أقسام الأحكام الشرعية . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
أقسام الأحكام الشرعية .
A-
A=
A+
الشيخ : وأنت الآن في عهدتك في سؤالك تذكِّرني بضرورة فائدة أخرى ، أهل العلم يقسمون الأحكام الشرعية إلى قسمين :

قسم تعبديٌّ محض ، لا مجال للعقل فيه ، وإنما هو التسليم المطلق ، هكذا جاء الشرع فنسلِّم تسليمًا ، القسم الآخر لا بد من التسليم صحيح ؛ ولكن للعقل فيه مجال للتفكير ، يا تُرى ما هو السبب في أن الرسول- عليه السلام - قال كذا ، وهو أمر بكذا ، وهو نهى عن كذا ، فهناك قسم آخر يسمُّونه مقابل القسم الأول ، عرفنا أن القسم الأول يسمُّونه بالتعبُّدي ، وزيادةً في ذلك تعبُّدي غير معقول المعنى ، القسم الثاني معقول المعنى ، نأخذ - مثلًا - مثالين واضحين : المثال الأول أكثر العبادات ، كالصلوات الخمس ؛ أربع ، أربع ، أربع ، ثلاث ركعات ، ركعتين ؛ لم ؟ ما الحكمة في ذلك ؟ الله أعلم ؛ (( ويسلموا تسليمًا )) ، جهر وسر ، جهر دون سر ، سر دون جهر ؛ لم ؟ ما الحكمة ؟ الله أعلم ، تعبُّدي .

ربنا أرد أن يُكلِّفنا ليمتحننا (( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير * الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا )) ، من جملة الابتلاء أن فرض علينا عبادات غير معقولة المعنى ، ليشوف نتفلسف كعلماء الكلام وعلماء المنطق ونحو ذلك أم نحن نعترف بعبوديَّتنا لله فنخضع له ونسلم تسليمًا .

من زاوية أخرى شرع لنا أحكامًا من نوع آخر معقولة المعنى ، لأن الإسلام بالإجمال كله عقل ؛ (( أفلا يعقلون )) ، (( أفلا يتدبَّرون )) ، إلى آخره ، لكن القسم الأول لا بد منه لتظهر عبوديَّة الإنسان لخالق الإنسان ، فضربنا مثلًا الآن الصلوات الخمس وما فيها من صور مختلفة كما شرحنا ، يحاول كثير من الناس المتفلسفين بالعصر الحاضر أن يتكلَّفوا لاستشكاف الحكمة من هذا التفاوت بين هذه الصلوات الخمس ، فنحن نقول : هذا تعبُّديٌّ محضٌ .

القسم الثاني معقول المعنى ، إذا استحضرنا - مثلًا - قوله - عليه السلام - : ( لا تدابروا ، لا تحاسدوا ، لا تباغضوا ، لا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانًا ) ، هذه نواهي ، ومنها - مثلًا - : " نهى عن بيع الغرر " ، ما يتساءل متسائل : لماذا نهى عن بيع الغرر ؟ لأن الحكمة واضحة لما فيه من الضَّرر أو من الغشِّ للشاري من البائع ، وهكذا ، فهذه أحكام معقولة المعنى .

فالعلماء في هذين القسمين منهم المفكِّر والباحث ، ومنهم المتوقِّف الجامد لأنه يخشى أن تزلَّ به القدم في بعض الأحكام فيتكلَّف ادِّعاء أنه معقول المعنى فيأتي بشيء ما هو بسليم هذا من جهة ، ومن جهة أخرى يتورَّع عن فلسفة الأحكام الشرعية ولو كانت من القسم الثاني - أي : معقولة المعنى - ؛ إلا إذا كانت واضحة جليَّة كالشمس في رابعة النهار ، يتورَّع عن أن يحاول تعليل بعض الأحكام الشرعية بالحِكَم والمصالح للعباد ، ولماذا ؟ وهذا أنا لمستُه لمس اليد في بعض الشباب إذا ما مُرِّنوا أو عُوِّدوا على أن يتلقَّوا الحكم الشرعي مقرونًا بالتعليل العقلي يصبحون مع الزمن لا يقبلون الأحكام الشرعية إلا مقرونةً بالعلل العقلية أو التعليلات العقلية ، فيقعون في الشَّكِّ في بعض الأحكام الشرعية ؛ لأنهم لم يعرفوا حكمَها ، ونحن نقول : إن هذا فهمٌ ظاهره الرحمة وباطنه العذاب ؛ لأن الأمر - كما قلنا آنفًا - إنما الأمر بالخواتيم ؛ إنما الأعمال بالخواتيم ، فإذا كان من مسائل تعويد طلاب العلم على أن يتقبَّلوا الأحكام الشرعية مقرونةً بالتعليلات العقلية فسوف يعتادون على أن لا يقبلوا ما كان من القسم الأول ؛ أي : التعبدي المحض .

ولذلك وأنا أتورَّع وأتحاشى في أكثر الأحيان - لا سيَّما إذا كان الحكم أو إذا كانت العلل غير واضحة - فلا أُجهد نفسي وفكري في استشكاف حكم التشريع - كما يُقال - في هذا الزمان ، لكن - أحيانًا - يكون الأمر واضحًا جدًّا ما يحتاج إلى تكلُّف ، وإنما يحتاج إلى التذكير . ... الآن إنسان جالس في المسجد أو في أيِّ مكان ، ليس مستندًا استنادي هذا ، وكان متعبًا بعض الشيء ، ما الذي يُساعده على أن يركنَ إلى الراحة ومن ذلك النُّعاس الذي يتلوه عادةً النوم ؛ إذا كان متَّكئًا ذلك أسرع له ليصل إلى النُّعاس أم إذا كان غير متَّكئ ؟ هذا معروف بالتجربة ، من هذا النوع من الاتِّكاء هو الاحتباء ، فالإنسان لما يحتبي هكذا في المسجد والخطيب يخطب يوم الجمعة فسيُحاول طبيعة الإنسان أن تطبع هذا الإنسان بمقدِّمات النُّعاس ، ثم يأتي بعد النُّعاس النوم ، وقد يترتَّب من وراء ذلك ليس أن يفوتَه فائدة الذكر الذي أُمر بالكتاب الكريم بأن يسعى إليه ؛ بل وقد يكون ذلك سببًا لبطلان صلاته ؛ لأن كثيرًا من الناس نراهم في المساجد - وأكثرهم من عامة الناس - لا يهتمُّون بأن يفهموا ماذا قال الخطيب ، ولذلك يركعون إلى الراحة - عفوًا - إيش ؟ نعم ؟

سائل آخر : يركنون .

الشيخ : يركنون إلى الراحة ، ويستسلمون للنُّعاس مبدئيًّا ثم ينامون ، وإذا أقيمت الصلاة انتبهَ ، وقام يصلي ، وين أنت ... والرسول - عليه السلام - يقول : ( من نام فليتوضَّأ ، إنما العينان وكاء السَّه ) ، فمن نام فليتوضَّأ ، وقد وقع لأحد أئمة الحديث والفقه ، وهو أبو عبيدة القاسم بن سلَّام ، أو سلام تذكرون الضبط ؟ نعم ؟ بالتخفيف ؟

سائل آخر : سلَّام .

الشيخ : سلَّام ، إي نعم ، وقع لهذا الإمام الفاضل الفقيه المحدِّث القصة التالية : يقول : كنت أرى من قبل أن نوم المتمكِّن لا ينقض الوضوء ، حتى وقع لي مرَّةً يوم الجمعة والخطيب يخطب ؛ نام رجل بجانبي ، فلما أقيمت الصلاة قلت له : يا فلان ، أنت نمتَ ، فاذهب وتوضأ ؛ لأنك قد خرج منك ريح . قال : لا ، أنا ما خرج مني ريح ، منك خرج ريح ! ( الجميع يضحك ! ) ، وهو كان متمكِّنًا فعلًا ، يعني لاحظ عليه الإمام أنه كان متمكِّنًا ، ومع ذلك خرج منه ريح ؛ فإذًا ما يُشاع من قديم وحديث بأنَّ نوم المتمكِّن لا ينقض الوضوء لأنه لا يخرج منه عادةً ريح ؛ هذا ممكن أن يكون أغلبيًّا ، إذا كان متمكِّنًا فعلًا ، ممكن أنه ما يخرج منه ريح ، لكن النَّاعس ما يملك نفسه فقد يميل يمنةً ويسرةً ، وهناك ينطلق ... ؛ فإذًا يجب أن نأخذ الحديث على إطلاقه ( فمن نام فليتوضأ ) ، إذًا يجب أن نستبعد الوسائل التي تجلب النوم إلى الجالس يوم الجمعة يسمع الخطيب ، منها أنه جاء في بعض الروايات أن من تسلَّط عليه النعاس فليغيِّر مكانه ، الآن هذا مثال للقسم الذي تُعرف إيش ؟ حِكَمُه ، لماذا قال : ( فليغيِّر ) ؟ لأن تغيير المكان يُبعد النعاس عن ذاك الإنسان ، فالاحتباء لو فرضنا أن حديثه ضعيف السند لكن هنا يُقال إنه معقول المعنى ، ولا يلزم عادةً من ضعف إسناد حديث - ولو لم يكن له أيُّ شيء يقوِّيه - أن يكون متن الحديث غير مقبول معناه شرعًا ؛ مثلًا أنتم تجدون بعض اللافتات مكتوب عليها : " رأس الحكمة مخافة الله " ، هذا حديث ضعيف ، لكن معناه جميل جدًّا ، لكن ما الفرق بين قولنا : " معناه جميل " ، وقولنا : " حديث ضعيف " ؟ أي : لا يجوز لنا أن نقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما دام أنه لم يثبت إسناده ، لكن من حيث النظر في معناه كأيِّ كلمة يقولها أيُّ إنسان كان عالمًا أو كان شاعرًا أو أو إلى آخره ؛ فكلامه يحتمل أن يكون صوابًا ويحتمل أن يكون خطأً ، فإذا كان هناك حديث ضعيف السند ليس له ما يقوِّيه مُحتمل أن يكون معناه مقبولًا ، ويحتمل أن يكون معناه مرفوضًا ، والأحاديث الضعيفة بل الموضوعة لا تتعدَّى قسمًا من هذين القسمين .

حينما يقول بعض النُّقَّاد من أئمة الحديث في ترجمة بعض الرواة يقول فلان - هذه عبارة ابن حبان - رحمه الله - كأنها صارت علمًا له - ؛ قال : " فلان يروي المنكرات أو المُعضلات عن الثقات " ؛ يعني بهذا أنَّه درس متون أحاديثه التي يرويها ، فوجدها منكرةً ، ووجدَها أنه يُلصقها بالثِّقات الذين لا يُعقل أن يتحدَّثوا بهذه المنكرات ، فمثلًا جِبْنا نحن الآن : " رأس الحكمة مخافة الله " ، مثل للحديث الضعيف ، لكن معناه فيه منتهى الحكمة ، لكن حينما يسمع الإنسان حديث : " البخيل إيش ؟ عدوُّ الله ولو كان إيش ؟ عابدًا ، والكريم حبيب الله ولو كان فاسقًا " ، هذا يمجُّه الشرع ؛ لأنَّ الإنسان لا يتقرَّب إلى الله بخصلة حسنة ، ولا يبعد من رحمة الله بخصلة سيِّئة ، وإذا سمعنا حديث : " الباذنجان لما أكل له " انكشف الغطاء ، وظهر أنه معنى باطل بداهةً ، وهذه الأحاديث الضعيفة فيها معاني صحيحة - أحيانًا - ، وفيها معاني غير صحيحة - أحيانًا - ، فالحديث : ( نهى الرسول عن الاحتباء يوم الجمعة ) هو من حيث الرواية حسن أو صحيح - لا أذكر الآن المرتبة بدقة - ، ومن حيث المعنى معقول جدًّا ؛ لأن الاحتباء يجلب النعاس ، والنعاس يجلب النوم ، وفي ذلك تعريض لهذا المُحتبي أن يخسر أمرًا واحدًا من أمرين لا بد منه ؛ ألا وهو أن لا يستفيد من خطبة الخطيب . هذا جوابي عما سألت .
  • فتاوى جدة - شريط : 8
  • توقيت الفهرسة : 00:53:51
  • نسخة مدققة إملائيًّا

مواضيع متعلقة