ما معنى قول العراقي : " لا يلزم من كون الشيء له أصل صحيح أن يكون هو صحيحًا " ؟ وما مفهوم قولهم : " أصل الحديث " ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
ما معنى قول العراقي : " لا يلزم من كون الشيء له أصل صحيح أن يكون هو صحيحًا " ؟ وما مفهوم قولهم : " أصل الحديث " ؟
A-
A=
A+
السائل : ما معنى قول العراقي : " لا يلزم من كون الشيء له أصل صحيح أن يكون هو صحيحًا " ؟ وما مفهوم قولهم : " أصل الحديث " ؟

الشيخ : هذا سؤال مهم في الواقع بالنسبة لطلَّاب العلم عامة وبالنسبة لطلَّاب علم مصطلح الحديث بصورة خاصة ، نضرب مثالًا لفهم هذا الكلام ؛ يُقال في حديث ما رواه فلان وفلان وأصله في " صحيح البخاري " ؛ أي : هذا الحديث بهذا التمام ليس هو في " صحيح البخاري " ، وإنما أصله ؛ أي قطعة منه ، وبخاصة - في الغالب - من أوله هو في " صحيح البخاري " ، أما بهذا التَّمام فهو عند منهجنا الحديثي إليه بتمامه لكن أصله في " صحيح البخاري " ، نضرب على ذلك مثلًا موضِّحًا ومنبِّهًا لكثير من الناس الذين لا يهتمُّون بأداء الأوراد والأذكار التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يهتمون بمثلِها كما جاءت دون زيادة أو نقصان ومعهود عن هؤلاء الناس أنَّه إذا ذُكروا بأن فيما ذكرته من الرواية أو من الذِّكر أو من الدُّعاء زيادة لا تثبت ؛ بيقول لك : يا أخي شو فيها ؟ زيادة الخير خير !! مثال على ذلك لما يقع فيه كثير من الناس قال - عليه الصلاة والسلام - ؛ والحديث في " صحيح البخاري " من حديث جابر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( من قال حين يسمع النداء : اللهمَّ ربَّ هذه الدَّعوة التَّامَّة ، والصَّلاة القائمة ؛ آتِ محمَّدًا الوسيلةَ والفضيلة ، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته ؛ حلَّت له شفاعتي يوم القيامة ) ، هكذا الحديث في " صحيح البخاري " ، وهكذا الحديث في غير ما كتاب من كتب الإمام البخاري ، مثلًا ككتاب " خلق أفعال العباد " للإمام البخاري ، جاء هذا الحديث في " سنن البيهقي الكبرى " ومن طريق الإمام البخاري بزيادة في آخر الدعاء وهي : ( إنك لا تخاف الميعاد ) ، وأنتم تسمعون الناس اليوم محافظين على هذه الزيادة ؛ بحيث لا تكاد أحدًا يقف عند قوله - عليه السلام - : ( وابعثه المقام المحمود الذي وعدته ) ، لا يقفون إلى هنا ، وإنما يزيدون : ( إنك لا تخلف الميعاد ) ، إذا أردنا أن نقول في تخريج هذا الحديث : أخرجه الامام البيهقي في " سننه " ، وأصله في " صحيح البخاري " ، هذا مثال ؛ أي : أنه لا يوجد في " صحيح البخاري " زيادة : ( إنك لا تخلف الميعاد ) ، وعلى ذلك فقيسوا لتفهموا هذه الجملة التي ذكرها السائل نقلًا عن الحافظ العراقي .

السائل : يعني الزيادة ثابتة يا شيخ ... ؟

الشيخ : الزيادة شاذة ، ولنا على ذلك أدلة كنَّا تكلَّمنا عليها بالتفصيل - كما أظن - في " إرواء الغليل " ، لكن ممَّا يحضرني وأنا أجيب بهذا الجواب ؛ أن الحديث - كما سمعتم آنفًا - رواه البخاري في " صحيحه " ورواه - أيضًا - في " خلق أفعال العباد " ، لماذا أنا ذكرت كتاب " أفعال العباد " وهو ليس من الصحيح وهو يروي فيه ما صح وما لم يصح ، كسائر كتبه التي لم يلتزم فيها الصحة ككتابه المشهور بـ " الأدب المفرد " للإمام البخاري ، يروي ما صحَّ وما لم يصحَّ ، لماذا ذكرتُ عطفًا على قوله رواه البخاري في " صحيحه " : ورواه - أيضًا - في كتابه " خلق أفعال العباد " ؟

لأُلفِتَ النَّظرَ أنه في كل من الكتابين لم يروِ الحديث بهذه الزيادة التي رواها البيهقي في " سننه " من طريق البخاري نفسه ، أو لعلي أستدرك الآن على نفسي : من طريق شيخ البخاري ، فرواية البخاري لهذا الحديث في كتابيه بدون هذه الزيادة ذلك من الأدلة على أن هذه الزيادة غير ثابتة ، فهي مروية في " سنن البيهقي " ولكنَّها شاذَّة ، لأن البخاري في كتابه ولأن الإمام أحمد - أيضًا - روى هذا الحديث بدون زيادة ، ورواة وأئمَّة كثيرون أخرجوا الحديث كما جاء في " صحيح البخاري " وفي " خلق أفعال العباد " ، فالحديث صحيح بدون الزِّيادة ، وإذا ذكر الذَّاكر الحديث بالزيادة وعزاها للبيهقي ؛ له أن يقول : أصله في " صحيح البخاري " ؛ أي : إنَّ هذا الحديث له وجود في " صحيح البخاري " لكن ليس بهذا التمام .

هذا يقوله الإنسان حينما لا يُساعده المجال على تفصيل الكلام ، لكن الحق - والحق يجب أن يُقال - إن مثل هذا الكلام لا يروي ولا يشفي أن يُقال أصله في " صحيح البخاري " ما يدل على فصل المتكلِّم ؛ ولذلك فالبيان يطرد الشيطان ، بدل أن يقول : أصله في البخاري ؛ يقول : وهو في " صحيح البخاري " دون هذه الزيادة ، هذا أوضح وأبعد للاشتباه ، وعن إساءة الظن لكلام هذا الإمام الذي يقول : رواه فلان وأصله في " صحيح البخاري " ، الأولى التصريح دون التلويح .

وبهذه المناسبة ننبِّه إلى مثال يُشبه هذا ، وينبغي على طلَّاب العلم أن يَعُوه وأن يفهموه ؛ من المصطلح عليه في كتب علم الحديث - مصطلح الحديث - أنَّه لا يجوز رواية الحديث مصدَّرًا بصيغة تُشعر بصحة الحديث ، فلا يقال في الحديث الضعيف : قال رسول الله ، أو جاء عن رسول الله ، أو كان رسول الله يفعل كذا وكذا إلى آخره ، وإنما قالوا : وإنما يقال في الحديث الضعيف : رُوي وحُفظ وذُكر ، ونحو ذلك من صور التَّمريض المبنيَّة على المجهول ، هذا أمر مقرَّر في كتب المصطلح ، رأيي الشخصي الذي لم أرَ من سبقني إليه وأرجو أن يكون صوابًا ؛ ذلك لأن العلماء يقولون - وهذه أيضًا فائدة أخرى أنبِّهكم عليها - : " الأحكام تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان " ، هذه القاعدة قصيرة جدًّا إذا ما أُطلقت هكذا ؛ " الأحكام تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان " ، صواب هذه القاعدة : " الأحكام المستنبطة - المستنبطة باجتهاد الأئمَّة ، وليست هي الأحكام التي جاءت منصوصة في كتاب الله وفي حديث رسول الله ؛ هذه الأحكام حاشا أن تدخل في هذه القاعدة التي تقول : الأحكام تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان ، وإنما هذه الأحكام هي الأحكام التي قالها الأئمة استنباطًا واجتهادًا ، لأن الاستنباط أولًا معرَّضٌ للخطأ والصواب بخلاف ما كان منصوصًا في الكتاب والسنة ، وثانيًا هذه الأحكام التي قيلت بالاجتهاد والاستنباط رُوعي أثناء الاجتهاد والاستنباط الوضع الذي كان الناس فيه أو عليه ؛ فوُضعت هذه الأحكام كانت تتناسب مع ذلك الزمان .

لعله من المفيد أن نضرب مثلًا غريبًا بعض الشيء ، ومبيِّنًا كيف تتغيَّر الأحكام بتغيُّر الزمان والمكان بالقيد السابق ؛ الأحكام التي تُقال استنباطًا واجتهادًا وليس اعتمادًا على النَّصِّ ، جاء في " شرح الوجيز " للإمام الرافعي من كتب الشافعية المعتمدة ما نصُّه : " لو صلى رجل في أرجوحة - انتبهوا ما يقول - ليست مدعمةً من الأرض ولا معلَّقةً بالسقف " ، سمعتم بهذه الأرجوحة ؟ ليست مستندة على الأرض ولا هي معلَّقة في السقف ، لو صلى في مثل هذه الأرجوحة قال هذا الإمام الفاضل : " الصلاة باطلة " ، لماذا ؟ لأنه يصلي في الفراغ ، " لو صلَّى في أرجوحةٍ ليست مدعمةً من الأرض ولا معلَّقة في السقف فالصلاة باطلة " ، الآن هذه الأرجوحة خلقها الله كما قال - عز وجل - مشيرًا : (( ويخلق ما لا تعلمون )) ، تدرون ما هذه الأرجوحة ؟ الطائرة المعروفة بصورة خاصة بـ " الهيلوكبتر " التي تقف فوق الرؤوس لا تتحرَّك لا تهبط ولا ترتفع ، لا تجوز لا يمين ولا يسار ، تُرى لو كان هذا القائل لتلك الكلمة في العصر الحاضر هل يقول أن الصلاة في الطائرة باطلة ؟ ما يقول ، هو تخيَّل شيئًا ما تصوَّره أن يصبح حقيقة واقعة !

ولذلك وقع لي فيما وقع لي من مناقشات ومناظرات مع بعض مشايخ التقليد في بلادنا السورية ، زرت بلدةً هناك في شمال سوريا لأوَّل مرة في سبيل نقل الدعوة من بلد إلى أخرى ، فاجتمع ما شاء الله في المكان الذي نزلتُ فيه ، وكان منهم مفتي البلدة ، فذاك المفتي بطبيعة الحال يقلِّد يُفتي بناءً على مذهبه الشافعي ، ابتدأ الكلام بكلام في ترحاب جميل ويعني سياسة لطيفة و إلى آخره ، ولكن هو يمهِّد للغمز واللَّمز ، قال أخيرًا : بلغنا أنَّك لا تقلِّد وأنك تجتهد ، دخلنا معه في حديث ولا يهمُّنا التطويل ، قلت له : يا شيخ ، نحن الآن في عصر حدثت أمور وقضايا جديدة فقد لا يجد الإنسان في كتب الفقه جوابًا صريحًا عن هذه المسألة الحادثة ، فماذا يفعل ؟ يعني قلت له : لا بد من الاجتهاد ، وفتح باب الاجتهاد هذا رحمة من رحمة الله وإغلاقه هو كما قال - عليه السلام - لذلك الأعرابي الذي بال في مسجده ، ثم كان من خطئه أي ضلاله كما جاء في الحديث : أنه لما غضب من أصحاب الرسول الذين همُّوا به ضربًا حينما رأوه يبول في المسجد النبوي ، وقال لهم - عليه السلام - : ( لا تزرموه ، إنما بُعثتم ميسِّرين ، ولم تُبعثوا معسِّرين ) ، تركوه حتى قضى حاجته في المسجد النبوي " بول " ! ، من خطئه ومن بداوته أنه بعد الصلاة دعا ربَّه كأنه يروي غيظ قلبه من أصحاب الرسول الذين كانوا همُّوا به فقال : " اللهم ارحمني ومحمَّدًا ولا تشرك معنا أحدًا " هؤلاء الغلاظ القلوب الذين همُّوا به ، لا تشركهم بالرحمة ، إنَّما " اللهم ارحمني ومحمَّدًا ولا تشرك معنا أحدًا " ، قال له - عليه السلام - : ( لقد حجَّرت واسعًا من رحمة الله ) .

وهؤلاء الذين ضيَّقوا على الأمة الإسلامية ، وحرَّموا الاجتهاد ، وزعموا أن بابه قد أغلق منذ القرن الرابع من الهجرة ! قلت لهذا الشيخ : كيف تفعل ببعض المسائل التي تنزل اليوم بالمسلمين ؟ قال لي : مثلًا ؟ - وهنا الشاهد - قلت : - مثلًا - الصلاة في الطائرة ، ماذا تقول تصحُّ أم لا ؟ على البداهة والفور أجاب بالجواب الصحيح : تصحُّ . قلت له : ما الدليل ؟ قال : قياسًا على الصلاة في السفينة . قلت : الآن وقعتَ فيما تنقم عليَّ . قال : كيف ؟ قلت : اجتهدتَ ، مَن سبقك من أهل العلم بأن الصلاة في الطائرة جائزة أولًا ، ثم الدليل على ذلك القياس على الصلاة في الطائرة -على الصلاة في السفينة - ؟ فبُهت الرجل . قلت : ومن العجب أنك أخطأت من حيث أصبت ، كلام متناقض بطبيعة الحال ! وهو يتعجَّب منه ، وأنا أعني ما أقول . قال : كيف ؟ قلت : لما اجتهدتَ أصبتَ ، ولكن لو قلَّدت أخطأت ! قال : ما أصبت . قلت فذكرت العبارة السابقة ، قلت : قال الإمام الرافعي في كتابه " الشرح الوجيز " : ( لو أن رجلًا صلَّى في أرجوحة ليست مدعمةً بالأرض ولا معلَّقةً بالسَّقف ؛ لم تصحَّ صلاته ) ، هذه هي الطائرة ، فأنت لو قلَّدتَ هذا الإمام لَقلت بأن الصلاة لا تصحُّ ، فأرأيت كيف أن الاجتهاد رحمة وليس بنقمة ؟ قال : أنا ما وجدت هذه العبارة ، قلت : قد قيل : " من علم حجَّة على مَن لم يعلم ، ومن حفظ حجَّة على من لم يحفظ " ، ها هو كتاب " شرح الوجيز للرافعي " مطبوع في حاشية " المجموع " للإمام النووي ، باستطاعتك أن ... .

مواضيع متعلقة