ما حكم الدراسة في الجامعة الإسلامية في المدينة والجامعات الأخرى إسلامية كانت أم علميَّة مع وجود المنكرات والمخالفات التي تعرفها وتسمع عنها ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
ما حكم الدراسة في الجامعة الإسلامية في المدينة والجامعات الأخرى إسلامية كانت أم علميَّة مع وجود المنكرات والمخالفات التي تعرفها وتسمع عنها ؟
A-
A=
A+
السائل : وما حكم الدراسة في الجامعة الإسلامية في المدينة والجامعات الأخرى إسلاميَّةً كانت أم علميَّةً مع وجود المنكرات والمخالفات التي تعرفها وتسمع عنها ؟

الشيخ : خيرُ جوابٍ يحضرني في هذا هو الحديث الذي أخرَجَه البخاري في " صحيحه " من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( مثل القائم على حدود الله والقائم فيها كمثل قوم ركبوا سفينة ، فكانت طائفة بأعلاها ، وطائفة في أدناها ؛ فكان هؤلاء إذا أرادوا أن يستقوا مرُّوا بالطائفة التي في أعلاها ، فقالوا ذات يوم : لو أنَّنا خَرَقْنا من أسفل السفينة خرقًا وأرَحْنا الجماعة التي هم في أعلى السفينة من صعودنا ونزولنا ) . قال - عليه الصلاة والسلام - : ( فإن هم أخذوا بأيديهم نجوا وأنجوا ، وإن هم تركوهم وشأنهم هلكوا وأهلكوا ) .

هذا مثال المجتمع الذي مُثِّل له بالسفينة ، ومثال المنكر الذي يقع في هذا المجتمع الذي مُثِّل له بالحفر في قعر السفينة ؛ فإنه لا يخفى أنه إذا تُرِكَ هؤلاء الذين أرادوا إراحة الآخرين بطريق غير سليم بأن يحفروا من قعر السفينة لا شك أن الماء سيدخل في السفينة وسيعمهم الغرق جميعًا ؛ لذلك فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أتخيَّل كأنه يعالج مشكلتنا الحاضرة ، فنحن في مجتمع فيه مفاسد ، فأنا قلت آنفًا أنَّ مَن كان في مجتمع يُحكَم فيه بغير ما أنزل الله أصالةً فعليه أن ينتقل إلى مجتمع يُحكَّم فيه الإسلام ولو بشيء من التقصير ، فالشَّرُّ ليس كله في مرتبة واحدة ، فإذا كان هذا المجتمع الإسلامي فيه شرور فيه آثام فيه منكرات فليس الخلاص من ذلك بخرق هذا المجتمع ، وإهلاكه في إيجاد بلبلة أو قلقلة أو مفسدة أو فتنة ، وإنما ذلك كما أشار الرسول - عليه السلام - في هذا الحديث بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم هذا الحديث ألحَّ ودندنَ حول المرتبة الأولى من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو التغيير باليد ؛ حيث قال - عليه الصلاة والسلام - : ( فإن هم أخذوا بأيديهم نجوا وأنجوا ) إلى آخر الحديث ، فأخذوا بأيديهم ، هذا أوَّل مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما هو في الحديث المشهور : ( مَن رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده ، فإن لم يستطِعْ فبلسانه ، فإن لم يستطِعْ فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) .

ففي هذا الحديث التَّصريح بأنَّ مراتب الإنكار والأمر ثلاثة ، فلا يجوز للمسلم المخلص لدينه أن يتمسَّكَ بالمرتبة الأولى ويغضَّ الطرف عن المرتبة الثانية والثالثة ؛ لأنَّ هذا معناه - لا سمح الله - إيمانٌ ببعض الكتاب وكفر ببعض ، وحينئذٍ يجد هذا الذي يتحرَّج من المشاركة - مثلًا - في طلب العلم في الجامعات الإسلامية ، أو إذا كان أستاذًا له اختصاص في بعض العلوم يتحرَّج من التدريس فيها ، فهذا يجد له متنفَّسًا في بقية هذا الحديث ، عليه أوَّلًا أن يُنكر المنكر بيده ؛ هذا هي أعلى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن إن لم يتيسَّر وهذا مع الأسف كلما اشتدَّ الفساد كلما اضمحلَّ القيام بهذه المرتبة ، ولكن ليس معنى ذلك أنه يأتي بعدَه الكفر ... هناك إنكار في المرتبة الثانية : ( فبلسانه ، فإن لم يستطِعْ فبقلبه ) .

هنا نقول : هل يوجد مسلم لا يزال الإيمانُ حيًّا في قلبه ، هل يوجد مسلم لا يزال الإيمان حيًّا في قلبه ، وأنا أقول وأعني ما أقول ؛ لا يزال الإيمان حيًّا في قلبه لا ينكر المنكر بقلبه ؟! هذا لا أتصوَّره لا أتصوَّر مسلمًا لا يزال الإيمان عامرًا بقلبه أنه لا ينكر المنكر ولو بقلبه ، وهو أدنى درجات الإيمان كما قلنا ، فأنا أقول : إذا مات الشعور بالمنكر - وهذا مع الأسف الشديد موجود في بعض الناس الذين فتُنوا بالدنيا وشهواتها ، وتكالبوا على لذَّاتها - ؛ فهؤلاء لا يكادون ينكرون منكرًا ولو بقلوبهم .

وأنا أضرب لهذا مثلًا كيف تنطمس القلوب ولا يبقى فيها ذرَّة من إيمان ؛ لأنهم جهلوا ما شرع الله واعتادوا الحياة المُنكرة ؛ لا شك أنَّ المنكر عمليًّا درجات ، فنحن نجد في سوريا بعض المظاهر التي تسترعي انتباه أمثالنا ، نجد - مثلًا - فتاة تمشي في الطريق وهي في آخر درجة من الخلاعة تمرُّ بها امرأة أخرى دونها في الخلاعة ، هي خليعة هي متبرِّجة ، ولكنها دونَها في الخلاعة ، لكن الفرق بين الأولى والأخرى أن الأولى أخذت بمظاهر الخلاعة الحديثة ، أما الأخرى فأخذت بمظاهر الخلاعة القديمة ؛ يعني صارت الموضة موضة قديمة ، مثلًا كانوا قديمًا يلبسون الملاءة أو الجلباب القصير إلى نصف الساق ، الآن طاح هذا كله وصار إلى الركبتين ، وربما إلى ما فوق الركبتين ، فإذا مرَّت مثل هذه بتلك التي لا تزال تحتفظ بالحجاب القديم وهو ليس شرعيًّا ، فتمرُّ الأولى بهذه ، فإذا جاوزتها التفتَتْ هذه وهي تظنُّ أنها متمسِّكة بالشرعية ، التفتَت لتنظر مستنكرة ، فهذا يوحي إلينا بماذا ؟ أنها مات الشعور منها بالمنكر الذي هي فيه ؛ هذا أمر خطير جدًّا ، وشُغِلت فقط بالمنكر الأكبر ؛ هذا الإحساس فقط هو الذي لا يزال حيًّا فيها ، أما الشعور بأنها كشفت عن ساقيها وكشف عن شيء شعرها وربما عنقها هذا لم ... شيئًا مذكورًا في قلبها ؛ لذلك إذا كان المسلم الحريص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيجب ألَّا يقف شرعًا عند المرتبة الأولى ، فإذا نظر ولم يتمكَّن من الإنكار من المرتبة الأولى فله فسحة ؛ قد جعل الله له فسحة أن ينكر بلسانه ، وإن فرضنا أنه كُمَّ فمه - أيضًا - ولم يستطع أن ينكر المنكر بلسانه ، فالله لا يؤاخذه ؛ لأن الأحكام الشرعية كلها مَنوطة بالاستطاعة ، ومنها هذه المنازل والمراتب ؛ فقد صرَّح فإن لم يستطع فإن لم يستطع ، ( من رأى منكرًا فليغيِّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ؛ وذاك أضعف الإيمان ) .

إذًا لا أتصوَّر مسلمًا غيُّورًا يدخل الجامعة تعلُّمًا أو تعليمًا ، والفرصة مُتاحة له لِيُعلِّم ما يعتقد أنه الحق من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألَّا يتعاطى هذا التدريس ؛ لأنه يرى المنكرات ، قد جعل الله - عز وجل - لهذه المنكرات بالنسبة للأفراد علاجًا ؛ تغيِّر المنكر إن استطعت بيدك ، وإلا فبلسانك ، وإلا فبقلبك ؛ وذلك أضعف الإيمان .

ولا ينجيه الفرار من الواقع ؛ يعني إذا لم يرضَ بنفسه أن يدخل الجامعة - مثلًا - ليتعلَّم أو يعلِّم لأنه لا يستطيع أن ينكر بيده ، بل ولا يستطيع أن ينكر بلسانه ؛ فلا فرقَ بين كونه في الجامعة من هذه الحيثية ، وبين كونِه خارج الجامعة ، فنحن مُحاطون بالمنكرات أينما ذهبنا وأينما حَلَلْنا ؛ فما هو المخرج ؟ المخرج هو الحديث نفسه بمراتبه الثلاثة ؛ لذلك فالتعلُّل بانتشار المنكرات في المدارس وفي الجامعات لِمُفاصلتها ومُبايَنَتِها هذا لا نرى له وجهًا من الشرع ما دام أن مراتب الإنكار واضحة وهي ثلاثة كما ذكرنا ، نعم قد يكون بعض الناس يشعر بضعفٍ في نفسه ، فيخشى على نفسه الفتنة ، أنا أقول حين ذاك : حسبُ هذا الإنسان الذي يخاف على نفسه الفتنة لا يخاف أنه لا يستطيع أن ينكر فقط ، وإنما يخاف هو أن ينحرف مع المنحرفين ، وأن يضلَّ مع الضالين ؛ حينئذٍ نقول لك - أيضًا - : اتَّق الله ما استطعت ، تخاف على نفسك فابتعد عن مواطن الخوف ، ولكن لا تجعل ذلك شريعةً ، ولا تجعل ذلك نظامًا تفرضه فرضًا وتُوجبه إيجابًا على كل المسلمين ؛ لأن الناس ليسوا متساوين في ذلك ، فنحن نعلم - مثلًا - أن مِن نصائح النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأبي ذرٍّ أن قال له : ( يا أبا ذرٍّ ، إني أراك ضعيفًا فلا تتولَّ على اثنين ) ؛ لا تكن أميرًا ورئيسًا على اثنين ؛ ليه ؟ عنده ضعف شخصية ، والذي يريد أو الذي ينبغي أن يكون أميرًا ينبغي أن يكون حازمًا قويَّ الإرادة ، فلكلِّ حالةٍ لَبُوسها .

فإذا كان أحدنا يخاف على نفسه أن يدخل مجتمعًا خاصًّا فيه منكرات لا لأنه لا يستطيع أن ينكر بالمرتبة الأولى ولا المرتبة الثانية ؛ هذا لا عذر له بعد أن أفسح الشارع له بإنكار المنكر ولو بقلبه ، ولكن إذا كان خَشِيَ على نفسه الانحراف والضلال مع الضالين الذين يظنهم فحينئذٍ نقول له : هذا وشأنك ، أما أن تجعل هذا مذهبًا ودعوةً تفرض ذلك على الناس فهذا فيه خراب الدنيا والدين في آنٍ واحد ؛ لأن هذه الجامعات مهما كان فيها من الانحراف ومهما كان فيها من منكرات فنظامها لا يزال إسلاميًّا ، وأقلُّ ما يُقال فيها : إن الخير فيها غالب على الشَّرِّ ، وهكذا الدنيا ، الدنيا كلها الخير فيها والشَّر ، فالمجتمع الصالح هو الذي يغلب الخير فيها الشَّرَّ ، والعكس بالعكس ، أما أن يتطلَّب الإنسان خاصَّةً في آخر الزمان مجتمعًا خاليًا من المنكرات فهذا لا سبيل إليه ؛ من أجل ذلك قال - عليه الصلاة والسلام - - أي : بيانًا لِمَا قلتُه من التفصيل بين أن يخشى على نفسه فهذا له شأنه ، وبين أن يفرض ذلك على غيره فليس له ذلك - قال - عليه الصلاة والسلام - : ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ مِن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ) .

فهذه المخالطة تتطلَّب جهادًا ولا شك ، ومن الجهاد أن يصونَ نفسه عن الانحراف ، ومن الجهاد أن يأمر بالمعروف على التفصيل السابق ؛ فمَن لا يستطيع أن يحافظ على نفسه بل يخشى عليها فله أن يلزم المسجد ولا يخرج منه إلا لبيته ؛ لأن الناس لا يُفترض عليهم جميعًا أن يكونوا دعاةً وأن يكونوا منطلقين ؛ هذا واجب أو فرض كفاية ، فليس هو فرض عين يجب على كلِّ فرد من أفراد المسلمين ؛ إذًا الذي يخشى على نفسه فهو شأنه ، لكن لا يفرض ذلك على غيره ، فالواقع يُكذِّب هذا الفرض ككثير من الناس ، وأنا منهم ، عشت الجامعة وما تأثَّرت بها ، بل أثَّرت فيها ، وكذلك غيري لا يزال كذلك ؛ فلماذا نفرض على الناس أمورًا أفراد منَّا يحسُّون بها ثم يتخيَّلون أن كلَّ الناس هم كذلك ، هذا أعتقد أنه انحراف خطير جدًّا له ما بعده .

نسأل الله - عز وجل - أن يحفَظَنا منه ومن أمثاله .

غيره ؟

مواضيع متعلقة