فائدة خلقية تربوية وهي : أن الأخلاق : جبلية فطرية ، ومكتسبة . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
فائدة خلقية تربوية وهي : أن الأخلاق : جبلية فطرية ، ومكتسبة .
A-
A=
A+
الشيخ : لكن نلاحظ بأن هذا الحديث لم يقل : ومن يصبر ، وإنما قال : ( ومن يتصبَّر يصبِّره الله ) ، فهنا فائدة شرعية خلقية تربوية كما يقولون اليوم ؛ هذه الفائدة هي أن الأخلاق منها ما هي جبلية فطرية ، ومنها ما هو كسبي وباجتهاد من المكلَّف ، ولا شك أن كثيرًا من الناس يُجبلون ويُفطرون على كثير من الأخلاق الطَّيِّبة الحسنة كالصبر وكالجود والكرم وكالشجاعة ونحو ذلك من الأخلاق الحسنة الصالحة ، ولكن ليس معنى ذلك أن القضية متوقِّفة على الحظِّ وعلى الفطرة والجبلَّة فقط ، وإنما هناك - أيضًا - مجال لِأَن يكتسب المسلم من هذه الأخلاق ما لم يُرزق منها فضلًا من الله - عز وجل - وخَلْقًا منه لهذا الإنسان عليها مباشرةً ، فهذا الحديث جاء ليلفت النظر إلى هذه الحقيقة ، فهو يقول : ( ومن يتصبَّر يصبِّره الله ) ؛ أي : ومن يتطلَّب ويتكلَّف أن يحمل نفسه على الصبر فالله - عز وجل - يعينه على ذلك ويصبِّره ؛ لذلك لا ييأس الرجل إذا ما لاحَظَ من نفسه ضعفًا ما في خلق ما ، فيقول : إن الأخلاق مقسومة كالأرزاق مثلًا ؛ لأننا سنقول : هذا كلام صحيح ، لكن ذلك لا ينفي أبدًا أن يتعاطى المسلمُ الأسبابَ التي يقوِّي بها في نفسه الأخلاق الحسنة التي أمَرَ الشارع بها .

ولعل الحديث المشهور والصحيح الإسناد ألا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( إنما بُعِثْتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق ) فيه لفتة نظر لطيفة إلى هذه القضية ، وإلا ما فائدة هذا البعث إذا كانت القضية مربوطة بالأشخاص الذين فُطِروا وجُبِلوا فقط ، هؤلاء الذين فُطِروا على الأخلاق الحسنة ، وجماهير الناس يذهبون هكذا سدًى وهباءً منثورًا ؛ لأنه لا سبيل لهم إلى أن يتخلَّقوا بالأخلاق الصالحة ، جواب الأمر ليس كذلك ، فالله - عز وجل - قد فَطَرَ الناس بلا شك على طبائع وعلى أخلاق ، لكنه - تبارك وتعالى - لكمال ربوبيته - أيضًا - جَبَلَهم وفَطَرَهم على ما به يتمكَّنون من إصلاح ما بهم من خلق سيِّئ ، ولولا هذا لم يكن هناك فائدة من إرسال الرسل وإنزال الكتب ؛ لأن كل إنسان سيقول : أنا وما فُطِرت عليه من خير أو شر .

هذه المسألة تمامًا لها علاقة بالسعي وتعاطي الأسباب كالمسألة الأخرى والتي هي أهم ؛ ألا وهي مسألة القضاء والقدر التي شغلت العلماء قديمًا وحديثًا علماء شرعيين أو فلاسفة دهريين وأمثالهم ، فكثير من هؤلاء حتى من علماء الشرع فَهِمُوا من القدر ما يُساوي الجبر ، وأن الإنسان لا يملك شيئًا من التصرُّف إطلاقًا ، وإنما هو القدر ؛ أي : بزعمهم الجبر ، الأمر ليس هكذا ، وإنما هناك سعي من الإنسان وإرادة وكسب ، بهذه الإرادة وهذا الكسب جاءت الأحكام الشرعية لتقول : افعل ولا تفعل ، ومن ذلك اصبر ، (( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ )) ، فلو كان الإنسان لا يستطيع - مثلًا - أن يصبر إلا إذا كان قد فُطِر وجُبِل على الصبر لم يكن لمثل هذا الأمر فائدة ، بل كان ذلك من باب من تكليف ما لا يُطاق ، وتكليف ما لا يطاق هو باب مُغلَق ليس له أصل في الشرع إلا بعض الناس الذين انحرفوا في العقيدة ، فتصوَّروا ربَّهم - تبارك وتعالى - في عزته وفي كبريائه جبَّارًا يفعل ما يشاء دون حكمة ودون أيِّ عدل ، هكذا تصوَّروه .

وأهل السنة الذين وفَّقَهم الله - تبارك وتعالى - لفهم هذه المسألة الخطيرة مسألة القضاء والقدر فهمًا لا يتعارض مع النصوص ولا مع مبادئ الأخلاق يقولون : إن الله - عز وجل - بلا شك : (( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ )) ، (( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ )) ، ولكن هذا لا ينبغي تفسيره أن يُقال : (( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ )) أي : يظلم ؛ لأنه (( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ )) ، (( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ )) ؛ لأنه جبَّار ليس فوقه مَن يأخذ بيده ويمنعه عن تصرُّفه ، ليس تأويل مثل هذه الآيات سبيله هذا التأويل ، وإنما معنى (( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ )) : ولا يريد بعباده إلا الخير ، ولا يريد لهم إلا الإيمان كما قال في صريح القرآن : (( وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ )) ، كذلك قوله - عز وجل - : (( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ )) ، ليس معنى ذلك أنه لأن لا أحد يستطيع أن يعترض سبيله ، لكن الحقيقة أن الله - عز وجل - لأنه في كلِّ ما يفعل ففعلُه لا يتجرَّد عنه سائر صفاته ومنها الحكمة ، فهو حينما يفعل شيئًا فالحكمة مقترنة بهذا الفعل ، كذلك العدل وتنزُّه الله عن الظلم ؛ كل ذلك يقترن - أيضًا - بتصرفاته - تبارك وتعالى - وأفعاله بعباده ، فحين ذاك معنى قوله - عز وجل - : (( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ )) ؛ أي : ليس هناك مجال يُسأل - سبحانه وتعالى - عمَّا فعل ؛ لأنه ما فَعَلَ إلا عين الحكمة وعين العدالة .

فمثل ما يُقال في موضوع القضاء والقدر يقال - أيضًا - في موضوع الأخلاق ؛ فلا يجوز أن نتصوَّر أن التربية الأخلاقية لا تفيد شيئًا ؛ لأن القضية تعود إلى الفطرة وإلى الجبلَّة فقط ، وإلا معنى هذا كمعنى فَهْم الجبر من القدر ؛ تعطيل فائدة إرسال الرسل وإنزال الكتب ، إذا قيل : الإنسان مجبور ؛ إذًا لماذا يُقال : إن الله - عز وجل - لكل العباد : افعل لا تفعل والإنسان مجبور ؛ كذلك لماذا نُؤمر بأن نتخلَّق بالأخلاق الحسنة ومنها الصبر إذا افترضنا أن لا سبيل إليه إلا مَن فُطِرَ عليه ، فجاء هذا الحديث لتأكيد هذه القاعدة الأخلاقية ؛ وهي أن الإنسان باستطاعته أن يخلِّق نفسه بالأخلاق الصالحة ، ومن هذا القبيل - أيضًا - الحديث المشهور وهو حديث حَسَن لغيره ، وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( إنما العلم بالتعلُّم ، والحلم بالتحلُّم ) ، كلُّ هذا يدخل في هذا الباب ، هنا يقول : ( ومَن يتصبَّر يصبِّره الله ) ، وهناك يقول : ( إنما الحلم بالتحلُّم ) ؛ أي : لا ييأس الإنسان إذا لم يُرزق حلمًا أنه لا سبيل له إلى هذا الحلم ؛ لأنه من الممكن بالتريُّض ومعالجة الإنسان لنفسه أن يخلِّق نفسه ببعض الأخلاق الصالحة التي لم يُفطر ولم يُجبل عليها .

ومن هذا المبدأ المُدعَم بالقرآن وبالسنة كما ترون نستطيع أن نفهم بطلان حديث من حيث إسناده ، وإن كان من حيث متنه ، وإن كان من حيث إسناده ضعيفًا ؛ ذلك الحديث الذي يقول : " إذا سمعتم بجبل زالَ عن مكانه فصدِّقوا ، وإذا سمعتم برجل زالَ عن خلقه فلا تصدِّقوا " ؛ لو كان هذا الحديث صحيحًا لَعَطَّلَ تنزيل الكتب وإرسال الرسل والأمر بالتخلُّق بالأخلاق الحسنة وبالتصبر وبنحو ذلك من الأخلاق ، ما دام أن الأمر صدِّقوا إذا سمعتم بزوال جبل من مكانه ولا تصدِّقوا إذا زال رجل عن طبعه وعن خلقه ؛ إذًا كل المبادئ وكل الشرائع لا قيمة لها ، وحاشاه أن يكون الأمر كذلك !

فإذًا في هذا الحديث لفتة نظر كريمة من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى هذا المبدأ الخلقي ؛ وهو أن المسلم ولو لم يكن صبورًا فطرةً فباستطاعته أن يصبِّر نفسه ، فلا يتعلَّل بقوله : والله أنا ضيِّق الصدر ، هيك الله خلقني ؛ إي الله خلقك هيك ما خلقك لتبقى هكذا ، وإنما خلقك لِتُجاهد نفسك . كما أن الإنسان من الناحية المادية ممكن أن نضرب على هذا مثلًا من الناحية المادية ؛ لو أن الإنسان ترك نفسه كما خلقه الله - عز وجل - ، فالله - عز وجل - فَرَضَ على الإنسان نوعًا من الحياة ، لكن هناك أشياء ما هي مفروضة عليه ، أريد أن أقول أن الإنسان يأتي من بطن أمه صغيرًا لا يدري شيئًا ، ثم ينشأ ويكبر ويكبر ، هذا مفروض عليه شاء أم أبى .

-- وعليكم السلام --

ولكن نجد الناس بمحض اختيارهم كل فرد منهم ينحو منحًى في هذه الحياة ، يختار مهنة أو صنعة أو نحو ذلك مما هو مباح ، وأحيانًا مما ليس مباحًا ، فنجد رجلًا مثلًا قويَّ العضلات ، وآخر هزيلها ، فنحن لا نستطيع أن نقول أنَّ الأول هكذا خلقه الله ، على العكس من ذلك ؛ الأول كالثاني تمامًا ، كلاهما خُلِقوا على وتيرة واحدة وعلى طبيعة واحدة ، لم يلد مولود وله عضلات ، ولا كبر الولد وصار عمره أربع خمس سنوات وله عضلات ، وإنما لما بيبدأ بيعقل الحياة وبيعقل فوائد الرياضة مثلًا والتمارين والحركة والذهاب والمشي و و إلى آخره ، فبعض الناس يتخذون هذه الوسائل ؛ ولا سيما وهي مباحة ، فيقوى بذلك جسمهم ، ويصبح هذا الجسم منيعًا أمام كثير من الأمراض والأوباء . على خلاف الشخص الآخر وهو مثل الأول من حيث الجبلَّة ؛ يبقى من حيث جسده هزيلًا ضعيفًا ليس عنده من الصبر ما عند ذاك من تحمُّل المشاق والأمراض ونحو ذلك ؛ فكيف هذا ؟ الأول تعاطى الأسباب فتقوَّى بها جسده ، والآخر أهمَلَ هذه الأسباب فبقي كما هو ، هذا مثال تقريبي كيف يمكن للمسلم أن يقوِّي - أيضًا - فيه النواحي الأخلاقية بأن يمرِّنَ نفسه على ذلك ؛ لهذا قال - عليه الصلاة والسلام - في هذا الحديث : ( ومَن يتصبَّر يصبِّره الله - تبارك وتعالى - ) .

وإذا لاحَظْنا سبب ورود الحديث الذي أحال المصنف عليه في كتاب الزكاة وذكرناه لكم آنفًا ، فهو يقول لهؤلاء الذين سألوه أول مرة فأعطاهم ، وثاني مرة فأعطاهم ، وثالث مرة فأعطاهم ، يقول لهم : لو أنكم صَبَرْتم لَكان خيرًا لكم ، ماذا سيصيبكم لو لم تسألوني المرة والمرة الثانية والثالثة ؛ هل تموتون جوعًا ؟ لا ، إذًا مَن يستعفَّ يعفَّه الله ؛ أي : قد لا يكون الإنسان بطبيعته عفيفًا ، هذه - أيضًا - خصلة جميلة وحسنة في الإنسان ، لكن ما كل إنسان يُرزَقُها ، فإذا ما جاهد نفسه وعَفَّها عن السؤال لغير ضرورة فالله - عز وجل - يعفُّه ؛ أي : يساعده على أن يصبح مع الزمن عفيفًا ، كذلك ( ومَن يتصبَّرْ يصبِّرْه الله - تبارك وتعالى - ) ؛ أي يتكلَّف هو الصبر عن مثل هذا السؤال ؛ لأن السؤال كما كان مضى معنا قديمًا في كتاب الزكاة ليس مستحسنًا إلا للضرورة ، فلعل الكثير منكم يذكر أن أفرادًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - منهم أبو بكر ، منهم أبو الدرداء أو أبو ذر بايعوا الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - على أن لا يسألوا الناس شيئًا ، على ألَّا يسألوا الناس شيئًا مطلقًا ؛ ذلك لأنه كما يُقال في بعض الأخبار : " السؤال ذلٌّ ولو : أين الطريق ؟ " .

لذلك كان هؤلاء الصحابة الذين بايعوا الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - على ألَّا يسألوا الناس شيئًا كان أحدهم إذا كان راكبًا على ناقته ، فسقط السَّوط من يده ، ورجل أمامه يمشي معه في الطريق صدفة أو على اتفاق سابق لا يقول له : من فضلك ، ناوِلْني السوط ، أعطني الكرباج ، وإنما يُنيخ ناقته ، لو أنه راكب حمار صغير أو غير ذلك ... أن يقول لصاحبه : ناوِلْني السوط ، فأولى وأولى ألَّا يسأل أمثال هؤلاء الذين بايعوا الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - على هذه الخصال من الأخلاق الكريمة أن يأتوا إلى الملك أو الرئيس فأعطِنا مئة ورقة ألف ورقة عشرة آلاف ورقة ، أنا بحاجة ، أنا كذا إلى آخره .

( مَن يستعفَّ يعفَّه الله ، ومَن يتصبَّر يصبِّره الله ) ، هكذا يربِّي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أمته على هذه الأخلاق الحسنة .

مواضيع متعلقة