حديث رافع في قراءة المؤمن الفاتحة ، هل هو مُعلٌّ بعنعنة ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
حديث رافع في قراءة المؤمن الفاتحة ، هل هو مُعلٌّ بعنعنة ؟
A-
A=
A+
السائل : بالنسبة يا شيخ لحديث رافع ... قراءة المؤمن للفاتحة ، هل هو مُعلٌّ بعنعنة ... ؟

الشيخ : هو كذلك ، لأنه إما أن يرويه بواسطة وهي مجهولة ، أظن اسمه نافع ، وإما أن يُسقطه فهو تدليس ، ولذلك فحديثه مُعلَّل تارةً بالعنعنة ، وتارةً بالجهالة ، يُضاف إلى ذلك أنَّ متنه لا يدل على وجوب قراءة الفاتحة بالنسبة للمقتدي ؛ ذلك لأنَّ الأمر بالشيء بعد النهي عنه لا يستلزم وجوبه ، وإنما الأمر بالشيء بعد النهي عنه يُفيد فقط جوازه ، وليس وجوبه ، والأمثلة على ذلك من القرآن معروفة ومذكورة في علم الأصول على اختلاف المذاهب ؛ مثلًا قوله - تعالى - : (( فإذا حللتم فاصطادوا )) ، فأمره بالصيد هنا هو رفع للمحظور السابق بالنسبة للمحرم أنَّه لا يصطاد ، كذلك قوله - تعالى - : (( فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا بالأرض وابتغوا من فضل الله )) ، فهذا الأمر بالانتشار بعد انقضاء الصلاة لا يعني وجوبه ، وإنما يعني جوازه ؛ لأنه مسبوق بقوله بقوله - عز وجل - : (( إذا نودي للصلاة يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع )) ، فهذا الأمر الذي يفيد ترك العمل جاء رفعه بقوله - تعالى - : (( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض )) ، فإذا استخدمنا هذه القاعدة الأصولية ورجعنا إلى الحديث على فرض صحته بذات اللفظ ؛ ( فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب ؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) .

( فلا تفعلوا ) نهي ، ( إلا بفاتحة الكتاب ) استثناء من النهي فيه الإباحة ولكن من وجوب ، أما الجملة التي بعد ذلك - وهي قوله - عليه الصلاة والسلام - - : ( فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) هي جملة تعليلية لهذا الحكم ، فإن كان الحكم واجبًا فهو تعليل لهذا الحكم الواجب ، وإن كان الحكم مستحبًّا وهو تعليل لهذا الحكم المستحب ، وإن كان الحكم الجواز فهو - أيضًا - تعليل لهذا الحكم الجائز ، فإذا عُرِفَ هذا كان واضحًا جدًّا أن الحديث لا يدل على وجوب القراءة بالمقتدي وراء الإمام في الصلاة الجهرية ، وإن ما يؤكد هذا أمور أوضحها : أن هذا الحديث الذي فيه ما سبق من العلة قد جاء في " مسند الإمام أحمد " بلفظ يؤكِّد أن هذا الأمر لا يعني الوجوب ، بل يعني الجواز المرجوح ؛ حيث كان لفظه : ( فلا تفعلوا إلا أن يقرأ أحدكم فاتحة الكتاب ) ، فقوله : ( إلا أن يقرأ ) يعني إن كان ولا بدَّ واحد منكم يريد أن يقرأ فليقرأ بفاتحة الكتاب ؛ لأن الأصل فيها أن لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب .

لهذا كان الرأي الراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد - رحمه الله - في هذه المسألة ، وتَبِعَه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية من أنَّ المقتدي يجب عليه أن يقرأ بسرية ، وأن يصمت في الجهرية ، ولا يقرأ ما دام أنه يسمع تلاوة القرآن من الإمام ، وبذلك تتجمَّع الأدلة التي يبدو تعارض بينها ، وتسلم من التعارض حينما نضع كلَّ دليل في مكانه المناسب مع ملاحظة ما قد يعارضه ، فينبغي حينَ ذاك التوفيق بين النصوص كما هو معلوم من قواعد علم الأصول ؛ أصول الفقه وأصول الحديث - أيضًا - ، فقد ذكر الحافظ العراقي - رحمه الله - في " شرحه " على " مقدمة ابن الصلاح " في قسم الحديث المختلف ؛ أنه إذا جاء حديثان مختلفان متعارضان في الظَّاهر وجبَ التوفيق بينهما بوجهٍ من وجوه التوفيق الكثيرة التي جاوزت مئة وجه وأكثر - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته - ، وهذا أمر هام جدًّا ، وإلا وقع طالب العلم في حيصة بيصة ؛ فنحن - مثلًا - نقرأ قوله - تعالى - : (( حرِّمت عليكم الميتة والدم )) ، فإذا وقفنا عند هذه الآية ولم نأخذ بما جاءت به الأحاديث من إباحة ميتة البحر والجراد حرَّمنا أكلهما ؛ لأن النَّصَّ القرآني يشملهما (( حرِّمت عليكم الميتة والدم )) ؛ إذًا هذه قاعدة من قواعد التوفيق بين النصوص ، وهي التي يُعبَّر عنها بالعام والخاص ، فإذا جاء نصٌّ خاصٌّ يعارض النَّصَّ العام خُصِّص النَّصُّ العام بالنص الخاص .

ولا يشترط ههنا ما يقوله بعض المذاهب من أنه لا يجوز تخصيص النَّص العام القاطع أو المتواتر بالنَّصِّ الخاصِّ الآحاد ، هذا ليس شرطًا ، وإن كان يذكره بعضهم في كتبه الأصولية ، ولكننا نراهم مع ذلك يخالفون أصولهم في بعض التفريعات وفي بعض الفروع التي منها ما نحن فيه الآن ، القاعدة التي قالوها : " لا يجوز تخصيص العام المقطوع ثبوته - والقرآن من ذلك - من حديث الآحاد الظَّنِّي الثبوت " ؛ مع ذلك وافقوا جمهور المسلمين على إباحة ميتة السمك والجراد ؛ مع أن الحديث في ذلك أقل ما يُقال فيه أنه ليس متواترًا ، فقد خصَّصوا المقطوع ثبوته بالمضمون ثبوته ، على هذا يجب التوفيق بين النصوص المتعارضة ، فعندنا الآية الكريمة : (( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا )) لعلكم ... نصٌّ عامٌّ ، يعارضه النَّصُّ العامُّ الآخر : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) ، هنا عمومان تعارضا ؛ فأيُّ العامَّين يُسلَّط على العام الآخر ؛ آلعامُّ القرآني أم العامُّ الحديثي ؟

لا فرق عندنا بين القرآن وبين الحديث من حيث وجوب العمل بكلٍّ منهما ، والفلسفة التي تُقال فيما ذكرناه آنفًا هذه العلة يُحتجُّ بها عند جماهير العلماء ، بل حتى عند واضعين تلك القاعدة وحيث ما لقوها في كثير من الأمور الأخرى التي تفرَّعت من مخالفة لتطبيق هذه القاعدة ، فلا فرق عندنا بين الآية وبين الحديث من حيث وجوب العمل بكلٍّ منهما ، ولكن هنا عمومان تعارضا ، فأيُّهما يُخصُّص بالآخر ؟ هنا دقَّة الأمر ، إذا نظرنا إلى المذاهب قلنا الحنفية خصَّصوا الحديث بالقرآن ، وكذلك بعض من لا يوجب القراءة بالجهرية ، وعكس الآخرون وقالوا : نحن نخصِّص القرآن بالحديث ، وتكون الحصيلة مختلفة تمامًا ؛ من يخصِّص الآية بالحديث فمعناها كالتالي : (( فاستمعوا له )) إلا بقراءة الفاتحة وراء الإمام ، ومن عكس ذلك يقول : ( لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب ) إلا من كان يسمع قراءة الفاتحة بإتقان ؛ فعليه الصمت والسكوت ، (( ولكلٍّ وجهة هو مولِّيها فاستبقوا الخيرات )) ، وإنما القضية بَقَى النظر الدقيق في ترجيح أحد المذهبين على الآخر والذي رأيناه ... يطرأ عليه تخصيص ما حينئذٍ يُخصَّص به النَّصُّ العامُّ المُخصَّص بغيره ، ولا يجوز تخصيص العام الذي لم يُخصَّص مطلقًا بالنَّصِّ العام الذي خُصِّص بغيره ، هذا كلام دقيق جدًّا ، لكن قد يحتاج إلى توضيح بمثال .

هو مثال الآن بين أيدينا ... .
  • رحلة النور - شريط : 10
  • توقيت الفهرسة : 00:34:11
  • نسخة مدققة إملائيًّا

مواضيع متعلقة