درس " الترغيب والترهيب " ، شرح حديث أنسٍ - رضي الله عنه - رقم ( 16 ) ، قال : خطَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خُطْبةً ما سمِعتُ مثلَها قَطُّ ، فقال : " لو تَعلَمونَ ما أعلَمُ لَضَحِكتُم قَليلًا ، ولبَكَيتُم كَثيرًا ". - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
درس " الترغيب والترهيب " ، شرح حديث أنسٍ - رضي الله عنه - رقم ( 16 ) ، قال : خطَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خُطْبةً ما سمِعتُ مثلَها قَطُّ ، فقال : " لو تَعلَمونَ ما أعلَمُ لَضَحِكتُم قَليلًا ، ولبَكَيتُم كَثيرًا ".
A-
A=
A+
الشيخ : ... أما بعد :

فإنَّ خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، وبعد :

وصل درسنا الأخير من كتاب " الترغيب والترهيب " للحافظ المنذري - رحمه الله - إلى الحديث السادس عشر في نسختي ، قال - رحمه الله - : وعن أنس - رضي الله عنه - قال : خَطَبَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خطبةً ما سمعت مثلها قط ، فقال : ( لو تعلمون ما أعلم لَضحكتم قليلًا ، ولَبكيتم كثيرًا ) . فغطَّى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وجوهَهم لهم خنين . رواه البخاري ومسلم .

وفي رواية : بَلَغَ رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن أصحابه شيء ، فخطب فقال : ( عُرِضَت عليَّ الجنة والنار ؛ فلم أَرَ كاليوم في الخير والشَّرِّ ، ولو تعلمون ما أعلم لَضحكتم قليلًا ولَبكيتم كثيرًا ) . فما أتى على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم أشدُّ منه ؛ غطُّوا رؤوسهم ولهم خنين " .

قال : الخَنين بفتح الخاء المعجمة بعدها نون هو البكاء مع غنَّة لانتشار الصوت من الأنف . هكذا ذكر المؤلف - رحمه الله - لتفسير لفظة الخَنين . وفي كتب اللغة وشروح الحديث تفصيل زائد بعض الشيء ، فذكروا أن الخَنين والحنين بمعنى واحد هذا قول ، والقول الآخر - ولعله أوضح وأظهر - : هو أن الخنين ما سمعتم تعريفه من المصنف ؛ هو الصوت الذي يخرج في أثناء البكاء فيه شيء من الغنة ؛ لأنه يخرج من الأنف ، أما الحنين فيخرج من الصَّدر ، هذا هو الفرق بين الخَنين بالخاء المعجمة والحنين بالحاء المهملة .

هذا الحديث هو قطعة من الحديث الطويل الذي قرأناه عليكم في الدرس الأخير ، فليس فيه شيء نحن بحاجة إلى التعليق عليه سوى كلمات موجزات . قول أنس : " خطب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خطبةً ما سمعتُ مثلها قط " : لم يعيِّن هذه الخطبة ، لكننا إذا رجعنا إلى طرق هذا الحديث وإلى رواته من الصحابة لَوَجَدْنا فيهم السيدة عائشة - رضي الله عنها - ، ولَوجدنا هذه الجملة من هذا الحديث : ( لو تعلمون ما أعلم ) إلى آخره هي آخر جملة جاءت في حديثها الذي أخرَجَه الإمام البخاري في " صحيحه " من طريقها تذكر أن الشمس كسفَت في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد ذكرنا لكم - أيضًا - شيئًا من قصة هذا الكسوف وتذكر أن الرسول - عليه السلام - رأى الجنة والنار ، وشرحنا لكم - أيضًا - شيئًا من ذلك ، وأنه خَطَبَ فيهم وكان في أوَّل ما قال : ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ) إلى آخره ، ثم ذكر - عليه الصلاة والسلام - في خطبته هذه أنه رأى عمرو بن لحي ، ورأى المرأة التي كانت تُعذِّب الهرَّة ، ورأى صاحب المحجن الذي كان يستعمل محجَنَه ليسرقَ أمتعة الحاج ، كل هذا ذكرته السيدة عائشة - رضي الله عنها - في حديثها هذا ، وقالت : إن الرسول - عليه السلام - قال في هذه الخطبة : ( لو كنتم تعلمون ما أعلم لَضحكتم قليلًا ولَبكيتم كثيرًا ) .

إذًا نستطيع أن نحدِّد الخطبة التي أطلَقَها أنس في حديثه هذا بأنها خطبة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في صلاة الكسوف ، ومما يؤكد هذا الرواية الأخرى التي ذكرها المصنف حين قال في الرواية الأولى رواها البخاري ومسلم ، وفي رواية : بَلَغَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن أصحابه شيء فخطب ، فقال : ( عُرِضَت عليَّ الجنة والنار ) . هذه الرواية الأخرى التي ذكرها المصنف تؤكِّد أن الخطبة هي خطبته - عليه السلام - في الكسوف ؛ لأن هناك رأى الجنة والنار ؛ فإذًا هذه الخطبة التي يشير إليها أنس بن مالك هي خطبته - عليه الصلاة والسلام - في صلاة الكسوف .

ثم إن قوله : " في رواية : بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أصحابه شيء " أيضًا هذا الشيء نكرة كالخطبة في كلام أنس السابق ، فيمكن أن يكون هذا الشيء هو شيء مما يقع بين بعض الصحابة أحيانًا من خصام من نزاع ممَّا لا يخلو منه البشر عادةً مهما سَمَوا وعَلَوا ، ويمكن - وهذا الذي تميل نفسي إليه - أنه يعني ما جاء في مناسبة صلاة الرسول - عليه الصلاة والسلام - لصلاة الكسوف - أيضًا - ، فقد ذكرنا لكم في الدرس السابق أن الشمس لما كسفَت في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اتَّفق أن هذا الكسوف كان يوم وفاة ابنه إبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - ، فقالوا : " إنما كسفت الشمس لموتِ عظيم " ؛ يعني إبراهيم بن النبي ، فخطب - عليه الصلاة والسلام - فيهم بهذه الخطبة التي أوَّلها : ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته ؛ فإذا رأيتم ذلك فصلُّوا وتصدَّقوا وادعُوا ) ؛ فإذًا كان من عادة الجاهلية أنهم إذا رَأَوا الشمس قد كسفت تنبَّؤوا بذلك عن أن هناك موت شخص عظيم له منزلته في المجتمع ، فكانت هذه عادة جاهلية ، فبلغ شيء من ذلك إلى الرسول - عليه السلام - عن أصحابه ، وبطبيعة الحال أن هذا أمر جاهلي ما يكون منه - عليه الصلاة والسلام - إلا أن يقضي عليه ويبطله ؛ لذلك قال : ( إن الشمس والقمر آيتان ) إلى آخر الحديث .

إذًا الشيء المنكَّر هنا هو قول بعض الصحابة بناءً على عادتهم في الجاهلية وقبل أن يأتيهم الهدى من الله - عز وجل - على لسان نبيِّه - عليه السلام - قولهم أن الشمس كسفت لموت إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - .

فأنس هنا يروي بعض تلك الخطبة العظيمة التي وَصَفَها بأنه ما سَمِعَ مثلها من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فضلًا عن أن يسمع مثلها من غيره قط ؛ فهو روى بعضها وغيره روى أكثرها كالسيدة عائشة - رضي الله تعالى عنها - . وقد كنت جمعت فوائد أحاديث الصحابة في قصة صلاة الكسوف هذه في رسالة ، وهي في الواقع فيها فوائد كثيرة لأنُّو تتبُّع الطرق يعطينا فوائد غامضة كانت في بعض الروايات كمثل هذا المثال الذي نذكره بالنسبة لإطلاق أنس الخطبة ، وإطلاقه - أيضًا - لفظة الشيء . هذا ما يمكن أو يحسن التعليق عليه في حديث أنس هذا .

مواضيع متعلقة