حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أُرسِلَا في غَنَمٍ بِأَفسَدَ لَهَا مِن حِرصِ المَرءِ عَلى المالِ والشَّرَفِ لِدِينِهِ ) . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أُرسِلَا في غَنَمٍ بِأَفسَدَ لَهَا مِن حِرصِ المَرءِ عَلى المالِ والشَّرَفِ لِدِينِهِ ) .
A-
A=
A+
الشيخ : ثم يأتي المصنف بأحاديث ثلاثة يصف فيها الرسول - عليه السلام - تأثير حرص المسلم على دنياه الحرص الممنوع في دينه بمثال بليغ جدًّا ؛ فاسمعوا كيف يقول - عليه الصلاة والسلام - ، وهو من حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أُرسِلَا في غَنَمٍ بِأَفسَدَ لَهَا مِن حِرصِ المَرءِ عَلى المالِ والشَّرَفِ لِدِينِهِ ) .

يعني إنَّ حرصَ المسلم على الجاه والمنصب والشرف أفسد لدينه من إفساد ذئب جائع أُرسِلَ على غنم مجتمع ، وليس هناك راعٍ يحرس هذا الغنم ؛ كم يكون إفساد هذا الذئب في هذا الغنم ؟ إفساد دين المسلم بسبب حرصه على المال والشرف ونحو ذلك من حُطَام الدنيا أفسد لدين هذا الحريص من إفساد ذلك الذئب في الغنم ، أو ذئبين .

( مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أُرسِلَا في غَنَمٍ ) إلى آخر الحديث ، وتثنية الذئب هنا في الواقع فيه تنبيه إلى شدة الإفساد ؛ لأنه لو كان ذئبًا واحدًا لَرُبما فرَّت الغنم جانبًا ؛ فإذا كان هناك ذئبان فيتسلَّط هذا من هنا وهذا من هنا ، فيكون الإفساد إفسادًا بليغًا جدًّا ؛ إفساد حرص المسلم على الشرف والمال لدينه أكثر من إفساد هذين الذئبين في الغنم .

هذا الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح ، وابن حبان في " صحيحه " .

الحديث الثاني في معناه ؛ وهو قوله : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( مَا ذِئبَانِ ضارِيَانِ جَائِعَانِ بَاتَا في زَرِيبَةِ غَنَمٍ أَغفَلَهَا أَهلُهَا يَفتَرِسَانِ وَيَأكُلانِ بِأَسرَعَ فِيهَا فَسَادًا مِن حُبِّ المالِ والشَّرَفِ في دِينِ المرءِ المُسلِمِ . رواه الطبراني واللفظ له وأبو يعلى بنحوه ، وإسنادهما جيد .

الزَّريبة هي حظيرة والمكان الذي تُحبس فيه الغنم لكي لا يسطو عليها الذيب ، فسَطَا على هذه الزريبة من الغنم ليس ذئب واحد ؛ بل ذئبان ، ومن صفتهما - أيضًا - أنهما جائعان .

السائل : ... .

الشيخ : نعم ؟

السائل : ... .

الشيخ : ضاريان أيضًا .

ثم الحديث الذي بعده ، وهو الثالث في هذا المعنى ، وهو قوله : وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( مَا ذِئبَانِ ضَارِيانِ في حَظِيرَةٍ يَأكُلانِ وَيُفسِدَانِ بِأَضَرَّ فِيهَا مِن حُبِّ الشَّرَفِ وَحُبِّ المَالِ في دِينِ المَرءِ المُسلِمِ ) . رواه البزار بإسناد حسن .

قد يتساءل البعض : لماذا هذه الشِّدَّة في التحذير من حبِّ المسلم للمال والشرف ؟

فالجواب أظن يُعرف من كلمات سابقات لنا ، لكن يبدو أن المسألة تحتاج إلى تكرار لكي ترسخ المعاني الصحيحة في الأذهان ، ولو كنَّا في زمن سابق قبل خمسين أو مئة سنة لم نكُنْ بحاجة إلى مثل هذا التعليق الذي سأذكره ؛ لأن الناس كانوا من قبل - أعني بالناس طبعًا غالبهم - كانوا مقبلين على الدين ، وكانوا لا يهتمون كثيرًا بدنياهم ، ولما صِرْنا في هذا القرن الذي يسمُّونه بقرن الحضارة والرُّقي والثقافة ، وتأثَّر المسلمون بالحضارة الكافرة تأثُّرًا بالغًا كان من هذا النوع في رأيي إعطاء الدنيا وتقدير المال ما لا يستحقُّه شرعًا ، فقام كثير من الخطباء والوعَّاظ والكُتَّاب ينبِّهون المسلمين إلى ضرورة الاهتمام بدنياهم ، ولا شك أن الكلام سواء كان صالحًا أو كان طالحًا له تأثير ؛ لا سيما مع الزمن ، فأصبح المسلمون اليوم معهم ردة فعل ؛ صاروا يتهجَّمون على المال ، وعلى ما يسمونه بالنهضة وبالثقافة وبالحضارة ، فصَرَفَهم ذلك عن الاهتمام بأمر دينهم ، بل صَرَفَهم عن أن يعرفوا حقيقة أو السبب الحقيقي الذي به نَصَرَ الله - عز وجل - الجيل الأول من العرب الأولين ، وليس ذلك إلا تمسُّكهم بدينهم ، فصار الناس اليوم يهتمُّون بالمال والكسب إلى درجة أن قليلًا من الناس حتى المتديِّنين مَن يسأل أهذا حرام أم حلال ؟

أصبحوا فعلًا فَهُم في غفلة ، أصبحوا في غفلة لا يهمُّهم إلا كسب المال ، أما هذا حرام هذا حلال ؛ حتى المصلين حتى المتعبِّدين لم يعودوا يسألون ، ذلك لشدة الغفلة .

أقول : فهذه الأحاديث التي تسمعونها الآن هي المقصود بها إرجاع هؤلاء المسلمين إلى وضع المسلمين الأولين الذين كانت الدنيا في أيديهم ولم تكن في قلوبهم ، فانعكس الأمر الآن فصارت الدنيا في قلوبنا ، وشَغَلَتنا عن القيام بواجباتنا الكثيرة لا أقول الجهاد الذي جاء ذكره آنفًا في الحديث : ( وتركتم الجهاد في سبيل الله ) ؛ لأننا نقول آسفين : لا يمكن المسلمين اليوم أن يجاهدوا هذا الجهاد الذي هو من أسباب ذلِّهم إلا إذا أخذوا بالمقدمات التي تيسِّر وتذلِّل لهم هذا الجهاد ؛ ألا وهو جهاد النفس ، جهاد الهوى ، جهادك لشخصك الذي هو أقرب شيء إليك ؛ فضلًا أن تجاهد العدو ، والعدو الذي تسلَّح ودخل أرضك رغمًا عنك ، وبأسباب معروفة لدى الجميع .

فهذه الأحاديث المقصود بها إذًا تعديل كفة مسلمي العصر الحاضر الذين تكالبوا على الدنيا ، ولستم بحاجة إلى وصف هذا التكالب ؛ فحسبكم هذا التبرُّج وهذا العري وهذا التشبُّه بالكفار نساءً ورجالًا وإلى آخره ؛ كل هذا سببه المال ، وكل السبب في هذا المال هو جمعه بدون سؤال : أَمِن حرام هو أم من حلال ؟

فذمُّ الرسول - عليه السلام - لحبِّ المال والشرف إنما يعني هذا المال الذي يؤدي بصاحبه إلى مخالفة ربه ، أما المال المُكتَسَب من طريق حلال ، والمُنفَق بطريق حلال كذلك ؛ فقد سمعتم قول الرسول - عليه السلام - لعمرو بن العاص حينما أرسل إليه فقال له : ( أَلْقِ عليك سلاحك ؛ فإني أريد أن أبعَثَك بعثًا ) يعني الجهاد في سبيل الله ( وأُعطِيَك مالًا ) ، فقال عمرو : والله - يا رسول الله - ما من أجل المال آمنتُ أو أسلمتُ . انظروا هذا الجواب ، هذا الذي نريد أن نحقِّقه اليوم ، ما من أجل كسب المال نحيا ، ولا نحيا لنطمع في جمع المال للمال ، وإنما إن كسبنا مالًا فلطاعة الله - عز وجل - ؛ لذلك لما قال عمرو : والله - يا رسول الله - ما من أجل المال آمنتُ . قال له - عليه الصلاة والسلام - : ( يا عمرو ، نعمَّا المال الصالح للرجل الصالح ) . هذا المال الصالح للرجل الصالح ليس هو الذي ينصبُّ عليه هذه الأحاديث التي نحن في صددها ؛ لا سيَّما الأحاديث الأخيرة التي يذكر فيها الرسول - عليه السلام - أن حبَّ المسلم للمال وحرصه عليه وعلى الشرف أفسد لدينه من إفساد الذئبين الجائعين الضَّاريين للغنم في زريبتها .

هذا هو الذي يجب أن يتركَّز في أذهاننا أن الذَّمَّ للدنيا والذَّمَّ للمال حينما يكون مصروفًا إلى غير طاعة الله - عز وجل - .

مواضيع متعلقة