التنبيه على سنِّيَّة البداءة باليمين في السُّقيا . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
التنبيه على سنِّيَّة البداءة باليمين في السُّقيا .
A-
A=
A+
الشيخ : لا بدَّ من التذكير بهذه السنة التي تُعتبر من السنن الصحيحة التي أماتَها الناس ليس إماتةً ناتجةً عن التساهل في التطبيق ، وإنما هي إماتة لخطأ في فهم هذه السنة ، والأخ الساقي الآن - جزاه الله خيرًا - تجاوَبَ مع هذه السنة حينما ذُكِّر بها ، وقائم في ذهنه أن الساقي يبدأ بكبير القوم ، وهذا وهم شائع في كثير من البلاد الإسلامية ، ومن العجيب جدًّا أن يكون الحديث صريحًا صراحةً ما بعدها صراحة في أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يبدأ بكبير القوم الذي كان بعد أن شرب - عليه الصلاة والسلام - أبا بكر الصديق ، وكان عن يمينه الغلام الذي لم يكُنْ بعدُ قد بلغ سنَّ التكليف وهو عبد الله بن عباس ، فمع ذلك فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما شرب مما شرب منه وبقي في القَعْب بقيَّة سؤر استأذَنَ من الغلام الذي كان عن يمينه أن يسقِيَ الكبير الذي كان عن يساره ، وما بدأ بالكبير الذي كان عن يساره ، فما أدري من أين جاء هذا الوهم ؟ ... المختصرة والرواية المفصَّلة ، من كان منكم - يا إخواننا - يريد أن يسمع فليجلِسْ معنا ، وجزاكم الله خيرًا . لا ، تقدَّموا ، تقدَّموا ، تقدَّموا ، كلما تضامَّ المسلمون بأبدانهم كلما تقاربوا في قلوبهم ؛ لأن الباطن مرتبط بالظاهر ، والظاهر مرتبط بالباطن ، وفي ذلك أحاديث كثيرة ، ولسنا الآن في صدد شيء منها .

فالرواية المختصرة تقول : " أُتِيَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بلبن قد شيبَ بماء في قَعْبٍ ، فشرب منه ، وبقي فيه بقية " إلى آخر الحديث ، ولعلنا نذكره بتمامه .

الرواية المفصِّلة تقول : " استسقى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأُتِيَ " إلى آخر الحديث .

إذًا الرواية الأولى ظاهرها أن الساقي بدأ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه سيد القوم وعظيمهم ، ويكفي أنه رسولهم ونبيُّهم ، ومن هنا جاء الإشكال وجاءت الشبهة عند مَن يقول أن السنة أن يبدأ الساقي بكبير القوم ؛ لأنُّو فعلًا الساقي بدأ بالرسول - عليه السلام - ، ولماذا بدأ ؟ واضح جدًّا لأنه سيد القوم ، لكننا إذا عُدْنا إلى الرواية المبيِّنة والمتمِّمة فيختلف تمامًا الجواب ؛ حيث تقول هذه الرواية : " استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ؛ أي : طلب السقيا ؛ فإذًا هنا ينتج سؤال وجواب بناءً على الرواية الأولى والرواية الأخرى ؛ بالنسبة للرواية الأولى إذا سأل سائل ما : لماذا بدأ الساقي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ الجواب : لأنه سيدهم . لكن إذا جاء السؤال بالنسبة للرواية الأخرى : لماذا بدأ الساقي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ الجواب : لأنه كان الطَّالب للسُّقيا .

إذًا إذا كان هو سُقِيَ أو بُدِئ به لأنه - عليه الصلاة والسلام - طلب السُّقيا إذًا لا يجوز الاحتجاج بهذا الحديث أن السنة أن يبدأ الساقي بكبير القوم ، وهذا يكفي لبيان خطأ الاستدلال بهذا الحديث على ما هو الشائع أن الساقي يبدأ بكبير القوم ، ولكن للبحث تتمَّة ، ولتتمَّة الأحاديث أدلة أخرى في تأكيد أن السنة إنما هي البدء بيمين الساقي .

قلنا : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرب من القَعْب الحليب الذي كان مخلوطًا بالماء ، فبقي بالقَعْب بقية ، وهو الكأس الكبير ، فكان عن يمينه - عليه السلام - عبد الله بن عباس ، وكان عن يساره أبو بكر الصديق وكبار قريش ، فقال - عليه السلام - لابن عباس : ( أتأذَنُ أن أسقِيَ أبا بكر ؟ ) . قال : " لا والله يا رسول الله ؛ لا أوثر أحدًا على فضلة شرابك " . وفي بعض الروايات أن عمر بن الخطاب كان متوجِّهًا مهتمًّا بماذا سيفعل الرسول - عليه السلام - ، فقدَّم البقية إلى ابن عباس وسكَّن بما قاله بعد ذلك خاطر ابن عمر وغيره ممَّن كان يتصوَّر أنه سيبدأ بأبو بكر لأنه أفضلهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأعطى ابن عباس وقال : ( الأيمن ، فالأيمن ) . وفي رواية : ( الأيمنون ، فالأيمنون ، فالأيمنون ) . إذًا هنا دليل آخر بأن الساقي يبدأ بِمَن كان عن يمينه ، لا ينظر إلى السِّنِّ ، ولا ينظر إلى العلم ، ولا إلى الفضل ؛ لأن كل هذه المزايا كانت متوفرة في أبي بكر الصديق دون ابن عباس ، لم ينظُرِ الرسول - عليه السلام - إلى هذه المميزات كلها ، وإنما آثَرَ عليها الأيمن فالأيمن ، ( الأيمنون فالأيمنون فالأيمنون ) .

إذًا الساقي الأول بدأ برسول الله لأنه طلب السقيا ، ليس بدأ به لأنه كبير القوم وعظيمهم وهو كذلك ؛ هذا أوَّلًا . ثانيًا : بدأ الرسول حينما صار هو الساقي ، القَعْب في يده - عليه السلام - ، فهو الذي يريد أن يسقي إما من عن يمينه وإما من عن يساره ، فهو سقى مَن كان عن يمينه ، وعلَّل ذلك تعليلًا شرعيًّا بقوله : ( الأيمن فالأيمن ) ، ( الأيمنون فالأيمنون فالأيمنون ) .

إلى هنا ينتهي بيان أن هذا الحديث وهو مروي في " الصحيحين " بالروايتين المختصرة والكاملة عن صحابيين جليلين ، أحدهما أنس بن مالك ، والآخر سهل بن سعد الساعدي ، كلاهما روى هذا الحديث باللفظ الزايد - أيضًا - : " استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأُتِيَ " إلى آخر الحديث .

لننظر الآن في الموضوع من الناحية النظرية والتطبيقية العملية ؛ هل يمكن وهل يُعقل في نظر سماحة الشريعة ويُسرها أن يُكلَّف ساقي القوم في جمع كبير وكبير جدًّا أن يعرف مَن هو كبيرهم ؟ مَن هو الثاني منهم ؟ هذا الحقيقة في رأيي وفي نقدي يدخل في باب تكليف ما لا يُطاق ، وهذا مما اتفق أهل السنة على قوله - تبارك وتعالى - : (( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا )) .

أما تكليف ... وهو في العادة يكون غريبًا عن معرفته بالأشخاص ، فأن يُقال له : ابدأ بكبير القوم علمًا صلاحًا ، وربما سنًّا ، أنا أقول لو كان هذا الساقي ابن خلدون زمانه معرفةً بتاريخ الرجال وبأسنانهم لَمَا تمكن من أن يعرف في كلِّ مجلس يُبتَلَى ذلك الساقي بإسقائه لا يتمكَّن أن يعرف هذه المزيَّة التي يُظَنُّ عند بعض الناس أنها تستحقُّ أن يُبدأ بصاحبها ؛ هذا تكليف بما لا يُطاق ، أما ابدأ باليمين الولد صغير إذا دخل من الباب ابدأ من اليمين ، ابدأ من هالولد الواقف الآن . هكذا الإسلام وهكذا يُسر الإسلام ، فأرجو أن تتفهَّموا هذه القضية ليس لأن الشَّيخ الألباني يقول هذا ، وإنما لأنَّكم عرفتم أوَّلًا الرواية المتمِّمة للرواية الأولى : " استسقى رسول الله " ، فيسقط الاستدلال بأن البدء كان بسبب أنه كان كبير القوم .

السائل : السلام عليكم .

الشيخ : وعليكم السلام .

ثانيًا : الحديث النبوي : ( الأيمن فالأيمن ) قاعدة عامَّة فينبغي طردها .

ثالثًا : وأخيرًا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو نفَّذ هذه القاعدة العامة بنفسه حينما بدأ بالغلام ابن عباس ، وآثره على شيخ قريش وهو أبو بكر الصديق ، فأرجو أن تستوعبوا هذا . وأقول أخيرًا : وَلْيُبلِّغ الشاهد الغائب .

تفضل .

مواضيع متعلقة