بيان حقيقة الاتباع للنصوص الشرعية ، وأقسام الناس في ذلك . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
بيان حقيقة الاتباع للنصوص الشرعية ، وأقسام الناس في ذلك .
A-
A=
A+
عيد عباسي : المسألة الثانية التي يركِّز عليها السلفيون هي مسألة الاتباع ؛ مسألة طريقة الأخذ أخذ الأحكام ، وطريقة التفقُّه في الدين ؛ شائع لدى الناس خاصَّة في العهود المتأخرة أن على كلِّ إنسان إذا بلغ سنَّ الرشد عليه أن يأخذ مذهبًا من المذاهب الأربعة هو مذهب والده - مثلًا - ، فيتفقَّه فيه ويلتزمه ولا يخالفه في مسألة من المسائل ، ويقلِّده تقليدًا ولا يسأل عن الدليل ولا يسعى إلى الاجتهاد ؛ لأن الاجتهاد قد أُغلِق ، ولأنه ليس أمامه إلا التقليد ، هذه المسألة - أيضًا - خطيرة وهامة ، ويخالف فيها السلفيون جمهورَ الناس ؛ فهم يرون أن الأصل في التفقُّه في أحكام الشرع الأخذ من الكتاب والسنة مباشرةً اتباعًا لقول الله - عز وجل - : (( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا )) "" تتخذوا "" (( مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ )) .

سائل آخر : (( وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ )) .

عيد عباسي : (( وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ )) .

فالأصل إذًا أخذُ الأحكام من الكتاب والسنة ، لكن من المعروف أن الناس يتفاوتون في ذلك ، وأنه ليس في مقدور كلِّ إنسان أن يأخذ من الكتاب والسنة ، وخاصَّة بعدما فشا اللحن وبَعُد الناس عن لغة العرب وعن السليقة العربية وعن الفطرة ، فأصبحوا غريبين عن لغة القرآن ولغة الحديث النبوي الشريف .

ولا شك أنه من المعروف من قواعد الشريعة أنه إذا لم يستطع الإنسان أمرًا فإنه يُكلَّف بما دونه ، فلم يستطع هذا الإنسان الأخذ من الكتاب والسنة ، أخذ أحكام دينه من الكتاب والسنة مباشرةً ؛ فـ (( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا )) كما قال - تبارك وتعالى - ، فيُنزل درجة في ذلك إلى الاتباع ، وهم ممَّا نختلف فيه عنهم أنهم يقولون : ما فيه اتباع ، فقط إما مجتهد وإما مقلَّد ، وهذه مكابرة ، وهذا في الواقع عناد ؛ لأنه مخالف لِمَا هو مشاهد ولما هو محسوس ، فأنت ترى في الناس مَن هو عالم قد بلغ من العلم شوطًا بعيدًا ؛ قد تفقَّهَ في لغة العرب ، وقد درس علم أصول الفقه ، وقد أخذ وسائل الاجتهاد ؛ فهذا هو المحتهد الذي يتفق الكلُّ على أنه يجوز له الأخذ بالكتاب والسنة ، بل يجب عليه مباشرةً .

وهناك باقي الناس غير هذا الإنسان نحن نرى صنفين اثنين ، وإن كانا يتفاوتان فيما بينهما ؛ فيهما مراتب كثيرة ، هذان الصِّنفان هما عامة الناس الذين لا عناية لهم بالعلم ولا دراسة لهم بالدين ، فهؤلاء الذين يُسمَّون مقلدين ، هؤلاء إذا تلوتَ عليهم الآية لا يفقهونها إلا ما ندر من الآيات الواضحة الصريحة ، وإذا ذكرت لهم الحديث لا يستطيعون أن يعرفوا معناه أو يعرفوا الطريقة التي يعرفون صحَّته من ضعفه ، فهؤلاء (( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا )) يُكلَّفون أن يسألوا أهل العلم ، لكن عليهم أن يبذلوا جهدهم - أيضًا - في اختيار أهل العلم الموثوقين الذين لا تعصُّبَ لديهم ، والذين هم ثقات في دينهم وفي علمهم ، ومع ذلك فليس عليهم أن يلتزموا واحدًا بعينه من هؤلاء ، وإنما عليهم كما قال الله - تبارك وتعالى - : (( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )) ، لا تعلمون اسألوا أهل الذكر ؛ لم يحدِّد واحدًا بعينه ، وإنما يكون ذلك حسب ما يتيسَّر ، تيسَّر له فلان ممَّن يثق في علمه ودينه فيسأله ، تيسَّر له في مرة أخرى آخر فيسأله ولا يضيِّق على نفسه ويحبِّب تقليده لعالم معيَّن .

هناك بين هذا المقلِّد وبين ذاك المجتهد ناس كثيرون لهم عناية بعلم دراسة للغة ، دراسة للعلوم الشرعية ، دراسة للقرآن ، للتفسير ، للحديث ؛ فهؤلاء لا نستطيع أن نقول : إنهم مثل أولئك الأولين ، أو المقلِّدين ؛ إنهم يختلفون عنهم ، وإننا نظلمهم حينما نسوِّيهم بهم ، لا شك أن لهم فضلًا عليهم ، ولا يجوز أن نعاملهم مثلهم ؛ فإنهم إذا ذُكرت لهم الآيات والأحاديث عرفوا معانيها أو تفقَّهوا في أكثرها بالجملة ، قد تخفى عليهم طبعًا بعض المعاني ، لكن إذا استعانوا ببعض العلماء يفقهونها ويفهمونها ، فهؤلاء عليهم أن يبذلوا جهدَهم ، وجهدُهم هو يحصل بأن يعرفوا الحكم الشرعي عن طريق عالم من العلماء ، ويعرفوا دليله الذي وَصَلَ به إلى الرأي الذي يتبنَّاه ؛ هؤلاء يستطيعون هذا ؛ فكيف نسامحهم ونتساهل معهم فنقول لهم : يكفي أن تقلدوا ؛ تسأل العالم : إيش حكم الشرع في هذا ؟ فيقول لك : كذا وكذا ، أنت بإمكانك إذا ذُكِرَ لك الدليل أن تفقهَه ؛ فلم تتنازل عن ذلك ؟ ولم تتساهل ؟ مع أنك في أمور الدنيا إذا كنت تاجرًا - مثلًا - فلا تكتفي بسؤال المختصِّ بذلك سؤالًا مُجملًا وعارضًا ، وإنما ... وتدقِّق وتحاسب وتقارن وتسأل أكثر من واحد ، لِمَ في أمور الدين تفعل ذلك وفي أمور الدنيا ، في أمور الدنيا تفعل ذلك وفي أمور الدين تتهاون وتتساهل ؟ هل أمر دينك أهون عليك وأضعف عندك وأقل شأنًا من أمور دنياك ؟ إنك إن كنت كذلك فما أخسرك وما أضلَّك !

فلا شك أن هناك مرتبة وسط بين المقلد والمجتهد ... هو الذي يطَّلع ... مستعينًا بعالم مجتهد بعد أن يفقَهَ دليله ، ويطَّلع على حجته ويقتنع بها ، ويرجِّح من أقوال العلماء ... في نفسه ... .

هذا موقف السلفيين من مسألة أخذ الأحكام الشرعية ومسألة التفقُّه في الدين ، وباعتقادنا أنه هو الموقف الحقُّ العدل الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط .

مواضيع متعلقة