بعض الشُّبَه يطرحها بعض السائلين يقول : بلغنا عن بعضهم بأنك تقول : " اجتهد السلف في الفروع ، ونحن نجتهد في الأصول " ، ومثَّل لذلك بأنك تقول : " إنَّ لله أعيُنًا " ؛ ما صحة ذلك ؟ ويقول آخر : كيف تدعون إلى اللامذهبية وتلاميذكم يقلِّدونكم ، ويقولون عن الصحابة : " هم رجال ونحن رجال " ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
بعض الشُّبَه يطرحها بعض السائلين يقول : بلغنا عن بعضهم بأنك تقول : " اجتهد السلف في الفروع ، ونحن نجتهد في الأصول " ، ومثَّل لذلك بأنك تقول : " إنَّ لله أعيُنًا " ؛ ما صحة ذلك ؟ ويقول آخر : كيف تدعون إلى اللامذهبية وتلاميذكم يقلِّدونكم ، ويقولون عن الصحابة : " هم رجال ونحن رجال " ؟
A-
A=
A+
السائل : هذه بعض الشُّبَه يسأل عنها بعض السائلين ، يقول الأول : بلغنا عن بعضهم بأنك تقول : " اجتهد السلف في الفروع ، ونحن نجتهد في الأصول " ، ومثَّل لذلك بأنك تقول : " إنَّ لله أعيُنًا " ؛ ما صحة ذلك ؟ ويقول الآخر : كيف تدعون إلى اللامذهبية وتلاميذكم يقلِّدونكم ، ويقولون عن الصحابة : " هم رجال ونحن رجال " ؟

الشيخ : سبحانك هذا بهتانٌ عظيم !! نحن أوَّلًا لا ندَّعي الاجتهاد ، وإنما ندَّعي الاتباع ، وإن اجتهدنا فنجتهد في ما لم يجتهد فيه مَن كان قبلنا ، إن علماء الأمة الإسلامية بإخلاصهم في علمهم وفي دعوتهم لأمَّتهم إلى العمل بالكتاب والسنة لم يَدَعوا قولًا لقائلٍ يأتي من بعدهم ، من هدينا وعقيدتنا ما نقوله في مناسبات شتَّى - ولعل ذلك كان في الأمس القريب أو الذي قبله - نقول : إذا جاء عن علماء المسلمين قولان في مسألة واحدة ؛ نحن نقول : لا يجوز لأحد أن يُحدِثَ قولًا ثالثًا ، بل هو عليه أن يختار - إن كان من أهل العلم والاختيار - قولًا من هذين القولين ، وإذا افترضنا أن هناك ثلاثة أقوال ؛ فعليه أن يختار قولًا من هذه الأقوال الثلاثة ، ولا يجوز له أن يُحدِثَ قولًا رابعًا ؛ فكيف نحن نجتهد في الأصول وأولئك اجتهدوا في الفروع ؟ هم اجتهدوا - جزاهم الله خيرًا - في الأصول وفي الفروع ؛ لم يَدَعُوا مجالًا لأحدٍ بالاجتهاد في الأصول وفي الفروع بما تستغني الأمة الإسلامية عنها في كلِّ زمان وفي كلِّ مكان ، ولكنهم أمروا المستعدِّين لفهم الكتاب والسنة بما أوتوا من علمٍ أن يأخذوا من حيث أخذوا هم ، وألَّا يقلدوا إمامًا بعينه كما قلنا في الأمس القريب ألَّا يتخذوا التقليد دينًا ، ألَّا يجعلوا تقليد إمام معيَّن لهم دينًا ، وإنما يتَّبعون كل واحد منهم فيما أصاب فيه حقًّا مطابقًا للكتاب والسنة ، وكما قلت آنفًا : إنما نحن إن اجتهدنا مع بعض إخواننا من أهل العلم فإنما نحن نجتهد فيما لم يسبق لأولئك الأئمة أَنْ تكلَّموا في ذلك ؛ وإلا كنا تبعًا لما قالوا ؛ إما كانوا متفقين فنحن معهم في اتفاقهم ، وإما كانوا مختلفين فنحن مع قول من أقوالهم كما قلنا آنفًا .

أضرب لكم مثلًا مما يقع اليوم ويحتاج الناس فيه إلى فتوى من الشرع لم يكن من قبل ؛ حشو الأضراس والأسنان المنتخرة فنًّا في الطب معروفًا ، ولذلك حدث الآن أنَّ الإنسان لا سيَّما إذا شاخ وأسنَّ أن أسنانه تنتخر ولا بدَّ من حشوها ، وجاء السؤال التالي : هل يجوز حشو الضرس ؟ جاء بعض العلماء المقلِّدين بجواب فيه غرابة كما ستسمعون ؛ وهو أنه لا يجوز حشو الضرس ؛ لماذا ؟ لأنَّ الضرس حين يُحشى يمنع وصول الماء إليه ، والمضمضة في الغسل فرض عند هذا الشخص ، وهو الذي نرجِّحه نحن أنَّ المضمضة في الغسل فرض ، فإذا ما حشا الضرس لم يصل الماء إلى المكان الذي كان وصل إليه النخر ؛ ولذلك فلا يجوز حشو هذا الضرس !

ما هو الجواب الآن لمثل هذه المسألة ولا نجد في كتب الفقهاء في كلِّ المذاهب ذكرًا لهذه المسألة ؛ لأنها لم تكن معروفة لديهم ؟ ومثلها الصلاة في الطائرة كما تحدثنا عنها في الأمس القريب ، وذكرنا لكم كيف أنَّ بعض المقلدين أفتى وهو يحذِّر من الاجتهاد أفتى واجتهد بجواز الصلاة في الطائرة ، وليس له سلفٌ من الأئمة الذين يقلِّدهم ، كذلك نحن نأتي الآن بمثال جديد : مَنِ الذي يجيب الجواب المطابق للكتاب والسنة ؟ آلَّذي يقلد الكتب ويبحث عن عين المسألة في الكتب الفقهية التي تحوي الألوف المؤلَّفة من الفروع بحيث لا يستطيع أحفظ الناس أن يحيط بها علمًا ؟!

أنا أذكر لكم الآن مثالًا يؤيِّد ما أنا بصدده الآن : بعض المُفتين عندنا في سوريا - وفي هذا عبرة فانتبهوا واعتبروا - ، جاء سؤال إلى أحد المفتين الكبار من صاحب ثلَّاجات يدَّخر الفواكه واللحوم ، جاءه يومًا رجل أرمني - أي : نصراني ، هناك الأرمن في سوريا منتشرون - ، هو نصراني ، فعرض على هذا المسلم أجرًا باهظًا فيما إذا ادَّخر له لحم الخنزير في ثلَّاجاته ، وتعلمون أن المسلم الغيور على دينه لا يكاد يسمع بذكر اسم خنزير إلا ويقف شعر رأسه ، فهو لمَّا سمع هذا العرض نفر قلبه ، ولكن هابته نفسه ، لكنَّه تردَّد بين الطَّمع وبين الخوف من الله - عز وجل - ، قال : لا بد من أن أسأل المفتي حتَّى أكون على بيِّنة من أمري وديني ، ذهب إلى المفتي في دائرته ، وحكى عليه القصة قال له : اذهب واكتب سؤالك ، وقدِّمه إلينا ، ونعطيك الجواب ، قدَّم إليه السؤال فيما بعد قال له : ارجع إلينا بعد أسبوع ، فرجع إلى المفتي الأكبر بعد أسبوع قال : ما حصَّلنا الجواب ، وهكذا ثلاثة أسابيع هو يتردَّد على المفتي الأكبر لينالَ الجواب ؛ هل يجوز للمسلم أن يدَّخر لحم الخنزير لنصراني ؟ في الأسبوع الأخير - وهو الثالث - دخل عليه ، دقَّ الباب ، السلام عليكم ، وعليكم السلام ، فقابله بالبشر والسرور المفتي ، قال : حصَّلت لك الجواب ، شوفو هذا الاجتهاد البالغ العظيم ، بعد ثلاثة أسابيع المفتي على المذهب الفلاني استطاع أن يحصِّلَ الجواب لمثل هذه المسألة السَّهلة السمحة ؛ علمًا - كما تعلمون - أنَّ المفتي تحت يده موظَّفون يكلِّفهم كل واحد يراجع كتاب كتابين إلى آخره ، وأعطاه الجواب وختمه إيَّاه ، ما كاد الرجل يخرج من الغرفة إلى الفسحة أخذ يقرأ الجواب من أوَّله إلى آخره ، ما يفهم هل هو حرام أم هو حلال ؟ يعيد القراءة مرَّة بعد مرَّة لم يفهم شيئًا ، عنده سائق سيارة قصَّ عليه القصة ، قال له : يا شيخ ، اقرأ لي هذه الفتوى والله أنا ما فهمت منها شيئًا ، أنا سألته : يجوز ولَّا لا يجوز ؟ قرأه ، فكان موقفه موقف نفس الرجل ، قال : لا ، ما نفهم ؛ في بعض الأقوال لا يجوز ، في بعض الأقوال يجوز ، في بعض الأقوال الأجر حلال ، وفي بعض الأقوال الأجر حرام ، وهكذا .

أخيرًا قال له : تعال أنا أدلُّك على شخص ما هو مفتي ، هو ساعاتي - هو أنا يعني - ؛ لأني أنا - والحمد لله - ساعاتي ، وما توظَّفت وظيفة في الدنيا أبدًا ، جاءني هذا وذاك معًا قدَّما إليَّ الفتوى ، وقصَّا عليَّ القصة ، فعجبت مما جاء في الفتوى ؛ ذلك لأن المفتي لم يجتهد ، وإنما قلَّد الكتب التي يستند عليها في الإفتاء ، يقول - مثلًا - : جاء في الكتاب الفلاني لو أنَّ مسلمًا استأجره ذمِّيٌّ على أن يبني له كنيسة هل يحلُّ له ذلك ؟ قال الإمام الفلاني - يعني أي من أئمة المذهب - : يجوز ويطيب له الأجر ، وقال الإمام الفلاني : لا يجوز ولا يحلُّ له الأجر ، ورواية أخرى أو قول آخر من كتاب آخر : رجل استأجره ذمِّيٌّ على أن ينقل له الخمر على دابته ؛ هل يجوز ؟ وهل يحلُّ له الأجر ؟ أيضًا أقوال متعارضة متناقضة ، في الختام يقول المفتي الأكبر : ومما سبق يتبيَّن الجواب !!

وما أظن أحد منكم يفهم الجواب !! لأن الجواب بناءً على أقوال متناقضة ، وحُقَّ له ذلك ؛ لأنه مأخوذ عليه العادة بأن لا يفتي بخلاف ما بين يديه من الكتب أوَّلًا ، وبأنه لا يجوز له أن يجتهد ثانيًا ؛ ولذلك فهو نقل هذه النقول وأدَّى وظيفته ، ولو أنه لم يفتِ سائله ، وإنما أتى بالقولين المتناقضين .

وهذا يذكِّرني في نكتة قد تكون هي خياليَّة ، ولكنها تتصل بسبب وثيق إلى هذه القصة الواقعية ؛ زعموا بأنَّ أحد المفتين في قديم الزمان عرض له سفر ، فكَّر مَن يخلفني من بعدي في مركزه هذا في فتواه ، قال لأبيه : يا أبت ، أنا الآن على سفر فاخلُفْني من بعدي . قال : كيف وأنا لا أُحسِنُ العلم ؟ قال : أنا أدلُّك على طريقة تستطيع أن تتخلَّص مع السائلين على اختلاف أسئلتهم . قال : ما هي ؟ قال : كلَّما جاءك سائل وأنت لا تعرف الجواب قل له : يا أبت ، في المسألة قولان ، يجوز هذا مثلًا ، وقع الطلاق ولَّا ما وقع ، في المسألة قولان ؛ يجوز ولا يجوز ، وهكذا كان هذا الوالد الذي خلفَ ابنَه من بعده ، كان يقول في كلِّ مسألة : في المسألة قولان ، وكما قيل في بعض الآثار - ويظنُّ بعض الناس أنه حديث مرفوع إلى الرسول عليه السلام ، وهو حديث باطل - : " من قلَّد عالمًا لَقِيَ الله سالمًا " ، فأنت تذكر أن في المسألة قولين ، انتهى الأمر !!

لاحظ هذا الجواب الرُّوتيني الكليشة المذمومة المطبوعة لا تتغيَّر من هذا الوكيل عن ابنه ، لاحظ ذلك أحد الأذكياء فقال له ذات يوم - وهو يريد مثل هذا الجواب - قال : يا حضرة الشيخ ، أسألك سؤالًا ؟ قال : تفضل . قال : أَفِي الله شكٌّ ؟ قال : في المسألة قولان .

... هو العلم المعمول اليوم عند الذين لا يتبنَّون هذا المنهج السلفي ! نعود إلى حشو الضِّرس ؛ لم يستطع ذلك العالم أن يُبيحَ للرجل الذي انتخر ضرسه أن يحشوه عند الطبيب ؛ لأنه سيظلُّ جُنُبًا طيلة حياته ؛ وبالتالي لا صلاة له ! وأنا لا أتكلَّم خيالًا ، قصة وقعت عندنا في دمشق الشام ؛ فارق الوالدُ ولدَه لأنه حشا أضراسه خلسةً عن أبيه ، ولما نَمَا إليه خبره طلب منه أن يخلَعَ أضراسه !! قال : أنا ما أستطيع ؛ أوَّلًا : أنفقت أموالًا طائلة . وثانيًا : يوجد هناك من أفتاني بالجواز . وثالثًا : في مشقة .

دخلت الوسائط بين الأب والابن ، أخيرًا اقتنع والده بأنَّه هو يتنازل عن رأيه بشرط واحد أن يُؤتى إليه بفتوى من المفتي الأكبر ، وهذا المفتي غير المفتي السابق الذي ذكرت قصَّته الذي لم يجب في جواز أو تحريم أجر ادِّخار لحم الخنزير . ذهب الوسطاء وسطاء الخير إلى المفتي وقصُّوا عليه القصة ؛ هل يجوز حشو الضرس ؟ قال المفتي : نعم ، يجوز . قال السائل : بس القصَّة أنَّ أحد الآباء - وهو رجل عالم - فعل كذا مع ابنه ، فنحن نريد حجَّة أن نُقنِعَه بذلك ؛ فما هو الدليل ؟ فقال : الدليل عندنا في المذهب نصٌّ - اسمعوا هذا النَّصَّ ، وتأملوا معي هذا القياس ، ثم انظروا في هذا القياس مع السنة الصحيحة - قال المفتي الأكبر : يجوز حشو الضرس قياسًا على حشو الرَّجل . قال : جاء في كتب الفقه إذا تشقَّقت الرجل في أيام الشتاء الباردة ، وبخاصة بالنسبة للفلاحين ؛ حيث تكون أعقابهم متحجِّرة فتتشقَّق وقد تسيل منها الدماء ، فأفتى العلماء قديمًا بأنه يجوز حشو هذه الشقوق لمنع أذى الماء البارد للرجل ، فقال المفتي - جزاه الله خيرًا لأنه أباحه - ، لكنه أباحه بطريق قياس حشو الضرس على حشو الرِّجل ، لم يقنع الوالد ذاك الولد بهذه الحجَّة المنقولة من المفتي إليه ، وإنما طلب فتوى رسمية . قال : ليضَعَها معه في كفنه ، وتكون حجَّة بينه وبين ربِّه ، أنُّو أنا رضيت عن ابني بناءً عليه رأي المفتي ، عاد الوسيط إلى المفتي وطلب منه فتوى رسميَّة ؛ لأن الوالد ما اقتنع بمجرَّد النقل من الوسيط ، فأجاب المفتي - وهنا أيضًا - موضع تعجُّب كبير - : لا نستطيع أن نُعطي فتوى رسمية ؛ لأننا لا نجد نصًّا بجواز حشو الضرس ، وإنما هذا قلته برأيي ، فرجع الوسيط بخُفَّي حنين كما يقال .

جاء دوري أنا يومئذٍ وأنا شابٌّ في نحو الخامسة والعشرين أو الثلاثين من العمر ، فذهبت إلى المفتي ولخَّصت له ما وقع بينه بين الوسيط ، فوافق ، قلنا : الوالد لم يقتنع ، فنرجو أن تُعطِيَنا وريقة قال : يا شيخ ، أنا ما أستطيع . قلت له : ما عندك دليل ؟ قال : بلى . قلت له : هذا الدليل الذي عندك سجِّله . قال : ما أستطيع . فرجعت أنا - أيضًا - بدوري بخُفَّي حنين !! هذا من المفتي الأكبر في سوريا ، وذاك كذلك . اسمعوا الجواب الآن من الشاب الصغير ، بالنسبة للأول لما جاء الرجلان التاجر صاحب الثلَّاجات مع سائقه إليَّ وقرأت الفتوى قلت : معكم الحق ، لا يمكن لأحد أن يأخذ منه جوابًا حاسمًا ، لكن اسمع يا أخي ، أنت لو لم تكن عالمًا لكنَّك عربي سوري ، فإذا قلت لك : قال الله - تبارك وتعالى - : (( وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ )) ؛ أنت بحاجة إلى أن نشرح لك هذه الآية ، وأنها تحرِّم التعاون على الإثم والعدوان ؟ قال : لا والله ، ما لي بحاجة . قلت له : فأنت ألا تعتقد معي بأنك إذا احتفظت بلحم الخنزير لذلك النصراني في ثلَّاجاتك ؛ ألسْتَ تُعينه على الإثم والعدوان ؟ قال : بلى . قلت : فإذًا حرام عليك أن تدَّخرَ هذا اللحم النَّجس الرجس ، وحرام عليك أن تستحلَّ الأجر ، ثم ذكرت له حديث : ( لعن الله في الخمر عشرة ، ولعن الله آكل الربا ، وموكله ، وكاتبه ، وشاهديه ) ، هذان الحديثان شرحٌ لتلك الآية الكريمة : (( وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ )) . فقال لي : جزاك الله خيرًا ، لست بحاجة إلى أكثر من ذلك . وانصرف وهو مطمئن ، وردَّ ذلك الأرمني النصراني بخُفَّي حُنين - أيضًا - .

أما بالنسبة للضِّرس فجرى بيني وبين بعضهم - لم يتيسَّر لي مناقشة المفتي ؛ لأنَّكم تعلمون أن المفتين لا يمكن مناقشتهم - قلت لأحد من يتحمَّس لتحريم حشو الضرس قلت : هناك حديث ، وهناك فرع فقهي ؛ أما الحديث فهو الذي جاء في " مسند الإمام أحمد " والسنن وغيرها من الكتب عن عرفجة بن سعد - رضي الله عنه - أنَّه كان قد أُصيبت أرنبة أنفه في وقعة كُلاب - وقعة كانت في الجاهلية ، أرنبة أنفه طاحت - ، فاتَّخذ أنفًا من ورق - أي : من فضة - ، فأنتَنَ عليه . - نحن نعلم بحكم مهنتي في تصليح الساعات أن الفضة كالحديد والنحاس يصدأ صديدًا أخضر ، فهو لمَّا وضع هذا الأنف المُستعار من الفضَّة بسبب اتصاله بالرطوبة الأنفية ، تراكمت عليه الأصداء وأنتن أنفه - فشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أسلم ، فأمره - عليه الصلاة والسلام - بأن يتَّخذَ أنفًا من ذهب .

قلنا لذاك الشيخ : يا شيخ ، أيُّهما صاحب الأنف أحوج إلى أن يتَّخذ أرنبةً من ذهب أم صاحب الضرس ؟ صاحب الضرس كما يعلم الجميع من كان طبيبًا ومن كان مريضًا كل هؤلاء وهؤلاء يعلمون أن الذي أُصيب في أضراسه بحاجة إلى حشوها أكثر من وضع أرنبة الأنف ؛ لأن هذه الأرنبة إنما تُعيد كمال الصورة ، أما حشو الأضراس فإنَّما تُعيد هضم الطعام الذي تقوم عليه صحَّة الأبدان ، فإذا كان الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - الذي حرَّم الذهب على الرجال رخَّص لهذا الرجل أن يتَّخذ أنفًا من ذهب لِيُعيد خلق الله إلى أقرب ما يكون جمالًا وكمالًا ؛ فهو من باب أولى يُبيح للرجل الذي انتخرت أضراسه أن يحشُوَها ذهبًا ، قال لي - وهو يجادلني - قال لي : هذا الأنف ما في عندنا نصٌّ في هذا الحديث ؛ مع أنه لا يعمل بالحديث ؛ لأنه مقلد جامد بالمرَّة ، قال : ليس في الحديث أنَّ هذا الأنف كان ثابتًا . يقول : هذا الأنف ممكن أن يكون مثل طقم الأسنان ، لمَّا الإنسان يأكل أو يتوضَّأ يخلعهم ويغسلهم ثم يكتسيهم ، يمكن أن هذا الأنف كان من هذه الطريقة ، قال وهو يمكن وضعه بعد غسله . قلت : لا ، لو كان الأمر كذلك لَمَا أنتن أنفُه الأول الذي كان من الورق - أي : من الفضة - ، لو كان يغسله كلَّما توضأ ما تراكمت الأصداء والأوساخ على أنفه . هذا دليل من السنة .

دليل من أقوال الأئمة الذين هو يقلِّدهم ، لكن الإنسان إذا سدَّ على نفسه البصيرة التي أمَرَ الله كلَّ مسلم بها لم يَعُدْ يرى الحق مهما كان جليًّا ظاهرًا ؛ جاء في متون كتب الحنفية قالوا : ويجوز شدُّ الأسنان بالسِّلك ، أي : السِّنُّ الذي يتحرَّك ولما يقع بعد ، يجوز شده بالسِّلك ، فقلت لذلك الشيخ المتعصِّب للمذهب ، قلت : هذا الشَّدُّ سيأخذ من مكان السِّنَّين المشدودَين أحدهما السِّنَّ المريض المتحرك ، والآخر السِّن الجامد الثابت ، حينما يُربط أحدهما بالآخر فهذا السِّلك سيأخذ من كل من السِّنَّين جانبًا يمنع وصول الماء إلى ما بين السِّلك وما بين عظم الضرس ، وهم يقولون : لو بَقِيَ في الفم مكان رأس إبرة لم يَصِلْ الماء إليه فغسله باطل ، هنا مش رأس إبرة إنما رؤوس إبر تمنع أن تصل الماء إليها ، فإذا جاز هذا جاز ما هو مثله وأكثر منه ؛ لأنَّ العلة واحدة ؛ وهي عدم وصول الماء . ما اقتنع ولا اقتنع ؛ ذلك لأنهم لا يسلكون السبيل التي نحن ندعو الناس إليها جميعًا كلًّا بحسبه ؛ قال - تعالى - : (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ )) .

نريد من جميع الجماعات الإسلامية أن يتَّفقوا معنا أوَّلًا : فكرًا وعلمًا أن المنهج الذي ندعو إليه هو المنهج الحق ، ثانيًا : أن يمشوا معنا بقدر ما يستطيعون في كلِّ ما ثبت في الكتاب والسنة ، ولا يقولوا كما قال ذلك المفتي الجاهل : في المسألة قولان ، ومن قلَّد عالمًا لَقِيَ الله سالمًا .

هذا ما يسَّر الله لي - أيضًا - جوابا عمَّا جاء في ذاك السؤال .

مواضيع متعلقة