إتمام الكلمة السابقة بتبيان وتوضيح معنى الشهادة الأخرى وهي : أشهد أن محمَّدًا رسول الله . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
إتمام الكلمة السابقة بتبيان وتوضيح معنى الشهادة الأخرى وهي : أشهد أن محمَّدًا رسول الله .
A-
A=
A+
الشيخ : بسم الله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وآله وصحبه ومَن والاه .

أعود لإتمام كلمتي السابقة قبل صلاة العشاء ، فأقول :

تبيَّن مما سبق أننا نحن - معشر المنتمين إلى السلف الصالح - لنا عناية خاصَّة بدعوة المسلمين عامة إلى فَهْم التوحيد الصحيح والإيمان به إيمانًا جازمًا على أساس أن ذلك هو سبب النجاة في الدنيا والآخرة ، وشرحنا ذلك بالقدر الوافي والكافي - إن شاء الله - .

وأضيف إلى ما سبق أن شهادة لا إله إلا الله باتفاق علماء المسلمين لا تكفي ولا تُغني عن تمامها ؛ ألا وهي الشهادة لنبيِّنا - صلوات الله وسلامه عليه - بالنبوة والرسالة ؛ فلو افترضنا أن شخصًا ما آمَنَ بالله إيمانًا صحيحًا جازمًا على التفصيل المعروف والإجمال السابق الذكر ، ثم لم يؤمن برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نبيًّا رسولًا ؛ فشهادته تلك الأولى لا تفيده شيئًا ؛ لذلك أو تأكيدًا لهذا الذي نقول جاء في " صحيح مسلم " وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( ما من رجل أو ما من أحد من أمتي من يهودي أو نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ) ؛ لذلك كانت هذه الشهادة الثانية تمام الشهادة الأولى باتفاق المسلمين جميعًا والحمد لله .

ولكن كما أن الشهادة لله - عز وجل - بالوحدانية لها معنى صحيح ، وأن هذا المعنى الصحيح يجب أن يقترن به الإيمان الجازم ؛ كذلك الشهادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه رسول الله يجب أن نتنبَّه للوازم هذه الشهادة ؛ إنَّنا نحمد الله أنه لم يقع في هذه الشهادة الثانية من سوء الفهم ما وقع لجماعة من المسلمين من سوء الفهم للشهادة الأولى ، ولكن وقع لهم ذهول وغفلة شديدة جدًّا عن لوازم هذه الشهادة الأخرى ؛ ألا وهي أن محمدًا رسول الله ؛ هذه الشهادة لها لوازم إذا انتفت من الذي تشهَّد بها فربَّما - أقول : ربما - لم تُفِدْه هذه الشهادة شيئًا ، أو أفادته شيئًا يسيرًا جدًّا ؛ ذلك لأن شهادة المسلم الموحِّد حقيقةً للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنه رسول الله يستلزم الاستسلام التام فيما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، التصديق الإيمان الجازم بأن محمدًا رسول الله يستلزم من هذا المصدِّق المؤمن الاستسلام لكل ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وهنا يظهر فرق آخر بين المسلمين السلفيين اليوم وبين المسلمين الآخرين ، ذلك لأن المسلم السلفي يُطبع منذ نعومة أظفاره على هذا الاستسلام الذي هو شرط الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وذلك بصريح النَّصِّ في القرآن ؛ ألا وهو قوله - عز وجل - : (( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )) ، (( وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )) .

اليوم - مع الأسف الشديد - جماهير المسلمين لا يُنشَّؤون ولا يُربون ولا يُؤدَّبون بهذا الأدب القرآني العظيم : (( وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )) ؛ بل هم على مذاهب شتى كلها لا تلتقي مع هذا اللازم من الشهادة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة ؛ فبعضهم - وهم جمهورهم - نُشِّئوا ورُبُّوا على التسليم لِمَا يقوله المذهب ، وإذا قيل لهم : قال الله قال رسول الله لم يرفعوا بهما رأسًا لشبهات ووساوس شيطانية لا صلة لها بالشريعة الإسلامية ؛ نحن ما نفهم القرآن ، نحن ما نفهم السنة ، الذين فهموا قضوا ومضوا وهم الأئمة ، لا أريد - أيضًا - الدخول في تفاصيل هذه المشاكل والرَّد عليها ، وإنما أنا أعني عرضًا سريعًا عاجلًا ؛ فبعضهم هكذا لا يستسلم للكتاب والسنة ، وإنما يستسلم للمذهب ، وشرٌّ من ذلك أولئك الذين يستسلمون لمشايخ الطرق ، والذين - أعني هؤلاء المشايخ - الذين يربُّون مَن يسمُّونهم بالمريدين يربُّون مريديهم على مثل قولهم في دروسهم ومواعظهم : " مَن قال لشيخه : لِمَ ؟ لا يفلح أبدًا " ، وعلى قولهم : " المريد بين يدي الشَّيخ كالميت بين يدي الغاسل " ؛ فهو يقلِّبه كيف يشاء ولا حراكَ به كما هو واضح .

الاستسلام الذي جَعَلَه ربُّنا - عز وجل - في القرآن الكريم من خصوصات نبيِّنا سيد المرسلين نقلوه عنه إلى شيوخهم إلى مذاهبهم .

ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أذكِّر بأن هناك فرقًا جوهريًّا بين المذاهب وبين الطرق ، فالمذاهب أئمَّتها الأربعة هم من كبار علماء المسلمين ومن علمائهم ومن المتَّبعين للكتاب والسنة على أنهم كبشر يخطئون ويصيبون ، لكنهم ما ربَّوا أتباعَهم ولا حملوا أصحابهم على أن يقلِّدوهم تقليدًا أعمى ، بل أمَرُوهم أن يأخذوا من حيث أخذوا من الكتاب والسنة ، أيضًا هذه نقطة لا مجال الآن للتفصيل فيها ؛ لا سيَّما وهناك مؤلفات معروفة عند الكثيرين منكم .

ثم في أتباعهم مَن لم يصل الأمر بهم إلى هذا الاستسلام الأعمى ، لكن جماهيرهم كما وصفنا آنفًا ، أما الطرق فهناك حدث عن الشَّرِّ ولا حرج ؛ فهم الذين لا يزالون ينشِّئون أتباعهم ومريديهم على هذا التقليد ، بل على هذا الاستسلام الأعمى ؛ حتى كان بعضهم في الشام ، وأظن أن ذلك يكون في كل زمان وفي كل مكان يصرِّح أمام الحاضرين من الجماهير يقول : إذا رأى أحدكم الصليب معلَّقًا على عنق شيخه لا يجوز له أن ينكر عليه ، والإنكار على الشَّيخ هو مفتاح الخروج عن أدب الطريق ؛ لأن الطريق مبني على هذا الاستسلام الأعمى ، هؤلاء فريق استسلموا إما للمذهبية الضَّيِّقة من المتأخرين أو للطُّرق المنحرفة عن الصراط المستقيم من مشايخ الطرق . ويُقال لهؤلاء من جماهير الناس اليوم وخاصة منهم الشباب المثقَّف الذين يحكِّمون عقولهم فيما جاء عن الله ورسوله ؛ فإذا ما ذكرت لأحدهم نصًّا من كتاب الله أو حديثًا من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بادَرَك بقوله : هذا غير معقول ، هذا يخالف المصلحة ، هذا لا يتمشَّى مع الزمن الحاضر ، إلى آخر ما هنالك من تعابير كلها تلتقي مع الطائفتين الأوليين من عدم الاستسلام لربِّ العالمين .

هذا بلاء فاشٍ منتشر بين صفوف المسلمين اليوم ، ولا أحد يعالج هذه الأمور الخطيرة التي تلتقي كلها بالشهادة الأخرى وأن محمدًا رسول الله التي تستلزم الاستسلام لكل ما جاءنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ طبعًا على طريقة أهل الحديث ؛ أي : ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .

فهذا الطريق وهو فَهْم الشهادة بالمعنى الصحيح والإيمان الجازم والتطبيق لذلك في منطلق اللسان في حياته من حيث أنه لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ، وهذا الاعتراف للرسول - عليه السلام - بالرسالة التي أو الذي يستلزم الإيمان الجازم الصادق بكلِّ ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما صح عنه ؛ هذا المنهج - مع الأسف الشديد - لا يسلكه ولا يطرقه ولا يمشي عليه إلا مَن ينتمي إلى دعوة الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح - رضي الله عنهم - .

أما الجماهير الذين لهم نشاط في الدعوة الإسلامية فَهُم بلا شك يعملون للإسلام ، ويدعون إلى الإسلام ، ولكننا نرى ونعتقد اعتقادًا جازمًا أن كل دعوة لا تقوم أوَّلًا على أساس الفهم الصحيح للشهادتين على نحو ما ذكرنا ولو بإيجاز ، وعلى فهم الإسلام على منهج السلف الصالح كما شرحنا ذلك دائمًا وأبدًا ؛ كل دعوة لا تقوم على هذا الأساس فمصيرها الفشل المحتوم ؛ ذلك لأنها تخالف الأصل الأول الذي بَعَثَ الله - عز وجل - من أجله الرسل وأنزل الكتب ؛ كمثل قوله - تعالى - : (( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )) و (( إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا )) ، فهذا التوحيد يستلزم عبادة الله وحده كما ذكرنا ، وهذه الشهادة للرسول بالنبوَّة والرسالة يستلزم الاستسلام لأحكامه لا لشيء آخر لا لمذهب ولا لطريق ولا لعقل ، واتباع هذه الأمور هو مما ينافي التوحيد توحيد الألوهية من جهة ، وتوحيد الرسالة والنبوَّة من جهة أخرى ، فمحمد رسول الله وحده لا رسالة معه سواها ؛ فمَن اتبع مذهبًا أو اتبع طريقًا أو رجَّح عقلًا ... أو بأستاذ أو مرشد على ما جاء في الكتاب والسنة فهو لم يؤمن إيمانًا صادقًا بالكتاب والسنة ، ولا بأن محمدًا رسول الله .

كيف ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد أنزل الله عليه في كتابه مُخبِرًا عن أهل الكتاب عن النصارى بقوله : (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ )) ، فقوله - تعالى - : (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ )) لم ينزِّل هذه الآية الكريمة فقط قصة عن طائفة من أهل الكتاب لنتسلَّى بها ، وإنما لنأخذ منها عبرةً تتعلق بالتوحيد أو بما يُناقضه من شرك ، فإذا قال الله - عز وجل - في حقِّ النصارى : (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ )) إلى آخر الآية ، ومعنى ذلك كما جاء في شرحه في التفاسير القائمة على الرواية والأثر أنهم كانوا يتَّبعون رهبانَهم وعلماءهم فيما يحلِّلون وفيما يحرِّمون ، (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ )) لأنهم كانوا إذا حرَّموا لهم حلالًا حرَّموه ، وإذا حلَّلوا لهم حرامًا حلَّلوه ، قال الرسول : ( فذاك اتِّخاذكم إياهم أربابًا من دون الله ) .

ولا فرق بين مسلم يشهد أن لا إله إلا الله يقع في شرك وبين آخر لا يشهد أن لا إله إلا الله يقع في شرك ؛ هذا شركٌ سواء وقع من زيد أو من محمد أو من أحمد ممَّن ينتمي إلى الإسلام أو جورج أو أنطونيوس أو أمثاله ممَّن لا ينتمي إلى الإسلام ؛ فالشرك شرك ، ومن هذا الشرك اتباع المشايخ فيما يحلِّلون وفيما يحرِّمون دون نصٍّ من كتاب الله أو من حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ لذلك جاءت الآيات والأحاديث كلها تحضُّ المسلمين دائمًا وأبدًا على الاستسلام للرسول لا لسواه .

وهذا - أيضًا - بحث يطول ، وإنما أنا مذكِّر ... فقط بهذه الفوارق التي توجد اليوم بين مَن ينتمون إلى الإسلام وما يدعون إليه .

فإذًا لتحقيق هاتين الشهادتين اللَّتين هما أساس الإسلام يجب على الدعاة الإسلاميين أن يحقِّقوا ذلك في قلوب الناس جميعًا ، الذين يلونهم ، ثم لا يعنيهم بعد ذلك استجاب لهم الكثير أو القليل ؛ لأن الله - عز وجل - خاطبَ نبيَّه - عليه السلام - بقوله : (( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا )) ، وقد أخبَرَ الرسول - عليه الصلاة والسلام - أنه عُرِضَت عليه الأمم ؛ فعُرِضَ عليه النبي ومعه الرهط والرهطان ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد . هذا الحديث يُعطينا فائدة هامة نردُّ بها على بعض المسلمين الذين يفخرون علينا بأنَّ عددهم كثير وعددنا قليل ، كما جاء في الشعر :

" يعيِّرنا أنَّا قليلٌ عديدنا "

بعدين ؟

السائل : ... .

الشيخ : " فقلت لها : إن الكرام قليلُ "

وبعدين ؟

السائل : " وما ضرَّنا ... " .

الشيخ : " وما ضرَّنا أنَّا قليلٌ عديدنا " .

السائل : " أنَّا قليل مزارنا " .

الشيخ : " وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليلُ " .

ما يضرُّنا هذه القلة ؛ لماذا ؟ لِمَا سمعتم من الحديث السابق ؛ عُرِضَ على الرسول - عليه السلام - الأنبياء ومعه الرهط ؛ يعني تسعة أنفار فما دون ذلك ، والرهطان ؛ يعني ثمانية عشر فما دون ذلك ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد إطلاقًا ؛ فماذا يدلُّنا هذا الحديث ؟ هل يدل على أن ذاك النبي الذي لا يتَّبعه أحد مطلقًا ، أو النبي الذي فوقه قليلًا اتَّبعه الرجل والرجلان ، أو النبي الذي اتَّبعه الرهط والرهطان أنه كانت دعوته باطلة ، أو كان أسلوبه في الدعوة باطل ؟ حاشا ، يمكن أن يُقال عن كل داعية هو غير نبي أن دعوته باطلة ؛ يمكن هذا ؛ لأنه ليس معصومًا ، وأن أسلوبه غير صحيح وغير سليم ، يمكن أن يُقال ذلك ؛ لأنه غير معصوم أيضًا ، أما أن يُقال هذا وهذا في حقِّ نبيٍّ ما كان متَّصلًا بوحي السماء فهذا هو الكفر بالإسلام ؛ إذًا لماذا لم ينجح ذلك النبي الذي لم يؤمن به أحد أو لماذا لم يكثر أتباع أولئك الأنبياء بل كانوا قليلين ؟

ذلك لأن الأرض كانت غير صالحة ، أما الثمر فكان ثمرًا صالحًا ؛ لأنه وحي السماء ، فإذا قيل : إن الدعوة السلفية مضى عليها كذا من الزمن والناس المنتمون لهم قليلين ، بينما دعوة أخرى أتباعها كثيرون ؛ فنحن ليس من ميزاننا في دعوتنا هذه الحق أن نتوصَّل إلى معرفة الحق بالكثرة والقلة من التابعين ؛ لا ، هذا ليس ميزانًا للإسلام إطلاقًا ؛ لذلك فنحن نلحُّ في دعوة هالملايين المُمَلينة من المسلمين إلى اتباع الكتاب والسنة ؛ وبخاصَّة إلى فَهْم الشهادتين كما شرحنا فهمًا صحيحًا ، ثم أن نجعل ذلك منهاج لنا في حياتنا ؛ في حياتنا الخاصة قبل كل شيء ، ثم في حياتنا العامة ؛ فنحن إذا سَلَكْنا هذا السبيل فنحن على يقين أن ينصرنا الله - تبارك وتعالى - ولو بعد حين ؛ لأنَّ نصر الله - عز وجل - ليس في طاقة البشر أن يحدِّدوها بزمن ، ومن جهل بعض الناس الذين يزعمون أنهم يدعون إلى الإسلام أنهم يتنبَّؤون أن الخلافة الراشدة ستقوم بعد كذا سنة ، بعد خمس سنوات ، بعد عشر سنوات ، بعد تسع سنوات ؛ سمعنا شيئًا من هذا ، وهذا من الجهل بالإسلام في المكان الخطير ، وهم يرون أن المسلمين اليوم كما وَصَفَهم الرسول - عليه السلام - أبدع وصف وأصدقه حين قال : ( ستداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ) . قالوا : أَوَمِن قلَّةٍ نحن يومئذٍ يا رسول الله ؟ قال : ( لا ، بل أنتم يومئذٍ كثير ) ثمان مئة مليون مسلم !! ( ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعَنَّ الله الرهبة من صدور عدوكم ، وليخلفَنَّ في قلوبكم الوهن ) . قالوا : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : ( حبُّ الدنيا وكراهية الموت ) .

نحن وإياهم نرى هذا الوهن قد سيطر على جماهير المسلمين بالإضافة إلى الانحرافات الجذرية في فهم الإسلام في الشهادتين كما سبق شرحه ، بالرغم من كل هذا وهذا يؤمن بعضنا أن الإسلام ستقوم دولته بعد خمس سنوات ، هيهات هيهات لِمَا توعدون . لذلك الحقيقة أنه يجب أن نبدأ بفهم الإسلام وبتطبيقه في أنفسنا ، ثم في ذرارينا ، ثم في جيراننا ، ومن حولنا ، وهكذا حتى ينتشر الإسلام الصحيح ، وهذا الانتشار سيكون من آثاره وجود الكتلة التي يتكلَّف كثير من الدعاة الإسلاميين تكتيلها وتشكيلها وجعلها حقيقة قائمة ، ولكن كهيكل وصورة ليس له قلب وليس فيه العلم الذي ننشده وندندن حوله .

فالقضية ليست قضية تكتُّل قائم على عدد كثير ، ولكنَّه غثاء كغثاء السيل علمًا وعملًا وأخلاقًا .

لذلك أنا أوافق كثيرًا كلمة تُروى عن أحد الدعاة الإسلاميين في العصر الحاضر ، ومن إعجابي لها أو بها أقول : كأنها من وحي السماء ، وهي بلا شك حكمة بالغة ؛ ألا وهي الكلمة التي تقول : " أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تُقَمْ لكم في أرضكم " ، هذا من أجمل الكلام الذي نسمعه في هذا الزمان ، وهذا معناه عظيم وعظيم جدًّا ؛ لأنه يستلزم أمرين اثنين ، أنا أقول : إنهما أساس الإصلاح الذي يجب أن يقوم عليه الدعاة الإسلاميين ، الكلمتين اللتين هما " التصفية والتربية " ، هذا الرجل الفاضل الذي يقول : " أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم " ، الإسلام اليوم له مفاهيم كثيرة ، فإذا رجعنا للتاريخ القديم وما له من ذيول نجدها اليوم في الدراسات في الأزهر وفي غير الأزهر ؛ إذا رجعنا إلى القرون الماضية فنجد الإسلام له عشرات المفاهيم في العقيدة فضلًا عن العبادة والأحكام الشرعية .

واليوم - أيضًا - لا نزال نعيش في هذا الخلاف الكثير والكثير جدًّا ، والذي يظهر آثاره في المساجد وفي البيوت وفي النوادي ونحو ذلك ؛ فحينما يقول هذا القائل : " أقيموا دولة الإسلام " أبمفهوم واحد هو المفهوم الذي كان عليه السلف الصالح كما ندَّعي نحن ، أم بأيِّ مفهوم كان ولو كان بمفهوم منحرف عن الكتاب والسنة ؟! لا إخال ولا أظنُّ أن مسلمًا له ثقافة لا بأس بها في الشريعة الإسلامية يجيب : بأيِّ إسلام كان ، ما أظن يقول هذا قائل ، وإنما سيقول : إسلام مُستَقَى من الكتاب والسنة ، وهذا الذي ندين الله به ؛ فأين الدعاة الإسلاميون الذين يدعون ثمان مئة مليون مسلم على وجه الأرض وهم منبثُّون في هذه الأقاليم والأقطار البعيدة ، ومنبثُّون في هذه الملايين المملينة كلهم يدعون المسلمين إلى الرجوع إلى فَهْم الكتاب والسنة فهمًا صحيحًا ، وعلى منهج السلف الصالح ؛ لا يوجد إلا أفراد قليلين يضيعون وتضيع أصواتهم في خضمِّ هذا البحر الزاخر من العدد الكثير .

على العكس من ذلك نسمع صيحات في كلِّ مكان تقول : إن المسلمين ما تأخَّروا ولا أُهِينوا ولا ذُلُّوا إلى بسبب تركهم العمل بالكتاب والسنة ، وهذا كلام حق ، لكن مَن هم الذين يفهمون الكتاب والسنة ؟ وأين هدي الكتاب والسنة ؟ يجب أن يكون الكتاب والسنة أمر واقعًا ملموسًا في حياة المسلمين .

لقد حدَّثَني منذ أيام قريبة أقل من أسبوع أن رجلًا سافر إلى جنوب إفريقيا ، فذهب إلى قرية إسلامية ... بعد المسلمين من مسلمي الهند أو الباكستان - أنا أشك - ، قال : فذهبت أنا وزوجتي لزيارتهم والتعرُّف والاطِّلاع على أحوالهم ، قال : فرأيت أمرًا عجبًا ، رأيت ما لم أره في العالم الإسلامي كله ؛ رأيت حياة إسلامية تذكِّرنا بحياة السلف الصالح ، فتمشي في الطرقات فلا ترى امرأة متبرِّجة ، تمشي في الطرقات - ولا مؤاخذة من شبابنا اللي بيقولوا بحلق اللحى - فلا تجد هناك شابًّا حليقًا ، تجد الشباب الناشئ المراهق قد بدا ... وهو لم يمسَّ لحيته بشيء ، فخجلت يقول هو ، هو صاحبي الذي يحدثني ممَّن نشأ في هذه المجتمعات التي ليست تحيا حياة إسلامية ، فهو ليس فقط حليق اللحية ، بل وحليق الشارب أيضًا ، يعود نقول : نحن هنا ، ونتستَّر عن المباحث والمخابرات من هالتعليلات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، قال : فأنا لما رأيت هذا المظهر الإسلامي الرائق خجلت من نفسي ، قلت : كيف هذا نحن نعيش في بلاد إسلامية وهؤلاء يعيشون في بلاد وثنية ؟! لكن في هناك الحكَّام لهم فيما يبدو حتى الآن - ولا نرجو أن يستمرَّ هذا - لهم حرية ، ما يسمُّونه بالديمقراطية ، كل مين على دينه الله يعينه ! هدول مسلمين بدهم يعيشوا حياة خاصَّة سمحوا لهم بذلك ، قلت وتحدَّثت - أيضًا - مع زوجتي أنا ، زوجته يقول : متحجِّبة ، لكن بأنو حجاب ؟ الحجاب الشامي ، اللي بيحاول يرضِّي الدين من جهة ، ويرضِّي هالواقع والتيار الجارف من جهة ، فهي متحجِّبة ، لكن شو حجابها ؟ ما يسمُّونه بالإيشارب ، يمكن أقل سير منها يبدو ناصيتها ... الرأس والشعر ، قد يبدو شيء من العنق ، وثوبها يصل إلى نصف الساقين ، فالنصف الأسفل ظاهر ، ولو كان مستور بالجورب ، إلى آخره . قال : فسُرِرت جدًّا بهذا المظهر الإسلامي يعيشه هؤلاء المسلمون في بلاد لا تحكم بما أنزل الله ، لكن بسبب الحرية المعطاة هناك للأفراد ... . =

... ...

= ... أنا أحدِّثكم بهذا كمظهر بلا شك يسرُّ ، لكني لا أستبعد - وهنا العبرة لِمَن يعتبر - أن يكون هؤلاء المسلمون - مثلًا - من الطائفة القاديانية ، وهم ليسوا كذلك ؛ فما تفيد هذه الظاهرة إذا كانت العقيدة خرابًا يبابًا ؟ لا شيء . هذه الطائفة من أهل السنة ، لكن من أهل السنة على منهج السلف الصالح ؟ لا ، على مذهب معيَّن ؛ فلو أن هؤلاء كانوا جمعوا بين التطبيق للإسلام الظاهر وبين العقيدة الإسلامية الصحيحة التي نحن ندندن حولها لَكُنَّا اعتبرناها نموذجًا للدويلة الإسلامية ، ويكون هذا كتحقيق لأمر ذلك المصلح حين قال : " أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم " .

فنحن الآن نعيش وفي بيت كلٍّ منَّا الذي لم تصل النُّظُم الحاكمة اليوم والجائرة والتي تفرض نظامًا يخالف الكتاب والسنة ؛ مع ذلك حتى الآن - ونرجو أن يستمرَّ هذا - فهم لم يتدخَّلوا في شؤوننا الداخلية ، كيف أعيش في بيتي ؟ كيف أعيش مع ولدي في البيت ؟ مع ذلك اليوم لا تجد إلا نادرًا جدًّا البيت المسلم ؛ لماذا ؟ لسببين اثنين : أوَّلًا : لم نحقِّق التصفية . ثانيًا : لم نحقِّق التربية . بمعنى : آباؤنا الذين خَلَفْناهم من بعدهم جئنا مِن بعدهم هم ما ربُّونا هذه التربية ، فإذا هم قصَّروا - ومَن رأى العبرة في غيره فليعتَبِرْ - فعلينا نحن إذًا أن نحقِّق فَهْمَ الإسلام فهمًا صحيحًا ، ونطبِّقه بالمقدار الذي نتمكَّن منه ، فإذا نحن كنا نحاول جميعًا وكلٌّ بأسلوبه إقامة الدولة المسلمة ، وهذا يحتاج - كما يُقال في الشام عندنا - إلى هز أكتاف ، إقامة الدولة المسلمة كلمة سهلة ، لكن تحتاج إلى أمور عظيمة وعظيمة جدًّا ، ليس هو فقط التنظيم والتكتُّل على لا أساس ، قبل كل هذا نحتاج إلى الفهم الصحيح والتطبيق الصحيح في المقدار الذي نستطيعه ولا أحد يحول بيننا وبينه ، أما إقامة الدولة المسلمة كل دول الدنيا ضدنا ، لكن لا أحد ضدنا في بيوتنا ، فما بالُنا ندع تحقيق الدويلة في بيوتنا الصغيرة المتواضعة ثم نصيح ونعلن أننا نريد إقامة الدولة المسلمة على الرغم من الطغاة والجبَّارين والكافرين و و إلى آخرهم أجمعين ؟! هذا في الواقع مغالطة من سبل الشيطان في إضلاله لبني الإنسان أن يُشغله لتحقيق حلم جميل جدًّا جدًّا ، لكن دون الوصول إليه العثرات وخرط القتاد كما يُقال ، يلهيه بذلك عن أن يحقِّق ما في طَوقه وما في قدرته من تحقيقه بنفسه في أهله وأولاده .

لذلك أعود فأقول : هذه الكلمة أصابت - كما يقال - المحزَّ لمعالجة مشكلة العالم الإسلامي اليوم حين قالت : " أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تُقَمْ لكم في أرضكم " ، وإقامة الدولة المسلمة كما قلت تتطلَّب قبل كل شيء أن يتكتَّل طائفة من الناس على فَهْم الإسلام فهمًا صحيحًا ، وعلى تربية هؤلاء الناس لأنفسهم ولأولادهم وأهليهم ولأتباعهم معهم على هذا الأساس ، ثم بعد ذلك يأتي نصر الله (( أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ )) .

لعلي استطعت أن أبيِّن الفرق بين المسلمين السلفيين وبين غيرهم ، ولا شك أن مثل هذه الكلمة تتحمَّل توسُّعًا في جوانب كثيرة من فقراتها وجملها ، ولكن لا جودَ إلا بالمستطاع حسب الوقت الحاضر ؛ ولذلك أدع الآن هذه الكلمة لأجيب عن بعض ما قد يكون عند إخواننا من بعض الأسئلة ، والحمد لله رب العالمين .

مواضيع متعلقة