كلمة في أن النَّجاة في الآخرة والسعادة في الدنيا إنَّما تكون على أساسين اثنين : العلم النافع والعمل الصالح . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
كلمة في أن النَّجاة في الآخرة والسعادة في الدنيا إنَّما تكون على أساسين اثنين : العلم النافع والعمل الصالح .
A-
A=
A+
السائل : إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله ، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه واستنَّ بسنته إلى يوم الدين ، أما بعد :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أرجو من الإخوة الكرام ألا يكون هنا تدخُّلًا وتعارضًا في الأسئلة الشفوية ، أرجو أن تكون مكتوبةً حتى لا يضيع الوقت ، وحتى لا تكون الإجابة أو السؤال محجورًا على واحد منَّا ؛ حيث إن الاخوة كلهم يحتجون بكتابة أسئلتهم ، وإذا تدخَّل أحد نحتجُّ بأن الأسئلة مكتوبة ، ونكون في حرج ، ولا نريد أن نكون سببًا في إحراج أحد من إخواننا .

الشيخ : إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا ، مَن يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله ، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) ، (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) ، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )) ، أما بعد :

فإنَّ خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .

ممَّا يجب أن يعلمَه كلُّ مسلم أن النَّجاة إلى الله - تبارك وتعالى - في الآخرة والسعادة في الدنيا إنَّما تكون على أساسين اثنين ؛ أحدهما العلم النافع والآخر العمل الصالح ، وأما العلم النافع فلا يمكن الوصول إليه والتعرُّف عليه إلا من طريق واحدة لا ثانية لها ؛ ألا وهي طريق محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ذلك الطريق الذي أشار ربنا - تبارك وتعالى - عليه بمثل قوله - عز وجل - في القرآن الكريم : (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ )) ففي هذه الآية تكرار السَّبيل وجمع السَّبيل ؛ حيث قال - تعالى - : (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ )) .

فالآية تنصُّ نصًّا صريحًا على أن الهداية إما تكون لِمَن سار على طريق واحدة وليس على طرق متعدِّدة ، وهذا الطريق الواحد لا يشكُّ مسلمٌ في ملايين من المسلمين في كلِّ زمان ومكان من حيث العقيدة أنَّها طريقة محمد - عليه الصلاة والسلام - ، وإن كانوا قد تفرَّقوا عمليًّا الى مذاهب شتَّى وطرائق قددًا ، فإذا أرادوا أن يكونوا - كما ذكرت آنفًا - سعداء في الدنيا ناجين في الآخرة ؛ فعليهم أن يسلكوا عمليًّا هذا الطريق الواحد ؛ ألا وهو الصراط المستقيم ، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو عبد الله الحاكم في " مستدركه " من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خطَّ يومًا وهو بين أصحابه خطًّا مستقيمًا على الأرض ، وقرأ تلك الآية : (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ )) ، فخطَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على جانبي الصراط المستقيم خطوطًا قصيرة ، فتلا الآية السابقة وهو يمرُّ بيده الشريفة على الخطِّ المستقيم (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ )) ، ثم قال - عليه الصلاة والسلام - : ( هذا صراط الله ، وهذه طرق ، وعلى رأس كلِّ طريق منها شيطان يدعو الناس إليه ) .

فهذا الحديث يبيِّن مع هذا التصميم الجميل الذي يجسِّد بمعنى الآية الكريمة أن هناك طرقًا متفرِّعة عن هذا الطريق ، لكن سار عليها كلُّ من سار عليها ابتعد عن الطريق المستقيم ؛ ولذلك الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يحضُّ أمته على أن يسلكوا طريقه - عليه الصلاة والسلام - مستقيمًا ، وينهاهم أن يتَّبعوا تلك الطُّرق المتفرِّقة عنه ، هذه الطرق المتفرِّقة عنه ليست هي الموصلة إلى طريق الله - عز وجل - التي قد جاء في بعضها في ... بعضها ممَّن سلكه كقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة ) ، فهذا الطريق هو من يمشي سويًّا على ذاك الصراط المستقيم ، وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن الطريق التي كان ماشيًا وسالكًا عليها إنما تُؤخذ من مصدرين اثنين ؛ ألا وهما : كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( تركت فيكم شيئين لن تضلُّوا ما إن تمسَّكتم بهما : كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض ) ، ( تركت فيكم شيئين لن تضلُّوا ما إن تمسَّكتم بهما : كتاب الله وسنَّتي ) ؛ فهذا النَّصُّ دليل على أن العصمة للنجاة في الآخرة وأن الطريق المستقيم إنما يُؤخذ من كتاب الله فقط ومن حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ فهذا الطريق هو العلم النافع الذي إذا تمسَّك به المسلمون نجوا دنيا وأخرى كما ذكرنا آنفًا .

أما الركن الآخر أو الأساس الآخر الذي ينبغي على كلِّ مسلم أن يكون عليه ؛ فهو العمل الصالح ؛ فإن المسلم إذا علم ما جاء في كتاب الله وفي سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ثم لم يقرن العمل مع العلم ؛ كان علمه وبالًا عليه ؛ ذلك كما قال ربُّنا - عز وجل - : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ )) ، فمن الكبائر أن يكون المسلم عالمًا غير عامل ، فلا بد من أن يقرنَ عمله مطابقًا لعلمه النافع ، وقد عرفتم العلم النافع بإيجاز ممَّا سبق بيانه .

أما العمل الصالح فقد اشترط له العلماء شرطين اثنين ؛ الشرط الأول : أن يكون على سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وألَّا يكون مالَ به عن سنَّته متَّبعًا في ذلك هواه أو هوى غيره ممَّن مضى وسلف ممَّن انحرف به هواه عن الجادَّة والصراط المستقيم ، لقد روى الإمام البخاري ومسلم في " صحيحيهما " من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ( يُؤتى بالعالم يوم القيامة فيُلقى في النار ، فتندلق أقتابُ بطنه ، فـ ... به أهل النار ، فيقولون له : يا فلان ، ألست كنتَ تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : نعم ، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه ) ؛ فهذا تفصيل رائع من النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِمَن علم ولم يعمل بعلمه ؛ فلذلك فلا بدَّ لكل مسلم أن يجتمع فيه هاتان الرَّكيزتان أو الدَّعامتان العلم النافع والعمل الصالح ، العلم النافع ما كان على ما كان عليه الرسول - عليه السلام - ، والعمل الصالح أن يكون مخلصًا فيه لله - تبارك وتعالى - ؛ كما قال - عز وجل - : (( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا )) .

(( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا )) قال علماء التفسير في هذه الآية : العمل الصالح هو ما كان على سنَّة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ فإن خالَفَها كان عمله مردودًا عليه ، وذلك كما جاء مُصرَّحًا به في بعض الأحاديث الصحيحة كقول عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ؛ فهو ردٌّ ) .

( من أحدث في أمرنا هذا ) أي : في ديننا هذا ، ( ما لم يكن منه ) فهو مردود عليه ، مضروب به وجهُ صاحبه ؛ لأنه لم يتَّبع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي جاء بالهدى والنور كاملًا كاملًا كما قال ربُّنا في كتابه : (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا )) ، قد تمَّت نعمة ربِّنا - تبارك وتعالى - بإكماله دينه ؛ فلم يَدَعْ مجالًا لأحد أن يُحدِثَ في دينه ما لم يكن منه ؛ لهذا قال - عليه السلام - كما سمعتم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ؛ فهو ردٌّ ) ، قد يكون المُحدَث مما يغري بعض الناس على القيام به فيتورَّط ، ويظنُّ أنه عمل صالح ، ولكنه في الواقع إنما هو عمل طالح ؛ وذلك لأنه لم يأتِ به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ولذلك فليس سبيل معرفة العمل الصالح هو أوَّل الأشخاص أو تقاليدهم أو عاداتهم ، وإنما سبيل معرفة ذلك أن نرجعَ إلى ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .

وإن الدليل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم - أيضًا - في " صحيحهما " أنَّ رهطًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جاؤوا إلى نسائه ، فسألوهنَّ عن عبادته - عليه الصلاة والسلام - عن قيامه في الليل وصيامه في النهار وإتيانه للنساء ؟ فوصفْنَ لهم ما يعلمْنَه من ذلك ، فقلن : إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقوم الليل وينام ، وكان يصوم ويفطر ، وكان يأتي النساء ويتزوجهنَّ ، ذكرْنَ لهؤلاء الرهط عبادة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومعنى ذلك أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يكن راهبًا ، لم يكن قائمًا الليل كله ، ولا صائمًا الدهر كله ، ولا هو مترهِّب لا يأتي أهله ، وإنما كان يجمع بين هذه الحقوق كلها ؛ فهو يقوم الليل لكنه ينام ، ويصوم في النهار ولكنه لا يصوم الدهر ، ثم هو يُؤتي نفسه حظَّها من الحلال كما أنه يُؤتي أهله حظَّهنَّ منه ، لكن الرهط المذكور لمَّا سمعوا الوصف المذكور وجدوا - في زعمهم ! - عبادة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قليلة ، فقال راوي الحديث - وهو أنس بن مالك رضي الله عنه - : ( فتقالُّوها ) ، أي : وجدوا عبادة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قليلة ، وهنا يكمن الهوى ، ويقترن مع الهوى الخطر ، كيف تكون عبادة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قليلة وهو الذي قام كما جاء في " الصحيحين " - أيضًا - من حديث المغيرة بن شعبة وغيره قال : قام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى تشقَّقت قدماه ، فقالوا : يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر ! كأنهم أشفقوا عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - من إتعابه لنفسه في عبادته لربِّه في ... بوجهه ، فكان جوابه - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( أفلا أكون عبدًا شكورًا ؟! ) ، كيف تكون عبادة هذا النبي الكريم وهذه حاله ؛ حتى أشفَقَ عليه أصحابه العارفين بحقيقة عبادته ؟

أما الرَّهط ؛ فَلِجهلهم بالعدل من كلِّ شيء ومنها العبادة لله - عز وجل - قال أنس : وجدوا عبادته - صلى الله عليه وآله وسلم - قليلة ، يشيرون أنهم كانوا يتصوَّرون ويتخيَّرون أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ينبغي أن يقوم الليل كله ولا ينام ، وأن يصوم الدهر كله فلا يفطر ، وألَّا يقترب من النساء ؛ هكذا كانوا تخيَّلوا نبيًّا ... بخلاف ما تخيَّلوه ؛ لذلك قالوا بأنها عبادة قليلة ، على ذلك أجابوا عن قلَّة عبادته - عليه السلام - التي زعموها بتعليل لولا أنهم كانوا مصيبين لَكان فيما وصفوا به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الفسق ؛ إن لم يكن هو الكفر بعينه ، فقد قالوا : هذا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد غَفَرَ الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر ، أما نحن فينبغي أن نسعى وأن نكدَّ ونجدَّ حتى ننالَ مغفرة الله - تبارك وتعالى - ، ثم خطُّوا لهم خطَّةً زعموها أنها هي الطريق للوصول إلى مغفرة الله - عز وجل - ، فقال أحدهم : أما ... ... ... .

... أُذيع خبرهم خطب في المسجد فقال : ( ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا وكذا ؟! ) ، حكى - عليه الصلاة والسلام - مقالة كلِّ واحد منهم ، الذي قال : أصوم الدهر ، والذي قال : أصوم الليل كله ، والذي قال : لا أتزوج النساء ، فـ ... عنهم ، وستر أسماءَهم ولم يفضحهم ، تلك سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في وعظه لأصحابه الذين قد يقولون في بعض أقوالهم أو أفعالهم ، يؤدِّبهم ويربِّيهم دون أن يفضَحَهم ، بل يستر عليهم كما هي سنَّته - صلى الله عليه وآله وسلم - ، قال ... ( ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا ؟ أما إنِّي أخشاكم لله ، وأتقاكم لله ، أما إني أصوم وأفطر ، وأقوم الليل وأنام ، وأتزوَّج النساء ؛ فمن رغب عن سنَّتي فليس منِّي ) .

ففي هذا الحديث أن الصلاح والتقرُّب إلى الله - تبارك وتعالى - في سبيل الوصول أو الحصول على مغفرة الله - عز وجل - ليس هو بكثرة العبادة ، وقد سمعتم ما عَزَمَ عليه هؤلاء الرهط من الإكثار والاستزادة على عبادة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فأنكرها عليهم ، وقال معلِّلًا ما كان - عليه السلام - من الاقتصاد في العبادات كلها وعدم الغلوِّ فيها قائلًا : ( أَمَا إني أخشاكم لله ، وأتقاكم لله ، أما إني أصوم وأفطر ، [ وأقوم الليل وأنام ] ، وأتزوَّج النساء ؛ فمن رغب عن سنَّتي فليس منِّي ) .

فمعنى هذه الجملة الأخيرة من هذا الحديث الصحيح أن سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما هي الطريقة التي سار عليها طيلة حياته في كل أفعاله وعباداته لا إفراط فيها ولا تفريط ؛ فمَن زادَ على ما كان - عليه الصلاة والسلام - فحينئذٍ يقول : ( فمن رغب عن سنتي فليس منِّي ) ؛ فهذا الحديث يوجب علينا أن نعرف ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من الدِّين ؛ سواء ما كان منه عقيدة أو عبادةً أو سلوكًا وأخلاقًا ؛ حتى نسير على ذلك ؛ ليكون أعمالنا قد توفَّر فيه الشرط الأول من الشرطين اللَّذين أشار ربُّنا - عز وجل - في الآية السابقة بقوله : (( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا )) .

ومن لوازم هذه المعرفة ما كان عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - أن لا يزيدَ على عبادته شيئًا مطلقًا لِمَا سبق من الآية من إتمام الله - عز وجل - لهذا الدين ، وجعل ذلك نعمةً كبرى على هذه الأمة ؛ لهذا كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يعرفون هذه الحقيقة فلا يزيدون على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من الهدى والنور ، كيف وهو - عليه الصلاة والسلام - كان دائمًا إذا خَطَبَهم يقول في ابتداء خطبته كما سمعتم آنفًا في مطلع هذه الكلمة : ( أما بعد ؛ فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي - وفي رواية : وخير الهدى - هدى محمَّد - صلى الله عليه وآله وسلم - ) ؟!

لذلك جاءت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حاضَّة على التمسُّك بهديه دون الزيادة عليه ، وكذلك جاءت أقوالُ أصحابه ، من ذلك قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : " اقتصاد في سنَّة خيرٌ من اجتهاد في بدعة " ، كذلك رُوِيَ عن حذيفة بن اليمان - رضي الله تعالى عنه - أنه قال : " كلُّ عبادة لم يتعبَّدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا تتعبَّدوها " ، والآثار والقصص التي وردت عن السلف التي تدور حول الوقوف على ما جاءَنا عن الرسول دون الزيادة عليه كثيرة جدًّا ، فحسبنا هذا المقدار ممَّا ذكرنا من الأحاديث والآثار لتبيان أنَّ ما كان عليه الرسول - عليه السلام - هو الذي يجب الوقوف عنده والتعرُّف عليه دون أن نزيد على ذلك ؛ لأننا لن نستطيع الإحاطة والقيام بكلِّ العبادات التي جاء بها الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، لنعود إلى إكمال الكلام فيما يتعلق بالرَّكيزة الثانية التي أشار إليها ربُّنا - عز وجل - في تمام الآية السابقة ؛ حيث قال : (( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا )) ، فقد عرفنا كيف يكون العمل الصالح ؛ وهو ما كان عليه الرسول - عليه الصلاة والسلام - دون زيادة ما .
  • رحلة النور - شريط : 82
  • توقيت الفهرسة : 00:21:31
  • نسخة مدققة إملائيًّا

مواضيع متعلقة