الكلام على مسألة القيام للآخرين ، وذكر بعض الأحاديث الواردة في ذلك مع الكلام عليها ، وذكر موقف الصحابة وبعض تأويلات المجيزين والرَّد عليها . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
الكلام على مسألة القيام للآخرين ، وذكر بعض الأحاديث الواردة في ذلك مع الكلام عليها ، وذكر موقف الصحابة وبعض تأويلات المجيزين والرَّد عليها .
A-
A=
A+
الشيخ : وإنما أردْتُ أو عزمْتُ على الكلام على جزئيَّة من الجزئيات التي فشَتِ اليوم في مجالس المسلمين ، وبناءً على كلمة الأخ المشار إليه سابقًا أن الشَّيخ إذا دخل المجلس فللناس الجالسين أن يجلسوا أن يظلُّوا جالسين وأن يقوموا ، فنحن نقول : إذا دخل الشَّيخ مجلسًا فليس لأحد أن يقوم له ؛ لأن هذا الشَّيخ مهما سَمَا وعلا فلن يكون من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - شيئًا مذكورًا ، وقد علمنا من السنة الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو سيد البشر ، وأن أصحابه - عليه الصلاة والسلام - هم أفضل البشر بعد الأنبياء والرسل ؛ فإذًا هم أعرف الناس بما يستحقُّه أعظم الناس وسيِّد الناس وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التَّبجيل والإكرام والتعظيم ، كيف لا ؟ وقد سمعوه - عليه الصلاة والسلام - يقول لهم مرارًا وتكرارًا : ( ليس منَّا مَن لم يرحم صغيرنا ويوقِّر كبيرنا ويعرف لِعالمنا حقَّه ) ، هذا حديث رواه إمام الأئمة محمد بن إسماعيل البخاري في كتابه " الأدب المفرد " من طرق عديدة وعن جماعة من الصحابة ، ومما روى - أيضًا - : ( أن من إجلال الله - من تعظيم الله - إجلال ذي الشَّيْبَة المسلم ) .

فإذًا هؤلاء الصحابة الذين تأدَّبوا بأدب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتخرَّجوا من مدرسته ، وصاحبوه ما شاء الله - عز وجل - من السنين كلٌّ بحسبه ، ما كان لهم أن لا يعظِّموا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - التعظيم الذي يستحقُّه ، ما كان لهم إلا أن يعظِّموا الرسول - عليه السلام - التعظيم الذي يستحقُّه ؛ فهل كان من ذلك أنه إذا دخل عليهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في مجلس كهذا - وبدون تشبيه كما يقولون - هل كان أحدٌ منهم يقوم له ؟

إذا رجعنا إلى السنة الصحيحة وجدنا الجواب صريحًا بالنفي ، وذلك - أيضًا - مما رواه إمام الأئمة في الكتاب السابق الذِّكر " الأدب المفرد " : عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : " ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وكانوا لا يقومون له ؛ لِمَا يعلمون من كراهيته لذلك " .

فإذًا أصحاب الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كانوا لا يقومون لسيِّدهم ؛ بل سيد الناس جميعًا ، ترى أَهَذَا استهتار منهم ولا مبالاة بتعظيم الرسول - عليه السلام - وإكرامه الإكرام الذي يليق ويجوز شرعًا أم هو تجاوب منهم مع نبيِّهم - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي أفهَمَهم بأن هذا القيام هو من عادة الأعاجم ، وقد نهوا - كما أشرنا في مطلع هذه الكلمة - في أحاديث جمَّة عن التشبُّه بالأعاجم يعني الكفار ؟

لا شك أن عدم قيامهم للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما كان من احترامهم له وتعظيمهم له ؛ لأن الله - عز وجل - يقول : (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ )) ، فاتِّباع الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - حق الاتباع ، وذلك يستلزم أن يُعرِض الإنسان عن أهوائه وعن عواطفه تجاه أمر نبيِّه - صلى الله عليه وآله وسلم - وسنَّته ؛ لذلك كان أصحاب الرسول - عليه السلام - لا يقومون له ؛ لماذا ؟ الجواب في نفس الحديث : " لِمَا يعلمون من كراهيته لذلك " .

فرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يكره من أصحابه أن يقوموا له ، تُرى لماذا ؟ بعض الناس ممَّن اعتادوا مخالفة هذه السنة ممَّن يقومون لغيرهم وممَّن يُقام لهم يتأوَّلون هذا الحديث بغير تأويله ، ومع ذلك فتأويلهم هذا يعود عليهم ولا يرجع إليهم ، يقولون : " لِمَا يعلمون من كراهيته لذلك " ؛ أي : الرسول - عليه السلام - كان متواضعًا ، كان أشدَّ الناس بلا شك تواضعًا ، فمِن تواضعه أنه لا يحبُّ أن يقوم الصحابة له . نحن لا نسلِّم بهذه العلة ، نحن نسلِّم أن الرسول - عليه السلام - بلا شك أشد الناس تواضعًا ، لكن لا نسلِّم أبدًا بأن هذه العلة ، وسنذكر ما هي العلة ، لكن نقول لهؤلاء المتأوِّلين بهذا التأويل : فما بالكم أنتم لا تتواضعون تواضع الرسول - عليه السلام - ؟ ألسْتُم أنتم أولى بأن تتواضعوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟! الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا قال للناس : ( صلوا عليَّ ) - وكلام يجُرّ كلام كما يقولون - ( صلوا عليَّ ) تدرون ما المعنى ؟ يعني ادعوا لي بأنه الله بيزدني شرفًا ومجدًا وعلوًّا ومنزلة ، هذا قد يخالف التواضع ، لكن نحن نقول حينما يأمر الناس بأن يصلوا عليه إنما يأمرهم بأمر الله له أن يأمرهم بأن يصلوا عليه ؛ لأن ذلك أقل ما يستحقُّه الرسول - عليه السلام - بسبب أنه كان هدايةً للناس كما قال - تعالى - في القرآن : (( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) .

فإذا كان الرسول - عليه السلام - لم يتواضَعْ هذا التواضع فلا ضيرَ عليه ، لكن أنتم عليكم الضَّير كله ؛ لأنه يُخشى عليكم الفتنة ، يُخشى عليكم أنكم إذا اعتَدْتُم من الناس أن يقوموا لكم أن يدخل الشيطان ، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، أن يدخل فيكم الشيطان دخولًا خاصًّا ، فيغيِّر من أخلاقكم ومن عاداتكم وأطباعكم ، فيصبح أحدكم إذا دخل المجلس ولا يقوم واحد من المجلس وكأنما كفر بالله ورسوله !! ماذا فعل هذا الإنسان ؟ أقل ما يُقال كما سمعتم حكاية منَّا آنفًا أنُّو له أن يقوم وله أن لا يقوم ، فهذا ما قام ، لماذا قامت عليه القيامة ؟ لأنهم فهموا أن هذا القيام دليل احترام ، وتركه دليل إهانة وعدم الإكرام ، تُرى الصحابة هذا كانوا مع الرسول - عليه السلام - ؟ كانوا لا يكرمونه ؟ كانوا يهينونه بترك القيام ؟ حاشا وكلَّا ، لكن لما انحرف الفهم الصحيح لهذا الحديث كراهية الرسول - عليه السلام - بذلك " لِمَا يعلمون من كراهيته لذلك " انحرف بهم الأمر ، فقالوا : الإكرام للقيام لا بأس به ، لماذا كان أصحاب الرسول لا يقومون للرسول ؟ تواضعًا منه ، هكذا يقولون !! نقول : تشبَّهوا برسول الله واقتدوا به ، وتواضعوا تواضعه ، ولا تطلبوا من أصحابكم أن يقوموا لكم ، بل أشيعوا بينهم أنكم تكرهون هذا القيام ؛ فماذا تكون النتيجة والعاقبة ؟ كما كان الأمر بين الرسول - عليه السلام - وبين الصحابة ، يدخل الرسول المجلس لا أحد يقوم ، إهانةً له ؟ حاشا ، لماذا ؟ إكرامًا له - عليه السلام - ؛ لأنه كَرِهَ منهم ذلك ، فلو أننا نحن الذين ننتمي إلى العلم وننتمي إلى التَّمشيخ سَلَكْنا سبيل الرسول - عليه السلام - في كل شيء ، ومن ذلك نكره ما كَرِهَه - عليه السلام - خاصَّة من مثل هذه الآداب الاجتماعية التي تُفسد القلوب وتُفسد الأخلاق ؛ كنَّا في مجتمع ليس كهذا المجتمع ، كنَّا في مجتمع ليس فيه تقاليد الأعاجم الكفار .

أما الجواب الصحيح لقول أنس بن مالك السابق الذكر : " لِمَا يعلمون من كراهيته ذلك " كراهيةً شرعيَّة ، الرسول يكره هذا القيام ؛ لماذا ؟ لأنه من عادة الأعاجم ، وقد سمعتم آنفًا حديث جابر وهم وقفوا خلف الرسول - عليه السلام - قيامًا ، لِمَن ؟ ولماذا ؟ تحقيقًا لنصِّ القرآن الكريم : (( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ )) .

إذًا ما قاموا لمحمد - عليه السلام - القاعد في صلاته مضطرًّا ، وإنما قاموا لله ربِّ العالمين ؛ أي : نيَّتهم تعظيم الله - عز وجل - لا غير ، ماذا فعل معهم الرسول - عليه السلام - ؟ ما صبر حتى انتهى من صلاته ، وإنما عجَّلَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأشار إليهم في الصلاة بيده أن اجلسوا ، بعد الصلاة شَرَحَ لهم بلسانه وبيانه ؛ فقال : ( إن كِدْتُم لَتفعلُنَّ آنفًا فعل فارس بعظمائها ؛ يقومون على رؤوس ملوكهم ) .

مواضيع متعلقة