حديث عن قول ابن تيمية في المصالح المرسلة . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
حديث عن قول ابن تيمية في المصالح المرسلة .
A-
A=
A+
الشيخ : نعود الآن إلى تفصيل القول الذي ذكرَه ابن تيمية في المصالح المرسلة ؛ يقول : إذا كان المقتضي بالأخذ بتلك الوسيلة هذا المقتضي كان قائمًا في عهد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ثمَّ لم يأخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يسنَّ للناس المقتضى وهي الوسيلة ؛ فلا يجوز الأخذ بها ؛ لأنها لو كان مشروعًا لَفَعَلَ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .

ومن الأمثلة على ذلك الأذان لصلاة العيدين ، بل المناداة : بـ " الصلاة جامعة " في صلاة العيدين ، إن المقتضي الذي هو إعلام الناس بدخول وقت صلاة العيد عيد الفطر أو عيد الأضحى كما هو موجود اليوم كان موجودًا في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ فلماذا لم يسنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للناس الأذان للعيدين مع وجود المقتضي ؟ الجواب : ليس للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يسن للناس إلا ما يُوحى به إليه ، فإذا يوحى فليس له أن يُشرِّع ؛ لأن الله - عز وجل - وحده هو الذي يجوز له التشريع كما قال - تعالى - : (( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله )) ، فإن كان المقتضي بتشريع الأذان أو الصلاة جامعة موجودًا في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم هو لم يأخذ بهذا المقتضي فإيجازنا ... وهو وسيلة الإعلان هو من الإحداث في الدين ، ومجاوزة سنَّة خير المرسلين .

هذا قوله إذا كان المقتضي موجودًا وقائمًا في عهده - عليه السلام - ، لكن قد يكون المقتضي حدث بعد أن لم يكن ، وهذا من تمام الدقة لكلامه - رحمه الله - ، قال : حين ذاك ننظر إن كان المقتضي سببه تقصير المسلمين في تطبيق أحكامه بهم فلا يجوز - أيضًا - الأخذ بهذا المقتضي ؛ لأنه ناتج من تقصيرهم بتطبيق شريعة ربِّهم ، لعله ذكر هو أو الخطابي ما عاد أذكر الآن ، الخطابي - عفوًا - الشاطبي ، ذكر هذا يقينًا في كتاب " الاعتصام " ؛ لأنه بحث - أيضًا - مسألة المصالح المرسلة هناك بحثًا ظاهرًا مفيدًا ، لكن هذا التفصيل الذي أنقله لكم هو استفدناه من ابن تيمية - رحمه الله - ، ذكر الشاطبي في " الاعتصام " المكوس والضرائب التي كانت بعض الملوك تفرضها على المسلمين ؛ يقول الشاطبي : لا شك أن هذه المكوس محرَّمة ؛ لأنها من باب أكل أموال الناس بالباطل ، لكن - وهنا الشاهد - قال : إذا هاجم العدوُّ المسلمين في عقر دارهم ، ولم يكن في خزينة الدولة وفي بيت مال المسلمين من الأموال ما يُساعد على القيام بردِّ اعتداء العدو فللحاكم المسلم أن يفرض ضرائب تتناسب مع ... الأغنياء منهم لردِّ صائلة هذا العدوِّ ، فإذا رُدَّ رجع الحاكم عن فرضه لتلك الضرائب ؛ لأن المصلحة الطارئة التي فَجَأتهم هي التي اضطرَّتهم إلى أن يضعوا مثل هذه الضرائب ، أما أن تصبح الضرائب فريضة لازمة كما هو موجود اليوم في بعض البلاد الإسلامية بحكم أن الدولة بحاجة إلى أموال ، وليس لها من الموارد والمصادر الطَّبيعية التي أنعمَ الله بها عليها ما يُمكِّنها أن تقوم بتحقيق هذه المصالح للأمة المسلمة أو الشعب المسلم ، لذلك يقولون لا بد من فرض هذه الضرائب ، يقول ابن تيمية والشاطبي : هذه الضرائب إن كانت لسببٍ عارض كالمثال السابق فيما إذا هاجم العدو بلاد المسلمين فهذا لا بأس به ، أما أن تُتَّخذ سنَّةً ونظامًا لبيت مال المسلمين مع انصراف هؤلاء الحكَّام عن جلب أموال الزكوات حسب ما هو مشروع في كتب الحديث والسنة ؛ فالفقر الذي يُصيب بيت مال المسلمين نتجَ بإهمال أحكام الدين ؛ ففي هذه الحالة لا يجوز إيجاد وسيلة جديدة ؛ لأن المقتضى للأخذ بهذه الوسيلة إنما حدث بسبب تقصيرهم بالقيام ببعض أحكام الدين ؛ منها أن تقوم الدولة بجمع أموال الزكوات على التفصيل الذي أشرت إليه آنفًا .

بهذا يُمكن للإنسان أن يفهم أنَّ باب المصالح المرسلة باب مهم جدًّا ؛ لأنه يحقِّق مصالح للمسلمين وبيفهم ظروفهم الخاصة ، فإذا أتقنَّا فهم هذه المسألة في هذه الحدود المبيَّنة في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية سهلَ علينا حين ذاك أن نفهمَ أمورًا وقعت فيما مضى ويمكن أن تقع اليوم وفيما يأتي ، وأن نميِّز فيما إذا كانت من المصالح المرسلة أو من البدع الضالة .

فبالأمس القريب تكلمنا عن موضوع أذان عثمان - رضي الله عنه - ، وأن إحداثه إيَّاه لم يكن من باب الإحداث في الدين ، وإنما كان تحقيقًا لمصلحة مرسلة وُجدت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك ممَّا هو مصرَّح في حديث السائب بن يزيد الذي أخرجه البخاري في " صحيحه " أنه لمَّا توسَّعت المدينة بفترة البنيان فيها وضعَ عثمان بن عفان الأذان الثاني في الزَّوراء ، هذا التوسع شيء لا يملكه المسلمون ، ولا يُنسبون بسببه إلى التقصير ، فهذا المقتضي لإيجاد الآن تشريع جديد لتحقيق حضورهم إلى المسجد النبوي ، فرأى عثمان أن يجعل ذلك الأذان في الزوراء ، أنا أُدخل في هذا الباب تمامًا ما ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من جعله الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثًا ، وهو يعلم يقينًا أنه كان طلقةً واحدةً في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وفي عهد أبي بكر ... ، وفي شطر من خلافته هو نفسه - رضي الله عنه - ، لكنه لما رأى الناس ... ويتتابعون على جمع الطلاق بلفظ الثلاث خلافًا لقوله - تبارك وتعالى - : (( الطلاق مرَّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان )) تساءَلَ في نفسه أو مع مَن كان حوله : لو جعلناه ثلاثًا تأديبًا لهم ؟ فبدا له ذلك فنفَّذه ، هذا لا نستطيع أن نقول إنه إحداث في الدين ، وإنما هذا التصرُّف زمني ، رآى الناس يُخالفون السنة ، ولا شك أنه بيَّنَ لهم أن هذا خلاف السنة ؛ كما نفعل في هذا الزمان تمامًا ، فتجد الناس يتسارعون ويطلِّقون ثلاثًا بلفظ واحد وفي مجلس واحد ، أو في مجالس متعددة في عدَّة واحدة ، فرأى عمر - رضي الله عنه - أن ينفِّذها عليهم ثلاثًا ، هذا اجتهاد منه ليس تعبُّدًا ، وإنما لمعالجة مشكلة وقعت في زمانه ، أصاب أم أخطأ هذا بقى موضوع داخل في عموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد ) ، ما يهمُّنا الآن أن ندقِّق هذا التدقيق لأنه ليس عمليًّا الآن ، وقد ألهمَ الله كثيرًا من علماء المسلمين أن يعودوا إلى السنة الأصيلة ؛ وهي أن الطلاق بلفظ ثلاث إنما هي طلقة واحدة ، لكن المهم أن لا نتسرَّع ونقول أن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أحدث في الدين ، هذا ليس من هذا القبيل أبدًا ، وإنما هو اجتهاد اقتضاه الزمن فيها هذه المصلحة ، اقتضاه الزمن هذا المقتضي لم يكن في عهد الرسول - عليه السلام - ، ولم يكن في عهد عمر لأن الناس كانوا لا يزالون على السنة ، فلما كثر الناس في مخالفة السنة في موضوع التطليق بلفظ الثلاث اجتهد عمر بن الخطاب ، وأنا يترجَّح عندي أنه كان مصيبًا في هذا الحكم ومأجورًا على ذلك أجرين تمامًا ، لكن لا يجوز أن نتَّخذ ذلك سنَّة ونقضي بها على سنة أصيلة وهي سنة الرسول - عليه السلام - ، والتي جرى عليها أبو بكر وعمر - أيضًا - في أوَّل خلافته ؛ هذا من المصالح المرسلة ، فإذا ذهب المقتضي لها ذهب الحكم معها .

وإذا تبيَّن لنا هذا بوضوحٍ تام نعود بعد ذلك إلى موضوع كلام الإمام المسافر ، والذي هو أمَّ مقيم .

السائل : ... .

الشيخ : نعم ، تفضَّل .

السائل : قول ... بالمصالح المرسلة في مجال المعاملات نفس - أيضًا - النظر في مجال تنظيم أمور الناس ، لكن أما ترى أنَّ الأخذ به في مجال العبادات يفتح على الناس باب الابتداع ؟

الشيخ : هو كذلك ، ولذلك الإمام ابن تيمية - رحمه الله - وضع هذين القيدين ، أنُّو إذا كان المقتضي موجودًا في عهد الرسول فلا يجوز الأخذ بالمصلحة المرسلة ؛ لأنه لو كانت مصلحة حقيقية لكان الرسول - عليه السلام - أخذ بها ، ثم إذا وُجد المقتضي حتى في المعاملات أنتم الآن تُشيرون إلى أنُّو ممكن الأخذ بالمصالح المرسلة في المعاملات ، لا ، ابن تيمية - أيضًا - يقول حتى في المعاملات لا يجوز الأخذ بها إذا كان المقتضي للأخذ بها هو تقصير المسلمين بالقيام بأحكام شريعتهم ، فهذه معاملات ، لكن أنتم ترون الآن أن المصلحة المرسلة لا تتعلق أبدًا بالعبادة ، وإنما تتعلق بصورة من صورها ، وأنا الآن دخلت للاستشهاد بما مضى من الكلام الذي نقلته عن ابن تيمية - رحمه الله - إلى هذه الجزئية ، فنحن ما شرعنا كلامًا زِدْناه تعبُّدًا وتقرُّبًا إلى الله - تبارك وتعالى - ، لكننا رأينا أننا إذا رفعنا صوتنا بـ " السلام عليكم " - كما هو الأصل - فعرَّضنا الناس إلى أن يُفسدوا صلاتهم .

لو - أنا أقول لكم الآن - لو قلت .

السائل : أنا ما أقصد الجزئية هذه ... .

الشيخ : لكن أنا أقصدها - بارك الله فيك - ؛ لأن السؤال وُجِّه على هذه الجزئية .
  • رحلة النور - شريط : 28
  • توقيت الفهرسة : 00:00:33
  • نسخة مدققة إملائيًّا

مواضيع متعلقة