تتمة شرح الحديث القدسي حديث أنس - رضي الله عنه - للفقرة الثانية ، وهي قوله : ( فاستغفروني ؛ أغفر لكم ) ، وبيان ما يتعلَّق بذلك من بقية الأحاديث . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
تتمة شرح الحديث القدسي حديث أنس - رضي الله عنه - للفقرة الثانية ، وهي قوله : ( فاستغفروني ؛ أغفر لكم ) ، وبيان ما يتعلَّق بذلك من بقية الأحاديث .
A-
A=
A+
الشيخ : ... سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : ( قال الله - تعالى - : يا ابن آدم ، إنك ما دَعَوتَني ورَجَوتَنِي غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي . يا ابن آدم لو بلغَتْ ذنوبُك عنانَ السماء ثم استغفَرْتَني غفرتُ لك . يا ابن آدم لو أتيتَني بقُراب - أو بقِراب - الأرض خطايا ثم لقيتَني لا تشرك بي شيئًا لَأتيتك بقرابها مغفرة ) . رواه الترمذي وقال : حديث حسن . قِراب الأرض : بكسر القاف ، وضمُّها أشهر ؛ هو ما يقارب ملأها .

ثم قرأنا هذا الحديث عليكم بالدرس الماضي وعلَّقنا بما يسَّرَ الله - تبارك وتعالى - على الجملة الأولى منه ، وبخاصَّة قوله - عليه الصلاة والسلام - عن ربِّه : ( يا ابن آدم ، إنك ما دَعَوتَني ورَجَوتَنِي غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي ) . فبيَّنَّا أن الدعاء في الإسلام له أهمية عظيمة جدًّا ، وأن الدعاء واللَّجأ والتضرُّع إلى الله - عز وجل - هو سنة الأنبياء ، وأن ممَّا أُصِيبَ به بعض الناس من الانحراف عن الإسلام قولهم : إن الدعاء لا يلجأ إليه المخلصون الواقفون لله - عز وجل - ؛ حتى قالَ قائلُهم : " طَلَبُك منه تهمةٌ له " ، وبيَّنَّا أن هذا انحراف عن هذا الحديث وما في معناه من أحاديث بل وآيات كثيرة أشرنا إلى بعضها ليلتئذٍ .

والآن نتابع التَّعليق على ما بقي من هذا الحديث ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يحكي عن ربه أنه قال : ( يا ابن آدم ، إنك ما دَعَوتَني ورَجَوتَنِي غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي ) ، والغرض من هذه الفقرة هو لفت نظر المسلم أن يكون دائمًا راغبًا إلى الله - عز وجل - متضرِّعًا إليه أن يغفر له ذنوبه ، وأن لا ينسى أنه بحاجة إلى عفو ربِّه - عز وجل - ومغفرته ؛ قال - تعالى - : ( يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ) . عنان السماء يعني السحاب ، وهذا كناية عن أن العبد المسلم مهما كانت ذنوبه كثيرة بحيث أن بعض الناس ضعفاء الإيمان قد يقعون في اليأس من أن يغفرها الله - عز وجل - هذه الذنوب له لكثرتها ولِهَولِها ولخطورتها ، ففي هذا الحديث لفت نظر العبد أن لا ييأس من روح الله ؛ لأنه (( لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ )) بنصِّ القرآن الكريم ، وإنما على العبد أن يتوجَّهَ إلى الله - تبارك وتعالى - بقلب خالص في عبادته لربِّه أن يغفر له ذنوبه ؛ فالله - عز وجل - يغفر هذه الذنوب مهما كانت كثيرة ولو بلغت السحاب ، فالله - عز وجل - غفور رحيم .

ولكن هنا ملاحظة لا بد من التذكير بها مرَّةً بعد أخرى ؛ ففي هذا الحديث تطميع للعبد لا شك في مغفرة الله - عز وجل - وعفوه الواسع ، ولكن ذلك منوط ومربوط بطلب العبد من ربِّه - عز وجل - أن يغفِرَ له ، فليس هذا التطميع المذكور في هذا الحديث للعبد في عفو الله - عز وجل - هو مجرَّد أمل من العبد أن يغفر الله له ذنوبه مهما كانت كثيرة ، وإنما ذلك بقيد وبشرط أن يستغفر الله - عز وجل - ؛ لأنه يقول : ( لو بلغت ذنوبُك عنان السماء ثم استغفَرْتَني غفرت لك ) . إذًا فهذا - أيضًا - تأكيد لضرورة توجُّه العبد بالدعاء إلى الله - عز وجل - وطلب المغفرة منه .

ويؤيد هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( لو لم تذنبوا لَذَهَبَ الله بكم ولَجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ) . فهذا الحديث يصرِّح بأن المغفرة التي يطمِّع ربُّنا - عز وجل - فيها عباده هي مربوطة بتوجُّه العباد إليه بطلبهم المغفرة منه ، وليس في هذا الحديث كما يتوهَّم بعضُ الغافلين التشجيع على الإكثار من الذنوب ؛ لأن الحديث يقول : ( لو لم تُذنبوا لَذَهَبَ الله بكم ) ، فيأخذون الطرف الأول من الحديث ويستنبطون منه أن فيه حضًّا للمسلم على التوجُّه إلى معصية الله - عز وجل - ، لكن الحقيقة أن الحديث لم يُسَقْ من أجل هذا ، ولا يُعقل أن يكون في الشرع تطميع من الله - عز وجل - للعباد على المعصية ، وإنما سِيقَ الحديث إلى تلافي ما قد يقع فيه الإنسان من المعصية والذنوب أن يتلافى ذلك بماذا ؟ بالاستغفار والتضرُّع إلى الله - عز وجل - بأن يغفر له ؛ لذلك قال : ( لو لم تذنبوا لَذَهَبَ الله بكم ولَجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله ) ، لم يقل : جاء بقومٍ يذنبون فيغفر الله لهم ، وإنما قال : ( يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ) . إذًا المغفرة منوطة بطلب العبد لها من الله - تبارك وتعالى - ، وفي ذلك إثبات كما شرحنا ذلك في الدرس الماضي لعبودية العبد وخضوعه لربِّه - عز وجل - وعدم استغنائه عن عفوه ومغفرته .

نعم في هذا الحديث حديث أبي هريرة الذي ذكرتُه آنفًا إشارة إلى طبيعة الإنسان التي فَطَرَه الله - تبارك وتعالى - عليها ؛ وهي أن الإنسان لم يُطبع ولم يُفطر على عدم المعصية ؛ لأن الله - تبارك وتعالى - بحكمته خلق المخلوقات على قسمين ؛ قسم مكلَّف وقسم غير مكلَّف . القسم المكلَّف يشمل الإنس والجن والملائكة ، ثم جعل هذا القسم قسمين ؛ قسمًا معصومًا عن المعصية وهم الملائكة فقط ؛ وذلك قول الله - تبارك وتعالى - .

الحاضرون : (( لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ )) .

الشيخ : (( لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )) ، فملائكة الله هذه صفتهم أنَّهم لا يعصون الله - تبارك وتعالى - ، وإنما طبيعتهم أن يأتمروا بأمر الله - عز وجل - .

ومن هنا نستطيع أن نذكِّر ببطلان القصّة التي تنسب إلى هاروت وماروت ، ويزعمون أنهما كانا ملكَين ، وأن الله - عز وجل - أنزَلَهما من السماء لتعليم الناس السِّحر يوم كان السحر مهنةً وصنعةً تُستَغَلُّ لإضلال الناس ولِحَملِهم على الخضوع للملوك المتجبِّرين ، وأن هؤلاء لما نزلوا إلى الأرض افتُتِنوا في قصة طويلة بامرأة جميلة ، فلم يزالا بها حتى وقعوا عليها وفتنتهما عن دينهم ، فمسخهم الله - عز وجل - ومسخ المرأة ، فجعلها هي النجمة المعروفة بالزهرة .

هذه القصة تروى - مع الأسف - في بعض كتب التفسير والحديث ، لكنها قصة لا تثبت نسبَتُها إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإنما هي من الإسرائيليات ، وهي تخالف الآية السابقة : (( لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )) ؛ فكيف يُنسب إلى الملائكة بأنهم شربوا الخمر وزنوا بتلك المرأة ؟ هذا مستحيل ؛ لذلك فالقسم الأول أن الله - عز وجل - خلق الملائكة لا يعصون الله كما قال في القرآن الكريم ، وخلق الثَّقلين الإنس والجن مفطورين على المعصية ، ولكنَّ الله - عز وجل - بحكمته مكَّنَهم وقدَّرَهم على أن لا يغرقوا في المعصية أوَّلًا ، ثم إذ فَطَرَهم على المعصية فقد مكَّنَهم على الخلاص من أوزارها وآثامها بأن يلجؤوا إلى الله - عز وجل - وأن يطلبوا منه المغفرة ؛ فالحديث السابق : ( لو لم تذنبوا لَذَهَبَ الله بكم ) ؛ يعني أن الله - عز وجل - سَبَقَتْ إرادته وحكمته بأن يخلق الخلق المكلَّف على قسمين ؛ قسم لا يعصي الله ، وقسم آخر يعصي الله ، فيقول للبشر : ( لو لم تذنبوا لَذَهَبَ الله بكم ) ؛ ليكون هناك خلق آخر غير خلق الملائكة ، ولتظهر صفةٌ أو أثرٌ من آثار صفة من صفات الله - عز وجل - في خلقه ألا وهي صفة المغفرة غفور رحيم .

فلو لم يكن هناك خلق يعصي الله - عز وجل - فليس هناك أثرٌ لصفة الله - عز وجل - التي هي المغفرة ؛ فإذًا في هذا الحديث بيان لواقع هذا القسم المكلَّف الذي فُطِرَ على المعصية أن لا يتواكل على هذه الفطرة فيقول : ما دام أننا خُلِقنا لسنا معصومين كالملائكة فلا بد من المعصية ؛ فالجواب : نعم ، لا بد من المعصية ، ولكن هذه المعصية قد تكون صغيرة وقد تكون كبيرة ، وباستطاعة الإنسان أن يجاهد نفسه وأن لا يقع في القسم الأكبر منها ، أما الشَّيء القليل منه فلا بد منه ليظهر في هذا الإنسان المكلَّف صفة مغفرة الله - عز وجل - فيه .

فنؤكِّد ونقول : لا بد للإنسان من أن يخطئ ؛ لأن الله - عز وجل - قدَّرَ هذا في خلق الإنسان بخلاف الملائكة ، كما أكَّدَ ذلك - أيضًا - عليه الصلاة والسلام - في الحديث المعروف صحته برواية الإمام البخاري ومسلم له عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ( كُتِبَ على ابن آدم حظُّه من الزِّنا ؛ فهو مدركه لا محالة ) . كُتِب على ابن آدم مش على الملائكة ، ( كُتِبَ على ابن آدم حظُّه من الزنا فهو مدركه لا محالة ؛ فالعين تزني وزناها النظر ، والأذن تزني وزناها السمع ، واليد تزني وزناها البطش ، والرجل تزني وزناها المشي ، والفرج يصدِّق ذلك كلَّه أو يكذِّبه ) .

هذه المقدِّمات وهي من صغائر الذنوب كُتِبَت على الإنسان فهو مدركها لا محالة ؛ فإذًا الشّطر الأول من الحديث : ( لو لم تذنبوا لَذهب الله بكم ولَجاء بقومٍ يذنبون ) يريد أن الله - عز وجل - اقتضت حكمته أن يخلق مقابل الملائكة الذين لا يعصون الله بشرًا يعصون الله ، ولكن لم يخلقهم يعصون الله مضطرِّين مرغمين مقهورين ، وإنما لهم الخيرة في ذلك ، مع ذلك فمَهما اختاروا أن يتَّقوا الله - عز وجل - وأن يبتعدوا عن الذنوب والمعاصي فلا بد من أن تزلَّ بهم القدم قليلًا أو كثيرًا .

لكن الله - عز وجل - جعل لهم مخرجًا فقال : ( فاستغفروني ؛ أغفر لكم ) . كما في الحديث القدسي الآخر - أيضًا - الذي أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " : ( يا عبادي ، إني حرَّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرَّمًا ؛ فلا تظالموا . يا عبادي كلكم ضالٌّ إلا مَن هديْتُه ؛ فاستهدوني أهدكم ) . ( كلُّكم ضالٌّ إلا مَن هديته ) . إذًا هل نتواكل على هداية الله - عز وجل - كما يقول عامة الناس الفاسقين حينما يدعون إلى أن ينقلبوا إلى صالحين يُقال له : اتق الله . فيقول : يا أخي ، الهداية من الله - عز وجل - ؛ فإذا أراد أن يهدينا هدانا . نعم ، هدانا ولكن لا بد من أن تطرق الباب لتسمعَ الجواب ، قال - تعالى - في هذا الحديث : ( فاستغفروني ؛ أغفر لكم ) . كلُّ هذه الأحاديث يأخذ بعضها برقابِ بعضٍ وتلتقي إلى هذه الحقيقة ؛ ألا وهي أن الإنسان إذا كان قد جُبِلَ على المعصية أو بعض المعصية ؛ فليس معنى ذلك أن يظَلَّ في معصيته ملوَّثًا بأدرانها وأوساخها ، وإنما عليه أن يسلك سبيل التطهُّر منها ؛ وذلك بأن يتوجَّهَ إلى الله - عز وجل - وأن يطلب له منه مغفرته .

مواضيع متعلقة