشر في عشر ، وأنها لا تنقص منها ذراع ؟ هذا لا يستطيعه إلا أقلُّ الناس ، وبخاصة إذا كان ذلك المكان لا يشكِّل مكانًا مربَّعًا حتى يستطيع أن يقول القائل : هذا مضلَّع عشر في عشر ؛ كأن يكون مثلًا مستديرًا - بحرة مستديرة - ، تعرفون بالمشاهدة حينما تهطل الأمطار بغزارة تتجمَّع هناك مستنقعات في أماكن متفرقة ، هذه المستنقعات لا تكون بشكل هندسيٍّ ؛ أي مربع كل ضلع هو عشرة أمتار ، وإنما قد يُشكِّل ما يشبه الدائرة ، أو ما يشبه الأقواس المتقابلة المنحنية ، أو شيء داخل وشيء خارج إلى آخره ، من ذا الذي يستطيع إذا وقف أمام هذا الماء فيقول هذا عشر في عشر ؟ دعك عن بعض البحيرات المصنوعة صنعًا هندسيًّا إذا كانت مثمَّنة الأضلاع أو مسدَّسة الأضلاع ؛ لا شك أنُّو هذا يحتاج إلى مهندس خرِّيت ماهر حتى يقدِّر هل هذا عشر في عشر ؟ لا يُعقل أن يكلَّف الله - عز وجل - عباده بمثل هذه التكاليف ، لذلك كان المذهب الصحيح هو ما أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) ، فما دمت تراه ماءً فهو طاهر مطهِّر ، وما دمت تراه على العكس من ذلك قد تغيَّر لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسةٍ وقعت فيه خرج عن كونه ذلك الماء الطاهر المطهِّر ، هكذا الإسلام دينٌ سهلٌ عمليٌّ يستطيع البدويُّ الذي لا ثقافة عنده أن يتجاوب مع أحكامه لسهولتها ، بينما إذا نظرنا إلى ما اجتهد بعض العلماء وجاؤوا بقيود لم تثبت في السنة كما كنا نحن آنفًا في الكلام على السفر ، فيكون ذلك من الأدلة على أن هذه القيود إنما هي قيود اجتهادية ، وشروط لا يُلزم بها المُكلَّف ، وقد قال - عليه السلام - في الحديث الصحيح : ( كلُّ شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، ولو كان مائة شرط ) ، فإذًا إذ قال الله - عز وجل - : (( فمن كان منكم مريضًا أو على سفر )) آ خرجنا مسافرين ؟ تلبَّسنا بأحكام المسافرين ، وعلى ذلك جاء قوله - تعالى - في القرآن الكريم (( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا )) ، (( إذا ضربتم في الأرض )) هو كقوله : (( مريضًا أو على سفر )) ، لأن الضرب في الأرض هو كناية عن السفر ، فكما أطلق هناك (( على سفر )) أطلق هنا - أيضًا - الضرب في الأرض ، ولم يقيِّده بقيد من تلك القيود الطويلة أو القصيرة ، هذا هو الذي يترجَّح من الأقوال الكثيرة التي قيلت في السفر ، وهو المتناسب واللَّائق بيسر الإسلام وسماحته .
  • فتاوى جدة - شريط : 10
  • توقيت الفهرسة : 00:12:54
  • نسخة مدققة إملائيًّا

مواضيع متعلقة