ذكر الحكمة التي من أجلها خلق الثَّقلان ، وبيان شروط العبادة . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
ذكر الحكمة التي من أجلها خلق الثَّقلان ، وبيان شروط العبادة .
A-
A=
A+
الشيخ : إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) ، (( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا )) ، (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا )) ، وبعد :

فإن الله - تبارك وتعالى - خلق عباده ليقوموا بواجب عبادته حقَّ العبادة ؛ كما قال - عز وجل - : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين )) ، هذه الآية تنصُّ نصًّا صريحًا على الحكمة من خلق الله - تبارك وتعالى - لهذين الثقلين الإنس والجن ؛ ألا وهو العبادة لله - تبارك وتعالى - ، فهي تُشير إشارةً صريحةً إلى إبطال عقيدة شائعة عند كثير من المسلمين عربًا كانوا أو عجمًا ؛ أن الله - تبارك وتعالى - إنَّما خلق الخلق من أجل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي هو سيِّد البشر بنصِّ الحديث الصحيح ليس بحاجة أن يُمدَحَ بما لا أصل له في السنة التي جاء هو بها - عليه الصلاة والسلام - .

قد افترى كثير من الناس عليه فزعموا أنه قال : أن الله - عز وجل - خاطبه بقوله : " لولاك لولاك ما خلقتُ الأفلاك " ، وهناك الحديث الآخر الموضوع ، والذي يستعمله بعض أهل البدعة احتجاجًا لبدعتهم ؛ ألا وهي توسُّلهم بغير أسماء الله وصفاته والعمل الصالح الذي جاء ذلك كله في سنَّته - عليه السلام - ، ذلك الحديث هو ما رواه بعض أهل الحديث بإسناد هالك عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّه قال : " لما خلق الله آدم واقترف الخطيئة قال : يا ربِّ اغفر لي بمحمد . قال : وما أدراك ما محمد ؟ قال : رفعت رأسي إلى العرش ، فرأيت مكتوبًا على قائمته : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أن محمدًا أحبُّ الخلق إليك . قال : فقد غفرت لك بمحمَّد ، ولولا محمد ما خلقتك " ، فهذا الحديث كسابقه في الضعف الشديد ، وإن كان مرويًّا في بعض كتب الحديث ، وبيان ذلك في بعض مؤلفاتي ، منها : " التوسل أنواعه وأحكامه " .

والشاهد أن الله - عز وجل - إنما خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له ، فينبغي أن نعلم أن عبادة الله - تبارك وتعالى - لا تتحقَّق ولا تُقبل عنده إلا بشرطين اثنين :

الشرط الأول : أن تكون على وجه السنة ، فإذا كانت العبادة مخالفة للسنة رُدَّت على صاحبها ، وإن كان قاصدًا بها التقرب إلى الله - تبارك وتعالى - لأحاديث كثيرة في ذلك ، من أشهرها قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ) ، إلى غير ذلك من الأحاديث ، فلذلك يجب على كلِّ مسلم يريد التقرب إلى الله - تبارك وتعالى - بشيء من العبادات أن يضع نصبَ عينيه أن تكون هذه العبادة مأثورة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، أو على الأقل عن السلف الصالح ، هذا هو الشرط الأول ليكون العمل صالحًا مقبولًا عند الله - تبارك وتعالى - .

والشرط الثاني : أن يكون المُتعبِّد لله - عز وجل - مُخلصًا له في هذه العبادة ، لا يبتغي من ورائها جزاءً ولا شكورًا ، ولا أجرًا عاجلًا ، والدليل على ذلك الكتاب والسنة ؛ فمن الكتاب آيات كريمات ؛ كقوله - تبارك وتعالى - : (( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين )) ، (( مخلصين له الدين )) أي : لله رب العالمين ، وكذلك قال - عز وجل - : (( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عمل صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا )) . قال علماء التفسير في هذه الآية كالقرطبي وغيره : (( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا )) ؛ أي : على السنة ، فإذا كانت العبادة ليست على السنة فليس عملًا صالحًا ، هذا هو الشرط الأول ، والشرط الآخر قوله - تعالى - : (( ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا )) ، والشرك - كما تعلمون - إما أن تكون في ذات الله - عز وجل - ، أو في صفة من صفاته ، أو في عبادته - عز وجل - مع غيره ، ولهذا قد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رجلًا قال : يا رسول الله ، الرجل منَّا يقاتل حميَّةً - شجاعةً دفاعًا عن قومه ، وجمل تُشبه هذه الألفاظ - أذلك في سبيل الله ؟ قال : ( لا ) . قالوا : فمن هو في سبيل الله ؟ قال : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ؛ فهو في سبيل الله ) .

وجاء في " مستدرك الحاكم " وغيره بسندٍ قويٍّ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ( بشِّر هذه الأمة بالسَّناء والرفعة والتمكين في الأرض ، ومن عمل منهم عملًا للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب ) ، ( ومن عمل منهم عملًا للدنيا ) أي : من أعمال الأخرة ؛ فليس له في الآخرة من نصيب .

أشد الأحاديث رهبةً في هذا الصَّدد هو ما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ( أول من تُسْعر بهم النار يوم القيامة ؛ عالم ، ومُجاهد ، وغنيٌّ ؛ يُؤتى بالعالم فيُقال له : ماذا عملت فيما علمت ؟ فيقول : يا رب ، نشرته في سبيلك ، فيُقال له : كذبتَ ، إنما علَّمت ليقول الناس فلان عالم ، وقد قيل ، خذوا به إلى النار ، ثم يؤتى بالمجاهد فيُقال له : أي عبدي ؛ ماذا عملت فيما أنعمت عليك من قوة ؟ فيقول : يا ربِّ ، جاهدتُ في سبيلك ، فيُقال له : كذبت ، إنما جاهدت ليقول الناس فلان بطل ، وقد قيل ؛ خذوا به إلى النار ، ثم يؤتى بالغنيِّ ، فيُقال له : ماذا عملت فيما أنعمتُ عليك من مال ؟ فيقول : يا ربِّ ، أنفقته في سبيلك ، فيُقال له : كذبتَ ، إنما أنفقتَ لِيُقال فلان كريم ، وقد قيل ؛ خذوا به إلى النار ) .

فهؤلاء الثلاثة أول من تُسْعر بهم النار يوم القيامة ، ولذلك فتجدون أمر المتعبِّد والمتعبِّد على السنة في خطر فيما إذا ابتغى من وراء عبادته غير وجه الله - تبارك وتعالى - .

أقول هذا بمناسبة هذا الإقبال الطَّيِّب الذي أراه متمثِّلًا في إقدامكم كل يوم صباحًا على هذا الدرس ، ولكن يُلفت نظري تزاحمكم هذا التزاحم الذي لا يُمثِّل الأدب الإسلامي من جهة ، ومن جهة أخرى أنه قد يُشعر بعض الناظرين بأن هذا التزاحم ليس هو لله - تبارك وتعالى - ، لا أجزم بذلك ، بل كما قلت آنفًا قد يُشعر بعض الناظرين بأن هذا التزاحم إنما هو للظهور ، وقديمًا قيل : " حب الظُّهور يقطع الظُّهور " .

ولذلك فإني أنصح إخواننا بتلك النصيحتين الغاليتين حقًّا :

الأولى : أن يتعبَّدوا الله بما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وأن يكونوا بعيدين جدًّا عن محدثات الأمور .

والأمر الآخر : أن يكونوا فيما يتقصَّدونه من العبادات - ومنها العلم النافع - خالصًا لوجه الله - تبارك وتعالى - ، وهذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين .

والآن ترفعون أسئلتكم .
  • فتاوى جدة - شريط : 19
  • توقيت الفهرسة : 01:28:11
  • نسخة مدققة إملائيًّا

مواضيع متعلقة