الأمور المعلومة من الدين بالضرورة معلومة عند كثير من الناس ؛ هل يعذر الجاهل بجهله ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
الأمور المعلومة من الدين بالضرورة معلومة عند كثير من الناس ؛ هل يعذر الجاهل بجهله ؟
A-
A=
A+
السائل : ... الأمور المعلومة من الدين بالضرورة معلومة عند كثير من الناس ؟

الشيخ : هذا ليس على إطلاقه ، وكثيرًا ما سُئلنا مثل هذا السؤال في هذه البلاد وفي غيرها ، فالسؤال التقليدي : هل يعذر الجاهل بجهله أم لا ؟ وجوابي : أنه قد يُعذر وقد لا يُعذر ، إذا كان الجاهل يعيش في بلاد إسلامية يغلب عليها العلم بالإسلام وخاصة بعقائده ، وبصورة أخص ما يتعلَّق منها بالتوحيد ؛ فهنا لا يُعذر هذا الإنسان بجهله ؛ لأنه يعيش في جوٍّ إسلامي يُفترض أن يكون قد عرف من الجوِّ الصالح الذي يعيش فيه العقيدة الصحيحة ، وهذا بلا شك - أيضًا - يستطيع الإنسان أن يتصوَّر صورًا متعدِّدة ، جو إسلامي والحمد لله أن البلاد السعودية لا تزال من حيث صلاح عقيدتها هي في القمَّة ، ولكن يقصدها كثير من المسلمين العرب أو العجم لقضاء مصالحهم ، وأحيانًا عباداتهم من الحج أو العمرة ، فقد يكون الواحد منهم أقام في هذه البلاد مدَّةً من الزمن لم يتمكَّن في هذه المدة لقصرها أن يتعرَّف على عقيدة التوحيد مثلًا ؛ فهو لا يزال يحمل في أفكاره بعض الانحرافات عن التوحيد الصحيح ، فهذا برغم أنه أقام في جوٍّ إسلامي وتوحيده صحيح لا يمكن أن يُقاس به من وُلِدَ في هذه البلاد وعاش فيها وترعرع ونشأ وتعلَّم ؛ فهناك فرق كبير بين الأول وبين الثاني ، ولذلك إذا أخذنا هذا المثال الأول ؛ أي : البلد الإسلامي الصحيح توحيده وعقيدته ، ثمَّ قابلناه ببلد آخر ليس بلدًا إسلاميًّا كالمسلمين الذين يُسلمون في بلاد الكفر كأوروبا - مثلًا - أو أمريكا ونحو ذلك ؛ فهؤلاء إذا لم يفهموا بعض العقائد الإسلامية على وجهها الصحيح هؤلاء يعذرون ، لأنهم لا يجدون الجوَّ الذي يُعطيهم المعنى الذي أشرت أنت إليه آنفًا بقولك : صار من المعلوم من الدين بالضرورة ، هذا إنما يصح في المجتمع الأول ، وبالتفصيل الذي ذكرتُه ؛ من نشأ وترعرع فيه ، وليس بالنسبة لمن طرأ حالًّا فيه لمدة قصيرة من الزمن .

ثم نأخذ مثلًا بل أمثلةً أخرى ما بين المثل الأول الصَّالح والمثل الآخر الطَّالح ، ثم نأخذ مثلًا كالبلاد المصرية ؛ حيث يوجد فيها مشايخ وعلماء الأزهر ، وما أدراك ما علماء الأزهر ؟! من حيث الأزهر الشريف ، و و إلى آخره ، ومع ذلك فتجد هناك الشرك ضاربًا أطنابه في الأزهر وفي المساجد مسجد الحسين وغيره ، فيعيش المصري هناك مسكين ، ولا يسمع صوت التوحيد إطلاقًا ، فهذا ليس كهذا الذي عاش في المجتمع الأول ، ولذلك فمن الخطورة بمكان مع استحضارنا لهذا التفصيل وما أُشير إليه مما لم يُذكر من الخطورة بمكان أن يُقال بأن الجاهل لا يُعذر ؛ لأنه يعيش في بلد إسلامي ، يُشترط في هذا البلد الإسلامي أن تكونَ عقائده مشهورة ، وكما قلت : معلوم من الدين بالضرورة .

لنفترض كما قلنا آنفًا رجل إفرنسي أو ألماني أسلم ، ما الذي دفعه إلى الإسلام ؟ شيء من عظمة الإسلام ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، لكن يا تُرى هل مجرَّد أن أعلن إسلامه وعُودي من قومه عرف الإسلام بتفاصيله ؟ طبعًا الجواب : لا ، فقد يكون يعيش هو وزوجته ، وزوجته لا تزال سافرةً متبرِّجةً كما كان قبل إسلامه ، بل وكما كانت هي قبل إسلامها ، ويعيشون مع بعضهم البعض أشقَّاء إخوة وتظهر أمامه كما تظهر أمام زوجها ، هل يُعذر أم لا ؟

يُعذر ؛ لأنه حديث عهد بالإسلام ، ولذلك نجد في بعض الأحاديث ما يمكن اتِّخاذه حجة في أن القول بأن الجاهل لا يُعذر قول مخالف لسنة الرسول - عليه السلام - العملية ، ماذا نقول اليوم لو أن مسلمًا في بلاد الإسلام صاح في صلاته بأعلى صوته ، واستمرَّ في صلاته ، ولم يُعِدِ الصلاة ؛ صلاته صحيحة ولَّا باطلة ؟

صلاته باطلة ، لكن الرسول ما أبطل صلاة من صاحَ في صلاته ؛ لأنه عذرَه بجهله ، وما ذاك إلا لأنَّه كان حديث عهد بالإسلام ، وعلى ذلك تُقاس هذه المسألة الحسَّاسة ، فلا يُقال مطلقًا : الجاهل يعذر ، ولا يُقال مطلقًا : الجاهل لا يعذر ، وإنما المسألة تتحمَّل تفاصيل كثيرة ذكرتُ آنفًا بعضها .

أنا أشرت في مثالي الأخير إلى قصَّة معاوية ابن الحكم السلمي - رضي الله عنه - ، وهو - بداهةً - غير معاوية بن أبي سفيان الأموي ، فقد حدَّث كما جاء في " موطأ الإمام مالك " و " مسند الإمام أحمد " و " صحيح الإمام مسلم " بالسند الصحيح عنه : أنه صلَّى ذات يوم وراء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عطس رجل بجانبه ، فقال له - وهو في الصف في الصلاة - : يرحمك الله . فنظروا إليه بأطراف أعينهم تسكيتًا له ، فعظم عليه هذا الأمر ، فصاح بأعلى صوته وهو يصلي : واثكل أمِّياه ! ما لكم تنظرون إليَّ ؟! فما كان ممن حوله إلا أن أخذوا ضربًا على أفخاذهم تسكيتًا له .

يبدو أن الرجل تنبَّه - ولو بعد لِأْيٍ - بأنه أخطأ فيما فعل من الكلام والصياح ، لذلك قال : فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاة ، أقبل إليَّ .

تصوروا بقى نفسية هذا الإنسان : تصوروا مصلِّيًا في هذا الزمان لو فعل مثل ذاك الإنسان ، وجاء الإمام إليه ، ما الذي يتصوَّره ؟ سيشتِمُه ويسبُّه إن لم يضرِبْه ، كأن معاوية هذا - رضي الله عنه - تصوَّر شيئًا من ذلك لما رأى الرسول مقبلًا عليه ، ولكن خاب تصوُّره ؛ لأنه رسول الله (( ولو كنت فظًّا غليظَ القلب لانفضُّوا من حولك )) قال : فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاة أقبل إليَّ ، ووالله ! ما قهرني ولا كَهَرَني ولا ضربَني ولا شتمني ، وإنما قال لي : ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي تسبيح وتحميد وتكبير وتلاوة القرآن ) .

انتهت قصة الرجل إلى هنا ، ولكن يبدو من ناحية النفس أنَّه لما رأى هذا اللُّطف النبوي شجَّعه بأن يتعلَّم ؛ لأنه عرفَ أنه جاهل ، يصيح في الصلاة بما سمعتم ، ويقول الرسول بأنه : ( لا يصلح شيء من كلام الناس ، وإنما هو تسبيح وتكبير وتحميد وتلاوة القرآن ) ؛ فتشجَّع على أن يوجِّه إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعض الأسئلة ، فأخذ يكرّ بهذه الأسئلة ، سؤال بعد سؤال ، كان مما جاء ذكره في هذا الحديث ، أن قال : يا رسول الله ، إن منَّا أقوامًا يتطيَّرون . قال : ( فلا يصدَّنَّكم ) . قال : ( إن منَّا أقوامًا يخطُّون بالرمل ) . فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( قد كان نبيٌّ من الأنبياء يخطُّ ، فمن وافق خطُّه خطَّه فذاك ) . قال : يا رسول الله ، إن لي جارية ترعى لي غنمًا في أحد ، فسطا الذِّئب يومًا على غنمي ، وأنا بشرٌ أغضب كما يغضب البشر ، فصكَكْتُها صكَّة ، وعليَّ عتق رقبة ، فقال - عليه السلام - : ( هاتِها ) . قال لها - عليه الصلاة والسلام - : ( أين الله ؟ ) . قالت : في السماء . قال لها : ( مَن أنا ؟ ) . قالت : ( أنتَ رسول الله ) . فالتفتَ إلى سيِّدها وقال له : ( اعتقها فإنها مؤمنة ) .

الآن لو وُجِّه هذا السؤال النبوي إلى بعض شيوخ الأزهر ؛ أين الله ؟ لأقام النكير عليك ، فضلًا عن أنه لا يحسن جواب الجارية ، لا يقول لك الله في السماء ، وإن كان عنده شيء من العلم سيحاول أن يطعنَ في صحة هذا الحديث ، وإن سلَّم بصحَّتِه فسيُعلِّل جواب الجارية بتعليلات تعود بالطَّعن في الرسول - عليه السلام - من حيث هو لا يدري ولا يشعر ، ولا أرى الآن ضرورة أن أخوضَ في تفصيل هذا الكلام ، وإنما حسبي أن أربطَ هذا الكلام بما سبق ، إذا كان بعض شيوخ الأزهر وهم الكثرة الكاثرة في مصر مثلًا لا يتبنَّون العقيدة السلفية التي صرَّحت بها الآيات الكريمة ، وتتابعت عليها الأحاديث النبوية الصحيحة ، لا يكون إلا الله - عز وجل - له صفة العلو ، فماذا يكون عقيدة عامة الشعب المصري ؟ أيعتقد كما تعتقد هذه الجارية ، والشيوخ بالأزهر لا يعتقدونها ؟

إذًا ينبغي أن نقول : إن هؤلاء العامة في مصر وفي أمثالها من البلاد الأخرى سواء ما كان منها بلادًا عربية أو أعجمية ، فالشعب هنا وهناك معذور ؛ لأنه لا يعيش في ذلك الجوِّ الإسلامي الذي منه تعلَّمت الجارية تلك العقيدة الصحيحة ، من أين للجارية وهي راعية غنم أن تعرف هذه العقيدة التي لا يعرفها علماء الأزهر ؟ من جوِّ الصحابة : سيِّدها وسيِّدتها وما حولها من الناس كلهم يدينون دينًا واحدًا ، ويتبنَّون عقيدة واحدة ، فعرفت هذه العقيدة من المجتمع الذي عاشته ، وربما تكون قد قَرَأَت واتَّبعت سنَّة الرسول - عليه السلام - في قراءة سورة تبارك ، التي يُسَنُّ للمسلم أن يقرَأَها في كلِّ ليلة قبل أن يضطجع وينام ، وفيها يقول ربنا - تبارك وتعالى - : (( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبًا فستعلمون كيف نذير )) ، فإذًا هذه الجارية - وفي بعض الروايات الضعيفة أنها أعجمية - تلقَّت هذه العقيدة الصحيحة من الجوِّ الذي كانت تعيش فيه ، فسلمت عقيدتها ، أما الجوُّ المصري وجوُّ البلاد الأعجمية الأخرى المَوبوء ولا يجد فيه الأفراد العقيدة الصحيحة ، فأنا في اعتقادي يكونون معذورين كلَّ العذر .

السائل : ... لو أقمنا عليهم الحجة أهل البلد هذا ، لو أقمنا عليهم الحجة ... فهل يبقى لأحدهم ... إذا أقيمت عليهم الحجة ؟

الشيخ : إذا كان الذي يقيم الحجَّة من أهل العلم فانتهى الأمر ، ولا يُعذر بجهله .
  • رحلة النور - شريط : 9
  • توقيت الفهرسة : 00:06:19
  • نسخة مدققة إملائيًّا

مواضيع متعلقة