" لحوم العلماء مسمومة ، وعادة الله في هتك أستار مُنتقصيهم معلومة " ؛ لو ألقيتُمْ لنا الضَّوء حول هذه الكلمة ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
" لحوم العلماء مسمومة ، وعادة الله في هتك أستار مُنتقصيهم معلومة " ؛ لو ألقيتُمْ لنا الضَّوء حول هذه الكلمة ؟
A-
A=
A+
السائل : " ... مسمومة ، وعادة الله في منتقصيهم معلومة " ؛ لو ألقيتم لنا الضوء حول هذه الكلمة ، بارك الله فيكم ؟

الشيخ : لا شك أن هذه الكلمة بحيث أن - أخصُّ العلماء بذكري - لمثل عامة الناس الكلام فيه بما يكرهون وهو الغيبة ، فليس معنى ذلك أن عامَّة المسلمين ليسوا كذلك ، لكن هذه الكلمة التي سارت - كما يقولون - مسير الركبان فيها شيء من المبالغة ؛ بحيث يجعل الجمهور السَّامعين لها والمستعملين لها يتوهَّمون أنها جملة مأثورة ؛ إما عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإما عن السلف الصالح ، وفيما علمنا ليس شيء من ذلك يتعلَّق بهذه الجملة ، وغاية ما فيها أنَّها فيها شيء من الحكمة من حيث المبالغة في التحذير عن استغابة العلماء ؛ لأنهم خاصَّة هذه الأمة ، والمفروض فيهم أنَّهم ورثة الأنبياء كما قال - عليه الصلاة والسلام - ، لكن لا يخفى على الجميع أن اتِّصاف العالم بأن يكون الوريث المحمدي هذا أمر دونه خرط القتادة ؛ إلا أن نسأل الله له - عز وجل - .

فعلى كلِّ حال إذا كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول - القاعدة العامة - : ( الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ) ؛ فلا شكَّ أن هذه الغيبة تتضاعف فيما إذا قيل بإنسان له منزلة بالشرع أكثر من إنسان آخر ؛ فلا شك أن استغابة الصحابة هي أكثر من استغابة مَن بعدهم ، وبالتالي استغابة العلماء هي أشدُّ من استغابة مَن دونهم من المسلمين ، وهكذا لحوم العلماء مسمومة ؛ أي : غيبتهم محرَّمة أشدَّ التحريم ؛ نظرًا لمنزلتهم عند ربِّ العالمين ، والله - عز وجل - يقول : (( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ )) . ولا شكَّ أنه لا يقصد في هذا المجال النَّقد بالحقِّ وبالتجرُّد عن الهوى وعن النيل من المُنتَقَد من الناقد ، وإنما يقصد ذلك مجرَّد النصح للأمة ؛ ففي هذه المسألة منتهى الدِّقَّة ؛ لأنه ينبغي الناقد حينما ينقد لا يقصد إلا وجه الله - تبارك وتعالى - ونصح الأمة ، أما إذا قَصَدَ بالنقض هو النيل من المُنتَقَد أو أن يظهر بين الناس بأنه على علم فحين ذاك يُقال - كما قال بعضهم وهذه حكمة أيضًا - : " حب الظهور يقطع الظهور " .

أما دقة المسألة ؛ فلأنَّ الأصل في ذكر المسلم لأخيه المسلم فيما يكره أنه حرام ؛ لأنه مما أكل لحوم الناس المشار إليه في القرآن الكريم ، ولكن هناك أنواع من الغيبة مُباحة ، وبعضها قد يجب ، وهنا الدِّقَّة في الموضوع ؛ فقد يسوِّغ الشيطان ويوسوس الشيطان لبعض مَن يريد أن يستغيب بناءً على الغيبة المستثناة من التحريم أنه يعني هذه المستثنيات ، وهو في الواقع إنما تمسُّ بغيبته ما يكرهه المسلم لا للنُّصح ، وقد جمع بعض العلماء المتأخِّرين ما يجوز من الغيبة التي قد تجب - كما قلنا أحيانًا - في بيتين من الشعر ، وحفظهما في الواقع يجمع لطالب العلم هذا الموضوع فلا يقع في التناقض بينما هو أصله حرام وبين بعض ما خرج عن هذا الأصل ؛ ذلك قولهم :

" القدحُ ليس بغيبةٍ في ستَّةٍ *** متظلِّمٍ ومعرِّفٍ ومحذِّرِ

ومجاهرٍ فسقًا ومستفتٍ ومَن*** طَلَبَ الإعانةَ في إزالةِ منكرِ "

وهذا المُستثنيات الستة قد جاء في أكثرها نصوص صريحة ؛ فهو يقول في ستة أوَّلهم متظلِّم ، وهذا مذكور في القرآن الكريم في قوله - تبارك وتعالى - : (( لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ )) ، فقد استثنى ربنا - عز وجل - في هذه الآية الكريمة المظلوم ، فيحقُّ له أن يستغيبَ ظالمَه في سبيل رفع الظُّلم عنه ، وهذا تأكَّد في بعض الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لذلك الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم ؛ قوله - عليه السلام - ... : ( مطلُ الغنيِّ ظلمٌ ) ، هذا لفظ الحديث في البخاري ومسلم ، وجاء في لفظ آخر في بعض السنن في قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( ليُّ الواجد يُحِلُّ عرضه وعقوبته ) .

( يُحِلُّ عرضَه ) أي : الكلام فيه ، وهذا هو الغيبة كغيبة ذلك المظلوم ؛ لأن هذا قد ظلمه مَن أفاده بقرضه إيَّاه ، ثم ماطَلَه وهو واجدٌ بالوفاء ولا يَفِي . ( ليُّ الواجد يُحِلُّ عرضه ) أي : الكلام فيها ؛ لأنَّه ظالم ، لأنه يُماطل ، وعقوبته إلى الحاكم ... أم يسجنه حتَّى يعيدَ الحقَّ إلى صاحبه .

ومن طرائف ما وقع فيما يتعلَّق في هذه الخصلة ما رواه الإمام البخاري في " الأدب المفرد " وأبو داود في " السنن " من حديث أبي هريرة أنَّ رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : يا رسول الله ، جاري ظلمني ؛ فأمره - عليه الصلاة والسلام - أن يجعل متاع داره على قارعة الطريق ، فكان الناس إذا مرُّوا به ما لك يا فلان ؟ فيقول : جاري ظلمني ، فما يكون منهم إلا أن يقولوا : قاتله الله ! لعنه الله ! وجاره الظَّالم يسمع ، فما كان منه إلا أن سار إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليقول : يا رسول الله ، مُرْ جاري بأن يُعيدَ متاعَه إلى داره ؛ فقد لَعَنَني الناس . فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( لقد لعنك مَن في السماء قبل أن يلعنك مَن في الأرض ) .

فهذا مثال للمُستثنى الأول من الستة وهو المظلوم ، والحديث للاستدلال لبقيَّة الستة يطول ؛ فمعذرةً إليكم ، ثم الاستئذان من فضيلة الشيخ بأن ننصرف .

... ... ...
  • رحلة النور - شريط : 93
  • توقيت الفهرسة : 00:17:34
  • نسخة مدققة إملائيًّا

مواضيع متعلقة