الترغيب في كثرة المصلين على الجنازة ، وفي التعزية . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
الترغيب في كثرة المصلين على الجنازة ، وفي التعزية .
A-
A=
A+
الشيخ : الترغيب في كثرة المصلين على الجنازة وفي التعزية .

الحديث الأول وهو صحيح ، قال - رحمه الله - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( ما من مجلسٍ يُصلي عليه أمَّة من المسلمين يبلغون مئةً كلهم يشفعون له إلا شُفِّعوا فيه ) رواه مسلم والنسائي والترمذي ، وعنده : ( مئة فما فوقها ) ، يعني بدل قوله في رواية مسلم : ( يبلغون مئة ) فالترمذي قال : ( يبلغون مئةً فما فوقها ) .

ففي هذا الحديث بيان فضل كثرة المصلين على جنازة مسلم ، وأن هذه الكثرة إذا بلغت مئة فما فوقها ، ودعوا لهذا الميت أن يُصلَّى عليه ، وشفَّعوا له عند ربه - تبارك وتعالى - ، وأخلصوا في ذلك ؛ الله - عز وجل - يستجيب دعاءهم ويغفر لميتهم هذا .

أول شيء أريد أن أوضِّح ممَّا يتعلق بهذا الحديث هو قوله - عليه السلام - فيه : ( وشفَّعوا فيه ) ؛ فإنَّ كلمة الشفاعة مع أنها لفظة قصيرة في اللغة العربية أصبح معناها بعيدًا عن أذهان المسلمين ؛ ولا أعني العجم منهم وإنما أعني العرب ؛ لأنهم يفهمون أن الشَّفاعة كأنها خاصة بناس دون ناس ، وهي في الحقيقة لا تعني إلا الدعاء من شخصٍ لآخر ، إذا دعا لنفسه لا يُقال شفاعة ، ولكنه إذا دعا لغيره فقد شفَّع فيه ؛ فإما أن يستجيب الله - عز وجل - له ويقبل شفاعته ؛ وحينئذٍ يُقال شُفِّع أو شُفِّعوا فيه ، وهذا اللفظة التي وردت في هذا الحديث وهي كما سمعتم خاصة باللذين يصلون على الميت ، وبلغ عدده مئة ، وشفَّعوا فيه إلا شُفِّعوا فيه ، قلنا شفاعتهم فيه ؛ أي دعوا فاستجيب دعاؤهم فيه ، هذه اللفظة هي عينها جاءت في حديث الضَّرير الذي يلتبس أمره على كثير من المسلمين اليوم ، ولا يحسنون فهمه ، ويستدلون به على أمر لا أصل له في الإسلام ، وإنما هو من محدثات الأمور ؛ ألا وهو التوسل بالأولياء والصالحين .

حديث الضرير هذا لعلَّه يعرفه كلُّكم أو على الأقل جلُّكم ، وهو من الأحاديث الصحيحة والتي مرَّت منها في هذا الكتاب نفسه مما رواه الترمذي وغيره أن رجلًا جاء رجلًا ضريرًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال : يا رسول الله ، ادعُ الله أن يعافيني ، فهنا الآن ينبغي أن نفهم كلمة " ادعُ " مرادفة لـ " اشفع " ؛ ( ادعُ الله أن يعافيني ) اشفع لي أن يُعافيني ، المعنى واحد ، لكني أنبِّه على هذا سلفًا ومقدَّمًا لتتنبَّهوا لبقية الحديث وليُفهم فهمًا صحيحًا ، قال : يا رسول الله ، ادعوا الله أن يعافيني . قال : ( إن شئت دعوتُ ، وإن شئتَ صبرتَ وهو خير لك ) . قال : فادع ؛ اشفع يا رسول الله ؛ فأنا لا صبر عندي . فقال له - عليه الصلاة والسلام - : ( إيتِ بميضأة وتوضَّأ ، وصلِّ لله ركعتين ، ثم قل : اللهم إني أسألك ، وأتوجَّه إليه بنبيِّك نبي الرحمة ، يا محمد إني توجَّهت بك إلى ربي لِيُعافيني ، اللهم فشفِّعْه فيَّ وشفِّعني أنا فيه ) .

الشاهد يعني اللفظة المتكررة : ( اللهم فشفِّعه فيَّ ، وشفِّعني أنا فيه ) ، فإذا ما تذكَّرنا أن معنى الشفاعة هو الدعاء حينئذٍ يتَّضح لنا أن معنى معنى هذا التعليم النبوي الكريم لهذا الرجل الضَّرير أن يقول في دعائه : ( اللهم شفعه فيَّ ، وشفِّعني فيه ) فمعنى ذلك أنه يقول بالدعاء طالبًا من الله أن يقبل دعاء النبي فيه هو هذا الضرير ، وأن يقبل دعاء الضَّرير في النبي ، كيف يقبل دعاء الضرير في النبي ؟ أي : أن يقبل دعاء النبي في الضرير أن يرجع بصيرًا ، وأن يقبل دعاء الضرير في أن يقبل الله دعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الضرير ؛ إذًا كلمة الشفاعة هي بمعنى الدُّعاء ولا فرق أبدًا ، إنما الفرق يأتي أن الشفاعة تكون بين اثنين ؛ أحدهما الشافع والآخر مشفوع فيه ؛ أما الدعاء فيدعو لنفسه ولا يُسمَّى شفاعةً .

فهنا لما دعا الرسول - عليه السلام - للضرير فهي شفاعة ، كذلك تمامًا لما دعا الضرير أن يقبل الله دعاء النبي فيه فقد - أيضًا - شفع فيه ، لذلك علَّمنا - عليه السلام - أن نقول : ( اللهم فشفِّعه فيَّ ، وشفِّعني فيه ) ؛ ( شفِّعه فيَّ ) اقبل دعاءه فيَّ ، ( شفِّعني فيه ) اقبل دعائي فيه ، طبعًا رسول الله ليس بحاجة إلى دعاء الضرير له ، لكن الحقيقة هذا الضرير لا يدعو للرسول نفسه ، كما دعا الرسول للضرير نفسه ، وإنما هذا الدعاء من الضرير للرسول عائد اليه نفسه ؛ فهذا تأكيد لاستجابة الدعاء من الله - تبارك وتعالى - لنبيِّه - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى هذا الضرير الذي جاء متوسِّلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - متوسِّلًا به إلى الله ، فعامة الناس ... يفهمون القضية فهمًا أعجميًّا ، لا صلة له بفهم العربي إطلاقًا ، توسل به بمعنى قال في دعائه : اللهم بحقِّ محمد ، أو بجاه محمد ؛ هذا المعنى لا يعرفه العرب إطلاقًا ؛ إذا قال العربي : فلان توسَّل بفلان وفلان لا أحد أبدًا يفهم سواء كان مسلمًا أو غير مسلم المهم أنه عربي ، وأن عربيَّته لم تُصَبْ بلكنة أو عُجمة ، كل عربي يفهم أنه حينما يقول قائلهم : فلان توسَّل بالأمير فلان إلى الوزير الفلاني مثلًا لا يعني أنُّو بينه وبين ربه حطَّه واسطة ، وإنما يعنى هذا الكلام الموجز بأن هذا المتوسِّل بالأمير إلى الوزير ذهب إلى الأمير وكلَّمه في حاجة له إلى الوزير فتوسَّط - أي : تشفَّع - هذا الأمير لدى إيه ؟ الوزير ؛ طبعًا المقصود بهذا المثال هو فهمًا لمعنى لهذه الجملة الوسيلة ، وهو بالطبع ليس المقصود بها التَّشبيه ؛ لأن هذا التشبيه هو الذي نردُّه على هؤلاء الذين انحرفوا في فهم هذا الحديث ، فانحرفوا في عقيدتهم وفي تقديرهم لله - عز وجل - حقَّ قدره ، انحرفوا عن ذلك كلَّ الانحراف فشبَّهوه بخلقه ! وكان تشبيههم بخلقه بشمل خلقه ؛ ذلك لأنك إذا أنكرت عليهم مثل هذا التوسُّل - التوسُّل بالشخص إلى الله وليس بدعائه - ؛ إذا قلت : لماذا أنت تقول في دعائك : اللهم إني أسألك بحق فلان ؛ بحقِّ الباز وعبد القادر والجيلاني والبدوي ونحو ذلك ؟ قال : إذا كان لك حاجة عند الأمير أو الوزير ؛ فهل أنت تطلبها منه مباشرةً أم تُدخل بينك وبينه واسطة ؟!

انظروا إلى أيِّ حضيض انحطَّ فهمُ هؤلاء المسلمين ... ؛ يشبِّهونه بالأمير إذا كان لك حاجة إليه فلا بد لك من واسطة !! هكذا يتساءلون وكأنَّ الأمر أمر بدهي ؛ إذا كان لك حاجة عند أمير أو وزير تطلب هذه الحاجة رأسًا منه أم بتحط واسطة ؟ كثيرًا ما كنَّا - ولا نزال - نتجادل مع هؤلاء فنقول متجاوبين معهم لنوصلهم إلى الخطر الذي انحطُّوا به ، نقول : صحيح نحن لا يمكننا إلا أن نحط واسطة إلى هذا الوزير ، فيصمت هو ويظن بأن الحجة أُقيمت علينا ؛ لأننا أقررناهم على هذه الحقيقة السَّيِّئة ، لكننا سرعان ما نعود فنذكِّره ؛ لكن إيش رأيك إذا كان هذا الوزير هو بمثابة عمر بن الخطاب فهو ليس بحاجة إلى وسيط ولا إلى بوَّاب ؛ فأيُّ ... أحسن هذا الذي هو شبيه عمر نطلب منه حاجتنا بدون أيِّ وسيط أم ذاك الأمير الذي أنت تقول يمكننا أن نخاطبه بدون وسيط ؟ لا يستطيع لأن المسألة واضحة إلا أن يقول والله عمر بن الخطاب أولى من ذاك الأمير ؛ فنقول حين ذاك : انظر ماذا فعلت بنفسك ؟ لقد شبَّهت ربَّك بالأمير الجائر وأبيت أن تشبِّهه بالأمير العادل ، ولو أنك فعلت ذلك كفرتَ ؛ لأن الله - عز وجل - كما قال : (( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )) ؛ ليس كمثله شيء من البشر من الملائكة ؛ فهو فوق فوق ما يتصوَّر الإنسان من الكمال ؛ حين ذاك يُسقط في أيديهم وتتبيَّن لهم الحقيقة ، ولكن - مع الأسف الشديد - (( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم )) .

لذلك نحن نقول : هذا الحديث - حديث الضرير - فيه أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - علَّمه هذا الدعاء ، ومما جاء فيه : ( اللهم فشفِّعْه فيَّ وشفِّعْني فيه ) ، فتوسُّل هذا الضرير بالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ليس هو بهذا المعنى الجاهل لا أقول ... لأن الجاهلية أنفسهم لا يعرفون هذا المعنى الحادث المُبتدع الذي أُدخل في اللغة العربية .

أقول : إنَّ فهم هذا التفسير بهذا المعنى هو فهم منحرف عن أسلوب اللغة العربية فضلًا عن مقاصد الشريعة الاسلامية ؛ فنحن نجد في هذا الحديث - حديث الضرير - أولًا : أنه جاء إليه قائلًا : ادعُ الله أن يُعافيَني ؛ إذًا ما جاء ليتوسَّل بذاته - عليه السلام - ، وإلا فالجماهير اليوم من المسلمين يتوسَّلون بذات الرسول - عليه السلام - وهم أبعد ما يكونون عنه ؛ لا سيَّما وهو في قبره - عليه السلام - ؛ إذًا هو جاء ليتوسَّل بدعائه - عليه السلام - ، لهذا قال له : " ادعُ الله أن يُعافيني " ، فالرسول - صلوات الله وسلامه عليه - خيَّره بصراحة قال له : ( إن شئْتَ دعوتُ ، وإن شئتَ صبرتَ وهو خيرٌ لك ) قال : " فادع " ، فعلَّمه - عليه السلام - ماذا يقول ، وعرفتم أن معنى ( اللهم فشفِّعه ) أي : اقبل شفاعته ؛ أي : دعاءه فيَّ ، و ( شفِّعني فيه ) أي : اقبل شفاعتي ؛ أي : دعائي في قبول دعائه فيَّ .

إذًا الشفاعة في اللغة وفي الأحاديث وفي القرآن (( من ذا الذي يشفع عنده إلا بعلمه )) هذه الشفاعة لا تخرج عن هذا المعنى ؛ لذلك الشفاعة يوم القيامة - كما تعلمون - لها أنواع ، وأهمها وهو المقام المحمود الذي وُعِدَ به الرسول - عليه السلام - بقوله - تعالى - : (( عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا )) المقام المحمود هو الشفاعة الكبرى ، وهو حينما ... بأهل المحشر فيذهب وفدٌ منهم إلى أبي البشر آدم - عليه الصلاة والسلام - فيطلبون منه الدعاء إلى الله ، يطلبون منه الشفاعة ، فيقول : " نفسي نفسي ؛ إني نُهيت عن أكل الشجرة فأكلتها " ، الحديث معروف أنهم جاؤوا إلى إبراهيم إلى نوح إلى موسى إلى عيسى ، وكلهم يعتذر لخطأ وقع فيه ، إلا عيسى - عليه السلام - ، لكنه مع ذلك يكل الأمر إلى من وُعِدَ هذا الوعد الصادق إلى محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - حيث يقول : اذهبوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه قد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر ، فيذهبون إليه - صلوات الله وسلامه عليه - فيقول : ( أنا لها ، أنا لها ) ، قال - عليه السلام - - وهنا الشاهد - : ( فأذهب وأسجد تحت العرش ، وأحمده بمحامده لا أذكرها الآن ، فيُقال لي : اشفَعْ تُشفَّعْ ، وسَل تُعطَ ) ، هذه الشفاعة هي عبارة عن دعاء - أيضًا - في هذا الحثِّ للبشر كلهم من يوم ربنا خلق آدم إلى أن تقوم الساعة ، يجتمعون في صعيدٍ واحد ... فيشفع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتعجيل بحسابهم ، هذه الشفاعة الكبرى ، وهي المقام المحمود .

الخلاصة : في هذا الحديث يقول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( ما من ميِّتٍ يصلي عليه أمة ) أي : جماعة من المسلمين ، ( يبلغون مئة ) في الرواية الأخرى : ( فما فوقها ) ، ( كلهم يشفعون له ) يشفعون له أي : يدعون له ، ( إلا شفعوا فيه ) هذا هو الأمر الأول الذي أردْتُ التنبيه عليه ؛ وهو فهم معنى الشفاعة في اللغة العربية في هذا الحديث وفي غيره من النصوص الشرعية كتابًا وسنَّةً .

الشيء الآخر هو : أن ليس كل دعاء يُستجاب ، وأنا أشرح هذا لسبيين اثنين ؛ أولًا بيان الحقيقة ، وثانيًا دفعًا للتواكل الذي قد يقع فيه بعض الناس ؛ لا سيما أولئك الذين يتكلَّفون بتكثير عدد المصلين على الجنازة ، يتكلَّفون تكلُّفًا ربما وصل بهم الأمر إلى مخالفة الشريعة التي تأمر بالاستعجال بتجهيز الميت وتكفينه وإيداعه في مقرِّه الأخير كما يقولون اليوم ، أقول : أن ليس كل دعاء يُقبل ، وإنما يُقبل الدعاء الذي يكون خالصًا صادرًا من قلب المؤمن واثق بالله - عز وجل - مع شروط أخرى سأذكرها قريبًا - إن شاء الله - ، ولذلك جاء في بعض الأحاديث أن الذين يصلون الجنازة يخلصون الدعاء له من السنة التي كان عليها الرسول - عليه السلام - وأصحابه أنَّهم يدعون للميت في صلاة الجنازة ويخلصون له الدعاء ، فهنا حينما يقول - عليه السلام - : ( ويشفعون فيه ) يجب أن نلاحظ أن هذه الشفاعة التي بمعنى الدعاء أن يقترن مع هذا الدعاء الإصلاح ، وليس من هذا الإطلاق أبدًا الدعاء الصَّادر من لسانٍ من قلبٍ لاهٍ غافل ؛ هذا ليس من الإخلاص في شيء ؛ ولذلك فلا يغرَّنَّكم العدد ، لأنَّ المهم الكيف ثم العدد ؛ فكم من داعٍ لا يُستجاب دعاؤه ، لماذا ؟ لقد جاء توضيح ذلك في حديث واحد أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " ... ( ... وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : (( يا أيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ واعْمَلُوا صالِحًا إنِّي بما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ )) ) ، ثم قال أبو هريرة : ( ثم ذكر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يرفع يديه يقول : يا رب يا رب ، ومأكله حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذِّي بالحرام ؛ فأنى يستجاب لذلك ؟ ) هيهات هيهات !

لذلك فالمهم في هؤلاء المئة الذين يشفعون ويدعون للميِّت ليُشفَّعوا فيه أن يكون دعاؤهم مقرونًا بالإخلاص ، وليس هذا فقط ، وقد تطهَّرت أبدانهم من الحرام مأكلًا ومشربًا وكساءً وغذاءً ، هذا هو المهم الذي يجب أن نلاحظه في مثل هذه الأحاديث ، حتى لا يغترَّ مغترٌّ ونقول أن والله الشغلة هينة !! أحدهم يعمل التسعة وتسعين وبقول يا أخي بكرة بيصلوا عليَّ مئة شخص ، وإذا كان ما بيتوفَّروا منتكلَّف وذلك باتخاذ إيش ؟ ما يسمُّونه بالنَّعوة وما نسمِّيه بنعيِّ الجاهلية الذي نهى عنه الرسول - عليه السلام - ، وحذَّر عنه السلف الكرام ؛ حتَّى بالغَ بعضهم فقال كحذيفة قال لأهله : " إذا أنا متُّ فلا تُؤذنوا بي أحدًا " ، لا تُخبروا بي أحدًا خوفًا من أن يقع المخبرون عن وفاته فيما كان عليه الجاهليُّون قبل أن يُبعث فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإعلان الذي لا يكاد يُنكر بالنسبة للإعلان الراقي اليوم - زعموا ! - ؛ ذلك لأنَّ نعيَّهم إنما كان على طريقة ... المعروفة إلى عهد قريب في هذه البلاد ، أو إذا واحد مضيِّع شيء بيطلع رجل يقف على مفارق الطرق أو في الساحات العامة وبينادي ؛ كذلك كانوا في الجاهلية ينعون ميَّتهم بأن يُنادي ناديهم في مثل هذه المجتمعات ، أما الآن فخذ ما شئت من الوسائل ، فالنَّعيُّ على صفحات الجرائد ، والنَّعيُّ على المناشير الخاصة ، وهو حتى مآذن وهذا شرُّ النَّعيِّ ، أن تتخذ المساجد التي بُنيت لعبادة الله - عز وجل - وحده لا شريك له للنعي نعي الجاهلية ، إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد صحَّ عنه أنه سمع من رجل في المسجد ما هو أهون من نعيِّ الجاهلية ، سمع رجلًا ينشد ضالَّةً له ، فقال له : ( لا وجدت ! ) دعا عليه ؛ ( لا وجدت ) ، هو يقول : من وجد ضالة كذا ، ربما ... بقوله كذا ، فدعا عليه الرسول - عليه الصلاة والسلام - وقال : ( لا وجدت ) ، وفي حديث آخر : ( إن المساجد لم تُبْنَ لهذا ) ، فأصبحت مساجدنا اليوم يُعلن منها نعيُّ الجاهلية ، حتى المسجد الأخضر مسجد بني أمية على ما فيه من صياح وزعاق لا يليق بذكر الله - عز وجل - وبقول المؤذِّن : " الله أكبر " مع ذلك يُعلن من هناك أنُّو فلان تُوفي ، وليت أن الإعلان كان هكذا يعني إعلانًا ساذجًا لم يقترن معه شيء من الكلام ممَّا فيه تزكية لهذا المُعلن عن وفاته ، ليت الأمر كان كذلك لكان الشَّرُّ أهون وأقل ، لكنهم قد جروا على عبارة ولنسمِّيها " كليشة " والله ما حفظتها ولكن أتذكَّر منها الكلمة التي تُناسب مقامنا يقولون : بقيَّة السلف الصالحين فلان بن فلان !! فإذًا هذا صار بقية السلف الصالحين ، وقد يكون من أشقياء من أشقى الأشقياء ؛ ذلك لأنَّ الأمر تقاليد ومراسيم وطقوس ، وربما يقترن معها شيء من الدراهم والفلوس ؛ وحين ذاك لا يهم القائل أنُّو فلان بقيَّة السلف أو الخلف .

هذا كله سببه عدم الاهتداء بهدي الرسول - عليه الصلاة والسلام - والتمسُّك بسنَّته التي كان دائمًا وأبدًا يدعو الناس ويذكِّرهم بها في أوائل ومُفتتحات خطبه من مثل ما تسمعوننا هنا حين نقول : ( أما بعد : فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) .

إذًا شفاعة الشافعين المصلِّين على الميت تُقبل بشروط ، بعضها ظاهرة وهو العدد مئة فصاعدًا ، وبعضها قلبية وهو الإخلاص ، وأن يكون الدَّاعي طاهر البدن من مخالفة الله - عز وجل - في مأكله ومشربه وملبسه ، طبعًا هذا لا يعني فقط من هذه الزاوية ، قد يكون هذا - مثلًا - يسرق أو يزني أو يشرب الخمر أو أو إلى آخره ، كل هذه المعاصي تكون سببًا لِـ لا يُستجاب دعاء هذا الداعي على إذا ما راعَينا العدل الإلهي ، أما الفضل الإلهي فهناك لا نتحدث فيه ؛ لأنُّو هذا أولًا غير مظنون ثم غير معهود غير معروف بالنسبة إلينا ؛ بمعنى - مثلًا - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حقِّ المصلي وتارك الصلاة قال : ( خمس صلوات الله كتبهنَّ الله على العباد ؛ فمن أدَّاها وأحسن أداءها وأتمَّ خشوعها وركوعها وسجودها كان له عند الله عهدٌ أن يُدخله الجنة ) هذا " مسوكر " لكن ما ... فيه ، ( ومن لم يؤدِّها ولم يتمَّ خشوعها وركوعها وسجودها لم يكن له عند الله عهد ؛ إن شاء الله عذَّبه ، وإن شاء غفر له ) ؛ إذًا المقيم الصلاة مضمون إلى الجنة ولا شك ولا ريب ؛ لأنَّ الله - عز وجل - لا يخلف وعده ، أما تارك الصلاة فهو كما سمعتم في هذا الحديث وكما يدل عليه عموم قوله - تعالى - : (( إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )) من هؤلاء تاركي الصلاة ، وهؤلاء داخلون - أيضًا - في المشيئة ، ولكن هذا راجع إلى فضل الله ، إذا صدَّق ربُّنا عدله في تارك الصلاة ففي النار ، أما إذا عامل تارك الصلاة بالفضل فيغفر له حين ذاك ، لكن هذا كما قلت آنفًا غير مضمون ، لذلك فلا تظنوا أنُّو القضية سهلة بمجرَّد ما ... جنازة كَثُرَ المصلون عليها خلاص هذه ذهبت إلى الجنة " ترانزيت " ؛ لأن بلغ العدد مئة فأكثر !! لا ، المسألة فيها دقَّة ، ولعلي أوضحت بعضها .

الأحاديث الباقية في هذا الباب كلها تنحو هذا المنحى ، فبعد هذا البيان ما أظنُّنا بحاجة إلى تعليق كثير .

الحديث الثاني وهو صحيح - أيضًا - يقول : وعن كريب أن ابن عباس - رضي الله عنه - مات له ابن بقديد أو بعُسْفان فقال : يا كريب ، انظر ما اجتمع له من الناس ؟ قال : فخرجت فإذا ناسٌ قد اجتمعوا ، فأخبرتُه ، فقال : تقول هم أربعون ؟ قال : قلت : نعم . قال : أخرجوه ؛ فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : ( ما مِن رَجُلٍ مُسلِمٍ يَمُوتُ ، فَيَقُومُ علَى جَنَازَتِهِ أَربَعُونَ رَجُلًا لا يُشْرِكُونَ باللَّهِ شيئًا ؛ إلَّا شَفَّعَهُمُ اللَّهُ فِيهِ ) رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه .

هذا الحديث فيه نحو ما في الحديث السابق ، لكن مع شيء يختلف عنه في الظاهر ، أولهما العدد ، هناك كان العدد مئة ، وهنا العدد أربعون ؛ فهل هناك اختلاف ؟ الجواب : لا ، يوجد مثل هذا الاختلاف في العدد في كثير من الأحاديث التي تتعلَّق بالترغيب في أمر ما ، والسبب على الاختلاف هو أن العدد الأكثر فيه فضل الله - عز وجل - أكثر ، والذي فيه العدد الأقل فهو الذي كان في أول الأمر ؛ بمعنى أن الله - تبارك وتعالى - شرع لعباده أوَّل الأمر أن من صلى على الميِّت مئة فهؤلاء يُشفَّعون فيه ، فبالنسبة للأربعين في تضييق ، والعدد هنا كثير ، لكن بالنسبة لصالح الميِّت فيه تضييق ؛ لأنه قد لا يتوفَّر مئة شخص ؛ فزادَ الله - عز وجل - في فضله على عباده فأنزل العدد إلى الأربعين ، ولم يشترط أن يكون العدد مئة ، هذا هو التوفيق بين العددين الذين يظهر بينهما التعارض باديَ الرأي ، لكن في هذا الحديث تنبيه لأمر هام ، أنا نبَّهتُ آنفًا فتقوى في بعض الأحاديث كما ذكرت لضرورة الإخلاص في الدعاء للدَّاعين للميت ، لكن أنتم الآن أمام قيدٍ هامٍّ جدًّا ؛ وبيناسب وضع المسلمين اليوم من حيث بعدهم عن فهم حقيقة التوحيد ؛ فهنا اشترط أن يكون العدد أربعين لا يشركون بالله شيئًا ؛ وهل نحن نضمن أن يجتمع أربعون أو أكثر في هؤلاء المسلمين الذين نعرفهم اليوم يصدق فيهم هذا الشرط ( لا يشركون بالله شيئًا ) ، أرجو أن يكون كذلك ! ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه ، كيف ونحن لا نزال حتى اليوم يجادل بعضنا بعضًا في كثير من الشركيات القائمة ليس في دمشق فقط أو في حلب أو في سوريا ؛ بل في العالم الإسلامي كله .

لقد قرأنا في بعض المجلات منذ عهد قريب بعض الاستطلاعات التي ... بعض الناس اليوم في بعض البلاد الإسلامية وإذا بهم يتحدَّثون عن البلاد التي يسيطر اليوم على قسم كبير منها من الدول الإسلامية السوفييت ؛ التي كانت فيها دول إسلامية ، بعضها مغولية ، وإذا بهذا المستطلع يتحدَّث أنُّو القبور هناك قائمة على ساق وقدم في التعظيم لها والنذر لها و و إلى آخره ؛ فنقول لماذا يستغرب الناس اليوم أن يعود المسلمون أذلَّاء وهم لا يوحِّدون الله - تبارك وتعالى - حقَّ توحيده ؟ نحن نشكو هنا وهناك !

( لا يشركون بالله شيئًا ) ، فمَن منَّا لا يسمع عامة الناس في أثناء حديثهم هذا يحلف بأبيه ، وذاك يحلف بابنه لأنُّو ... ، وبعض الناس الـ كانوا لهم اسم خاص بـ " الزكرت " أو " الأبضايات " بيحلف بشواربه !! وإن كانت الشوارب صارت الآن يعني لم يبقَ لها ؛ فهذه كلها أَيْمَان ما أنزل الله بها من سلطان ، لكن الناس هل يتذكَّرون أن هذا كله شرك ؟

أنا أعتقد أن قلَّ من لم يسمع مثل قول الرسول - عليه السلام - : ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) ، ولكن بيدخل من هون بيطلع من هون !! لا يبقى لهذا الكلام أثر في قلب هؤلاء السامعين ، لماذا ؟ لأن كفَّار قريش ... كانوا يسمعون ، ولكنهم لا يسمعون ؛ لذلك شُبِّهوا أنهم كالموتى ؛ (( إنك لا تُسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء )) ، (( لا تسمع الموتى )) المقصود هنا والكلام يجر كلام ؛ المقصود في الآية مباشرة هم الأحياء من المشركين ، لكنهم شُبِّهوا بالموتى الحقيقيين في قبورهم ؛ لأن هؤلاء الموتى لا يسمعون ، فلذلك شُبِّه هؤلاء الأحياء الأموات من حيث أنهم لا يستفيدون ممَّا يسمعون من النبي - صلى الله عليه وسلم - من المواعظ شُبِّهوا بالموتى في قبورهم .

نحن مع الأسف الشديد في نواحي كثيرة كأولئك الموتى ؛ نسمع الكلام ولا نتأثَّر به أبدًا ، وهذا هو المثال ؛ حديث ما أظن إلا نادر جدًّا جدًّا من جهلة المسلمين مَن لم يسمع هذا الحديث ، لكن مع ذلك جهلة المسلمين والمثقَّفين منهم ، وبعض المشايخ نعرفهم في بعض البلاد الإسلامية يحلفون بغير الله !! وبيقول لك هذه لغوة لا قيمة لها !! لكن قال : " ما في القلب يظهر على اللسان " كما قررَّنا لكم دائمًا وأبدًا ، " الظاهر عنوان الباطن " ، و " كل إناء بما فيه ينضح " ؛ فإذا كان هذا الإنسان الذي يحلف بالله - بغير الله - قد امتلأ قلبُه حبًّا لله وتعظيمًا له كيف يخطر في باله أو يجري على لسانه أن يحلف بغيره - تبارك وتعالى - ؟! لا يمكن هذا أبدًا ، ولكن ... لا يفقهون ولا يعلمون .

إذًا هنا قيد مهمٌّ جدًّا بالنسبة لـ ... نحن إلا من شاء الله وقليل ما هم ، قال - عليه السلام - : ( لا يشركون بالله شيئًا ) ، ( ما من رجلٍ مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا إلا شفَّعهم الله فيه ) .

ثم قال : وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ( ما من رجلٍ يصلي عليه مئة إلا غفر الله له ) رواه الطبراني في " الكبير " ، وفيه مبشر ابن أبي الليث لا يحضرني حاله ، سنتكلم عن حال هذا الرجل من الناحية الحديثية في الدرس الآتي - إن شاء الله تعالى - .

والآن نكتفي بهذا القدر ، والحمد لله رب العالمين .

مواضيع متعلقة