التنبيه على مسألة خطيرة ؛ وهي إلزام القضاة والمفتين بمذهب معيَّن ، والإشارة إلى مصيبة دعوة بعض الدعاة إلى تقنين الأحكام . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
التنبيه على مسألة خطيرة ؛ وهي إلزام القضاة والمفتين بمذهب معيَّن ، والإشارة إلى مصيبة دعوة بعض الدعاة إلى تقنين الأحكام .
A-
A=
A+
ومن هنا ننتهي إلى مسألة خطيرة جدًّا ؛ وهي ما وقع فيه كثير من البلاد الإسلامية اليوم ؛ أعني بالبلاد الإسلامية التي وقعت في هذه القضية المشكلة البلاد السورية - مثلًا - والمصرية ؛ حيث أنهم ألزموا القضاة والحُكَّام بأن يقضوا ويفتوا بناءً على مذهب معيَّن ؛ إما على المجلة سابقًا ، وإما على القوانين التي وُضعت حديثًا بشيء من التعديل لأحكام المجلة سابقًا ، هذا بالنسبة للقضاة ، وبالنسبة للمفتي فعليه أن يفتي ملتزمًا المذهب الحنفي ، وهذا إلزام بما لا يلزم أوَّلًا ، بل هذا أمرٌ بنقيض ما أفاده هذا الحديث ؛ فإن المفتي إذا استُفتِي فعليه أن يرجع إلى الكتاب والسنة لا يرجع إلى مذهبه الذي قال فيه إمامه : " لا يحلُّ له أن يفتي حتى يعرف دليله " ، فهذا المفتي المتقيِّد بالإفتاء بمذهبه لا يرجع إلى الأدلة الشرعية ، فهو يفتي بما جاء في المذهب .

وأنا أضرب على هذا مَثَلًا ؛ صدرت فتوى أنا اطَّلعت عليها بنفسي من بعض المفتين السابقين في هذه البلاد أنه يجوز للمسلم أن يحفظ لحم الخنزير في البرَّادات الكبيرة للنصارى ؛ لأنُّو أحد المسلمين الطَّيِّبين عنده برَّاد ضخم يحفظ فيه الفواكه واللحوم ونحو ذلك ، فجاءه رجل أرمَني ، وعرض عليه أجرًا باهظًا لقاء أن يحفظ له لحوم الخنزير في هذا البرَّاد ، فالمسلم يعني شكَّ قلبه يعني في هذا العمل ، وهل يجوز في الإسلام للمسلم أن يحفظ لحم الخنزير المحرَّم ؟ فراح سأل المفتي ، المفتي قال له : تعال بعد أيام ، جاء وإذ أعطاه الفتوى ، والفتوى في الحقيقة مضحكة مبكية في آن واحد ؛ لأنها أوَّلًا جاءت فتوى على غير ثَبَتٍ ؛ أي : على غير حجة ، وثانيًا جاءت فتوى على أسلوب السياسيين في الكلام المطَّاط اللي ممكن تجيبو هيك وممكن تجيبو هيك ؛ حيث أفتى المفتي بأنه جاء في الكتاب الفلاني من المذهب الحنفي الذي هو يُفتي به : " ولو أن مسلمًا استأجَرَه ذمِّيٌّ على أن ينقل له الخمر جاز له ذلك ، وطابَ له الأجر " ، وقال فلان - كمان في المذهب - : " جاز ، لكن مع الكراهة " ، ثم نقل نقلًا آخر ؛ قال : " لو أن مسلمًا بنَّاءً استأجَرَه نصراني على أن يبنِيَ له كنيسة جازَ وطابَ له الأجر " ... نقل مثل هذه النقول المتعارضة في الختام ما قال للمستفتي : يجوز لك ادِّخار لحوم الخنزير أو لا يجوز ، حلَّ لك الأجر أو ما حلَّ لك الأجر ، وإنما قال : ومما سبق تعرف جواب سؤالك !!

فالجواب فيه خطيئتان ، الخطيئة الأولى ما قال له : قال الله قال رسول الله أبدًا ؛ مع أنُّو المسألة من أوضح المسائل بالنسبة لِمَن كان على علمٍ وفقهٍ في الكتاب والسنة . والمسألة الأخرى أنه حيَّره ؛ أتى له بقولَين : طاب لك الأجر ، لكن قول ثاني : يُكره ، والكراهة في المذهب الحنفي إذا أُطلِقَت فإنما هي للتحريم ، فلو رجع هذا المفتي كما أوجب عليه هذا الحديث ؛ أي : ليفتي المستفتي على ثَبَتٍ وبيِّنة ورشد ؛ لو رجع إلى الكتاب والسنة لَوَجَدَ - مثلًا - في القرآن الكريم : (( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )) ؛ فهذا تعاون على العدوان ومعصية الرحمن - تبارك وتعالى - ، ولَوَجَدَ في " صحيح مسلم " قولَه - عليه الصلاة والسلام - : ( لَعَنَ الله آكلَ الربا ، وموكله ، وكاتبه ، وشاهدَيه ) ؛ فلَعَنَ كلَّ من يساعد على أكل الربا ، وكذلك في الحديث الصحيح : ( لَعَنَ الله في الخمر عشرة ) ، عشرة أجناس ابتداءً من الشارب وانتهاءً إلى حامل الخمر ؛ ذلك لأنهم كلّهم يتعاونون على شرب الخمر الذي هو المعصية في الأصل شرب الخمر ، لكن شرب الخمر لا يمكن أن يحصل بدون بيع الخمر ، وبيع الخمر ما ممكن أن يحصل بدون شرائه ، وشراء الخمر لا يمكن أن يحصل بدون شراء العنب ، وشراء العنب لا يمكن أن يصبح خمرًا إلا بعصره ، وهذا العصير لا يمكن أن يصبح خمرًا لأنه قد يمكن أن يصير خلًّا إلا بتعاطيه بطريقة فنِّيَّة حتى يصير خمرًا ، فإذا صار خمرًا لا يمكن شربه من الدكاكين والحوانيت إلا بأن يُنقل من العصَّارة من المخمرة إلى بائع الخمر وهكذا ؛ فلأنَّ هؤلاء كلهم يساعد شارب الخمر على شرب الخمر لُعِنُوا جميعًا ؛ فكيف يخفى هذا على مَن كان على علم بالكتاب والسنة فيفتي لذلك المستفتي بأنه يجوز ادِّخار لحم الخنزير ؟!

فإذًا المصيبة اليوم هي أن الفتوى مفروضة أن يفتي من كتاب ليس هو الكتاب والسنة ، والقضاة يجب عليهم أن يفتوا من القوانين ، وليتَها كانت قوانين شرعيَّة محضة كما كان الأمر في زمن المجلَّة ؛ حيث كلها طُبِّقت أو جلُّها من المذهب الحنفي ، فأصبح اليوم فيها قوانين وضعية لم تنزل من السماء ، وإنما نَبَعَتْ من الأرض ، ففُرِضَت هذه الأحكام على القضاة المسلمين ليقضوا بها بين المسلمين ؛ هذه مصيبة حلَّت بالبلاد السورية والبلاد المصرية ، وربما في بلاد أخرى لا نعرف حقيقة الأمر فيها .

والآن فيه دعاة يدعون إلى تقنين الأحكام ؛ أي : إلى الاقتداء بالدولة السورية والدولة المصرية ، وفرض آراء وأفكار معيَّنة على القضاة الذين يحكمون هناك بالكتاب والسنة ؛ فهذه مصيبة ، مصيبة جديدة ، ونرجو الله - عز وجل - أن لا تتحقَّق في تلك البلاد ، ولكن يجب على كلِّ مسلم أن يعرف هذه الحقيقة ؛ وهي أنه لا يجوز الإفتاء إلا من كتاب الله وحديث رسول الله ، كما لا يجوز القضاء إلا استنباطًا من كتاب الله أو حديث رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - .

مواضيع متعلقة