تتمة الكلام عن سؤال : هل الجهر بالدعوة السلفية يفرِّق جماعة المسلمين ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
تتمة الكلام عن سؤال : هل الجهر بالدعوة السلفية يفرِّق جماعة المسلمين ؟
A-
A=
A+
الشيخ : فتمامًا لما سبق أقول : ما دام أن الله - عز وجل - قد نصَّ في القرآن الكريم على أنه ليس من مشيئته وإرادته أن يكون الناس أمَّة واحدة فينبغي على الدعاة الإسلاميين أن يوفِّروا جهودهم ولا يوزِّعوها ولا يضيِّعوها في سبيل التوحيد بين كل الجماعات وبين كل الطوائف ؛ لأنهم إنما يحاولون أمرًا مستحيلًا إن فعلوا ذلك ، وإنما يوجِّهون طاقاتهم وهمَمَهم إلى توحيد كما قلت آنفًا بين الأفراد والجماعات التي يجمعهم مذهب واحد أو فكرة واحدة أو عقيدة واحدة ، ومعنى هذا الكلام أنه يجب عليهم أن يهتمُّوا بالمسلمين ، هذا قبل كل شيء ، ولكن لا أعني هذا المعنى الواسع الذي يُفهم من كلمة المسلمين اليوم ؛ ذلك لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - قد أخبَرَ أن المسلمين أنفسهم سيتفرَّقون طرائق شتى ، طرائق قددًا ومذاهب شتى ، وكلكم لا بد أنه سمع يومًا ما قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلُّها في النار إلا واحدة ) . قالوا : مَن هي يا رسول الله ؟ قال : ( هي ما أنا عليه وأصحابي ) .

إلى هذا الحديث يأتي حديث العرباض بن سارية قال : وَعَظَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب ، فقلنا : يا رسول الله ، أوصِنا . قال : ( أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن وُلِّيَ عليكم عبدٌ حبشي ، وإنه مَن يَعِشْ منكم فسيرى اختلافا كثيرًا ؛ فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي ، عضُّوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ) . والشاهد من هذا الحديث قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( وإنه مَن يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا ؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدون ) إلى آخره ، فالمسلمون كما يشهد هذا الحديث وذاك متفرِّقون أشد التفرق وكما يشهد الواقع قديمًا وحديثًا ، فقديمًا وُجِدَت فرق كثيرة جدًّا ، أبسط الناس ثقافة لا بد أنهم سمعوا بفرقة المعتزلة مثلًا ، فرقة الخوارج ثانيًا ، فرقة الشيعة الرافضة ، إلى آخر ما هنالك من طوائف كثيرة وكثيرة جدًّا ، يختلف الناس في سعة الاطلاع عليها وضيق الاطلاع على حسب اطِّلاعهم وعلمهم .

فالمسلمون اليوم وهم يعيشون في هذا الوضع المهين ؛ حيث تسلَّط عليهم الكفار في كل بلاد الإسلام إما تسلُّطًا مباشرًا استعماريًّا استحلالًا لبلادهم كما كان ذلك من قريب في ماضي من الزمان ، أو استحلالًا فكريًّا وتوجيهيًّا كما هو الشأن في هذا الزمان ، وأسوأ الاحتلالات التي أُصِيبوا بها احتلال أذلِّ الأمم لِمَا هو من أقدس البلاد الإسلامية ألا وهم اليهود وهي بلاد فلسطين ، فمعنى هذا أن المسلمين بحاجة إلى أن يوحِّدوا جهودهم وإلى أن يُجمِّعوا صفوفهم وإلى أن ينبذوا تفرُّقهم ويوحِّدوا كلمتهم إذا أرادوا فعلًا أن يصدُّوا العدوَّ عن بلادهم بقسمي الاستعمار أو الاحتلال الذين أشرنا إليه آنفًا ، لكن على أيِّ أساس ينبغي أن يتوحَّد هؤلاء المسلمون المتفرِّقون ؟ لقد قال الله - عز وجل - مؤسِّسًا لهذا الأساس حين قال : (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )) . نحن نعلم أن اختلاف المسلمين اليوم له وجهان ؛ وجه معروف منذ قديم من الزمان ، وهو اختلافهم في فهمهم لدينهم أصولًا وفروعًا ، وليس فقط كما يظنُّ ويصرِّح بعض المشايخ أن الاختلاف إنما هو في الفروع دون الأصول ، هذا كلام خلاف الواقع .

الواقع أن الاختلاف في القديم كان ولا يزال حتى في الأصول وأصل الأصول هو توحيد الله - عز وجل - وعبادته ، وقد شرحنا لكم آنفًا قبل صلاة المغرب التوحيد بأقسامه الثلاثة : توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية أو العبادة ، وتوحيد الصفات ، وكيف أن كثيرًا من المسلمين اليوم لا يعرفون هذا التوحيد فيقعون في الشرك والكفر بالله - عز وجل - من حيث لا يشعرون ؛ فهذا خلاف في الأصول ليس في الفروع ، ولا أريد أن أعيد القول السابق وإنما أنا مذكِّر ، فالمسلمون اليوم يختلفون من وجهين ؛ الوجه الأول قديم ، وهذا مثاله ، والأمثلة كثيرة وكثيرة جدًّا ، والوجه الآخر حديث ألا وهو اختلافهم في الطريق الذي يجب على الدعاة الإسلاميين أن يسلكوه ليتمكَّنوا من إقامة حكم الله ونظام الله في الأرض ، وبذلك يستطيعون أن يُبعدوا الكفار عن بلادهم بالقسمين المشار إليهما آنفًا ، وبعد ... اليوم مختلفون في هذا أشد الاختلاف مع بقائهم على اختلافهم الذي وَرِثُوه من ما مضى من القرون الطويلة العديدة .

ونعتقد أن الخلاف السابق أخطر بكثير من الخلاف اللاحق القائم الآن ؛ ذلك لأن الاختلاف السابق خلاف جذري أصولي عقائدي ، أما الاختلاف الحالي فهو اختلاف وسيلة ، كيف نطرد الأجنبي من البلاد ؟ كيف نُقيم الدولة المسلمة ؟ هذا اختلاف وله تأثيره السَّيِّئ أيضًا ، لكن أسوأ من ذلك بكثير اختلاف المسلمين اليوم هذا الاختلاف الذي وَرِثُوه عمَّا مضى من الزمن ، ولأضرب لكم مثلًا على هذا ؛ فاليوم جماهير العلماء المسلمين ولا أقول عامتهم ، ومنهم جماهير الدعاة الإسلاميين لم يفهموا العقيدة الإسلامية ، العقيدة ، لا أقول : لا يعرفون الصلاة التي صلَّاها الرسول ، ولا أقول : لا يعرفون الصيام الذي صامه الرسول ، ولا أقول : لا يعرفون الحجة التي حَجَّها الرسول ، هذه أشياء لا يعرفونها فعلًا ، لكني أقول : الأمر أخطر بكثير ؛ إنهم لا يعرفون التوحيد الذي جاء به رسول الله عن ربه ، وبيَّنَه في حديثه ، وأصَّله ربه في كتابه ، أضرب لكم على هذا مثلًا :

لو سألتم ونحن قد سألنا وعرفنا وجرَّبنا ، وعلى مَن يحبُّ أن يُجرِّب فليجرِّب ، لو سألتم جلَّ الدعاة الإسلاميين السؤال الآتي المتعلق بوجود الله - عز وجل - الذي هو أصل الأصول وأصل العقائد ، لو سُئلوا : أين الله ؟ لم يستطيعوا جوابًا ، وهم مع ذلك ينقسمون إلى قسمين ، منهم مَن يُبادرك بالإنكار على هذا السؤال ، شو هذا السؤال ؟ هذا لا يجوز ، هذا ضلال ، وقد يقول قائل : هذا كفر ، ومنهم مَن لا يستنكر هذا السؤال ولكنه يحير في الجواب ، يحتار لا يدري ماذا يقول ، وقسم ثالث يُعطيك الجواب ، لكن هذا القسم الثالث ينقسم إلى قسمين ، منهم مَن يقول : " الله موجود في كل الوجود " ، أو يقول خلاف الآخر والمعنى واحد : " الله موجود في كل مكان " ، ويجهلون أن هذا هو الكفر بعينه ، ومنهم مَن يقول خلاف هذا القول وهم أهل العلم ، وأنا سمعت هذا من أحد مشايخي في دمشق الشام يقول على المنبر عَلَنًا على رؤوس الأشهاد : الله - يقول - : " الله ليس فوق ولا تحت ، ولا يمين ولا يسار ، ولا أمام ولا خلف ، لا داخل العالم ولا خارجه " ، يصفون معبودهم بصفات المعدوم ، لو قيل لأفصح العرب بيانًا : صِفْ لنا المعدوم لما استطاع أن يصفه بأكثر ممَّا يصف هؤلاء المسلمون معبودهم ، " لا فوق لا تحت ، لا يمين ولا يسار ، لا أمام ولا خلف ، لا داخل العالم ولا خارجه " ؛ إذًا هذا هو المعدوم !!

السائل : إنما ... .

الشيخ : ذلك ذلك ، لا ، هذا شيء آخر .

السائل : ... .

الشيخ : هذا شيء آخر .

عيد عباسي : ... .

الشيخ : إي نعم ، هذا شيء آخر ، حكموا على ربِّهم بالعدم حينما وصفوه بهذه الأوصاف التي يسمِّيها علماء الكلام بالسلوب ، سلب لا لا لا ، بدنا إي إي إي ، بدنا تعطونا صفات إيجابية ، لا لا لا لا ، زيد من الناس شو لونه ؟ بيقول لك : لا هو أبيض ولا هو أسمر ولا هو كذا ، لك أخي بعدين لا لا لا ؟ لو تمِّيت من الصباح وللمساء وأنت بتقول : لا ؛ ما قدَّمت لنا شيء ، بس قل لنا لونه شو هو ؟ قول - مثلًا - : أصفر ، بني الأصفر قول أي شيء يطابق الواقع ، رب العالمين كما قال : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) ، لكن ما قال ليس فقط ، بعدين شو قال ؟ (( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) ؛ إذًا ما بيكفي نقول ليس ليس ليس ليس ليس ليس ، لا بد أن نقول : هو هو كذا وكذا وكذا إلى آخره ، ما في شيء .

ولذلك يعجبني جدًّا ملاحظة دقيقة بَدَرَتْ من أمير من أمراء دمشق في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ، ابن تيمية في زمانه كان حامل راية الدعوة إلى الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح ، ومن أجل ذلك كان جماهير المشايخ والقضاة والمفتين والحكَّام و وإلى آخره ضده ، وكانوا دائمًا يثيرون المشاكل في طريقه ودعوته ، وكانوا دائمًا يُقدِّمون الشكاوى إلى الوالي أنُّو يعمل كذا ويُفرِّق الناس و و فتن إلى آخره ، وفي نوبة من نوبات أحد الأمراء هناك الأذكياء العقلاء شكوه إليه ، فطلبهم أن يتناظروا معه بين يديه ، فاجتمعوا لميعاد يوم عظيم بين يدي الأمير ، وجرى النقاش بين الفريقين ، ابن تيمية - رحمه الله - وصف الله بما وصف به نفسه في عديد من الآيات الكريمة وكثير من الأحاديث النبوية الشريفة ، وباختصار لا أريد البحث بالتفصيل في هذه المسألة بالذات ، وإنما ذكرتها كمثل لِبُعْد المسلمين حتى الدعاة منهم عن العقيدة الإسلامية الصحيحة ؛ فلا أريد أن أذكر الآيات والأحاديث وإنما الفكرة .

استدل ابن تيمية بالآيات والأحاديث على أن الله - عز وجل - له صفة الفوقية كما قال : آيتين راح أذكر لكم فقط : (( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )) ، والآية الأخرى : (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )) ؛ إذًا الله له صفة الفوقية ، لا يُقال : هو تحت ، ولا يمين ولا خلف ولا ولا ولا داخل العالم ، لكن يُقال : الله على العرش استوى ، الرحمن نفسه استوى ، هنا شو جابهوه هو ؟ كانوا من القسم الثاني مو القسم الأول اللي بيقولوا : " الله موجود في كل مكان " ، المشايخ هاللي كانوا عم يجادلوا ابن تيمية كانوا من القسم الثاني ، فقالوا والأمير يسمع - وهنا الشاهد - : " الله لا يُوصف بأنه فوق " . عم يردُّوا على ابن تيمية ، " الله لا يوصف بأنه فوق ولا تحت ، ولا يمين ولا يسار ، ولا خلف ولا أمام إلى آخره ، لا داخل العالم ولا خارجه " . ماذا قال الأمير الكيِّس الفطن ؟ قال : " هؤلاء قومٌ أضاعوا ربَّهم " ، هذه حقيقة !! أضاعوا ربَّهم !!

طيب ، أنت لما بتقول في السجود ربِّيَ الأعلى ما عم تتصوَّر جلال الله وعظمته ؟ عم تتصوَّروا أنُّو هو حالل في كل مكان في الكُنُف في البارات في الحانات في الخانات في المجاري في في إلى آخره ، حاشى لله ! أعوذ بالله ! إذًا عم تتصوَّروا مثل ما قالوا هدول الضالين الذي ضيَّعوا ربهم : لا فوق ولا تحت و ؛ إذًا هذا معدوم ، لكن أنت تقول ولا تعي ما تقول : " سبحان ربي الأعلى " ، شو معنى الأعلى ؟ الذي ليس فوقه شيء ، الذي هو فوق كل شيء ؛ فإذًا يجب أن تعرف ربَّك ؛ فهؤلاء الذين يقولون اليوم وقبل اليوم : " الله لا فوق ولا تحت " أضاعوا ربَّهم ، وفيهم جماعات من كبار العلماء اليوم ومن الدعاة الإسلاميين .

أين ذهب عنهم الآيات الكثيرة الواردة في هذا الصدد ؟ إنهم لم يدرسوا العقيدة على طريقة السلف الصالح ، السلف الصالح أقوالهم كثيرة في هذا الصدد ، وأيضًا لا أريد أن أطيل البحث ، ولكن أنقل لكم عبارة واحدة لأنها جمعت وأَوْعت مع إيجازها ؛ فهذه عبارة عبد الله بن المبارك من الشيوخ الأجلَّاء من شيوخ الإمام أحمد ، قال ابن المبارك : " الله - تبارك وتعالى - فوق عرشه بذاته ، بائن من خلقه ، وهو معهم بعلمه " ، " الله - تبارك وتعالى - فوق عرشه بذاته ، بائن " ، هذا طبعًا كالآية السابقة : (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )) ، بائن من خلقه ؛ أي : ليس داخل العالم كما يقول القسم الأول : " إن الله موجود في كل مكان " ، المكان حدث لم يكن ، والله كان ولا زمان ولا مكان ، وإذا قال هؤلاء : " الله موجود في كل مكان " ؛ معناها حَشَرَ نفسه في هذا الخلق الذي هو حقير بالنسبة لربِّ العالمين الجليل ، الله أكبر من كل شيء .

نحن بنقول : الله أكبر كذا مرات في الصلاة ما نُدرك إيش معنى الله أكبر ، لا يؤمن بالله أكبر مَن يقول : " الله موجود في الكُنُف والكهاليز والغرف والحمامات و وإلى آخره ، فردًّا على هؤلاء وردًّا على أولئك قال ابن المبارك : " الله - عز وجل - فوق عرشه بذاته " ، أولئك قالوا : ليس فوق ، هو يقول : فوق بمعنى القرآن ، وهو القاهر فوق عباده ، (( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ )) في القرآن الكريم يصف عباده المؤمنين بهذه الصفة ، (( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ )) ، فالذي لا يخاف الله يُلاحظ أنه فوقه فليس من هؤلاء العباد المؤمنين .

فردًّا على هؤلاء الذين قالوا : " الله ليس فوق " ؛ قال ابن المبارك : " الله - تبارك وتعالى - فوق عرشه بذاته " ، وردًّا على الطائفة الأخرى التي تقول : " الله موجود في كل مكان " ؛ قال : " وهو بائن من خلقه " ؛ يعني منفصل ، يعني كما قال - تبارك وتعالى - في القرآن الكريم : وهو الغنيُّ ، إيش الآية ؟ الغني عن العالمين .

سائل آخر : ... .

الشيخ : في عدة آيات بهذا الصدد .

عيد عباسي : (( فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) .

الشيخ : إي نعم ، فالله غنيٌّ عن العالمين ؛ فليس هو بحاجة إلى بيت يأوي إليه كما هو حال مثل العبيد ، (( فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) ردًّا على هؤلاء الذين يقولون : " الله موجود في كل مكان " ؛ قال : " بائن من خلقه " ، ولكي لايتوهَّمنَّ أحدٌ من كون الله - عز وجل - فوق عرشه بذاته بائنًا من خلقه أنه لا يسمعهم ولا يعلم ما يتحدَّثون به قال : " وهو معهم بعلمه " ، ثلاثة جمل جمعت نصوص الكتاب والسنة الكثيرة والكثيرة جدًّا في هذه الجمل الثلاث ، قال : " الله - تبارك وتعالى - فوق عرشه بذاته ، بائن من خلقه ، وهو معهم بعلمه " .

للحافظ الإمام الذهبي الدمشقي رسالة خاصَّة في هذه المسألة مطبوعة عدة طبعات اسمها " العُلُوُّ للعليِّ الغفار " ، جَمَعَها ابن المبارك في هذه الثلاثة كلمات : " الله - تبارك وتعالى - فوق عرشه بذاته ، بائن من خلقه ، وهو معهم بعلمه " .

هذه مسألة من جملة المسائل التي اختلفوا قديمًا ، ولا يزالون مختلفين اليوم إلا مَن رحم ربُّك ، اليوم الدعاة الإسلاميون مختلفون ، فما هو المخرج أوَّلًا : لتصحيح عقائدهم ، وثانيًا : لتوحيد الخطِّ للخلاص من هذا الذُّلِّ الذي حلَّ بالمسلمين ؟!

نحن نعتقد جازمين وَلنُعلنها صريحة على الناس أجمعين فنقول : المخرج هو كما قال - تعالى - : (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )) ، ونحن نعلم أن كل جماعة مختلفين إذا أرادوا مخلصين أن يتَّحدوا فلا بد لهم من أن يضعوا منهجًا يجمعهم ودستورًا ونظامًا يُوحِّدهم ، نحن نجد أبعد الأمم والدول بعضها عن بعض لما بيشعروا بضرورة التقارب والاتفاق والاتحاد ولو لزمن محدود يجتمعون ويضعون منهج يتَّفقون عليه ويقفون عليه ، فكيف ونحن مسلمون وقد أراحنا الله - عز وجل - من أن نُشغِلَ أفكارنا وأذهاننا بأن نضع دستورًا ومنهاجًا يجتمع المسلمون المختلفون عليه ، قد أغنانا الله - عز وجل - عن مثل هذا بكتاب الله وبحديث رسول الله ، هذين المصدرين الأساسيين اللذَين أخبرنا الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بحقٍّ أن المسلمين لن يضلُّوا ولن يهلكوا ما داموا متمسِّكين بهما كما قال - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح : ( تركت فيكم أمرين لن تضلُّوا ما إن تمسَّكتم بهما ؛ كتاب الله وسنَّتي ) .

فإذًا إذا اختلف المسلمون فالطريق لتوحيدهم وللخلاص من هذا الذُّلِّ الذي رانَ عليهم لا سبيل إليه إلا بالدعوة إلى الكتاب والسنة ، ثم ليس المقصود ، هنا ملاحظة هامة ، ليس المقصود بالدعوة يا إخواننا - وليبلِّغ الشاهد الغائب - ؛ ليس المقصود بالدعوة إلى الكتاب والسنة هو الدعوة إلى اسم الكتاب السنة ، هنا حقيقة هامة جدًّا ، المقصود بالدعوة للكتاب والسنة الدعوة إلى العمل بالكتاب والسنة =

-- بدك تطوِّل بالك شوي عليَّ ، شو رأيك ؟ بدك تطوِّل بالك إن شاء الله --

= المقصود بالدعوة إلى الكتاب والسنة هو العمل بما في الكتاب والسنة ؛ فلذلك فلا يكفي أن ندعو إلى الكتاب والسنة ثم تبقى أوضاعنا العلمية الفكرية وأوضاعنا العملية والاجتماعية كما كانت منذ قرون ، ندعو إلى الكتاب والسنة لكن من حيث الواقع مكانك راوح ، متحرِّك أنت ولكن لست متحرِّكًا إلى الأمام ، وإنما إذًا المقصود بالكتاب والسنة هو العمل بما في الكتاب والسنة . ثم هنا ملاحظة أخرى ؛ ليس المقصود بالعمل بالكتاب والسنة العمل بما أفهم أنا وأنت وزيد وبكر من الكتاب والسنة ، وهنا سيعود الناس إلى الاختلاف في تفسير الكتاب والسنة أيضًا ، وإنما المقصود بالعمل بالكتاب والسنة بعد فهمهما على منهج السلف الصالح .

تسمع يا أستاذ مصطفى ؟

مصطفى : نعم نعم .

الشيخ : المقصود بالعمل بالكتاب والسنة مفهومًا على منهج السلف الصالح ، مش مفهومًا على فهمي أنا أو أنت أو زيد وبكر وعمر ؛ حينئذٍ سنعود القهقرى ، وسنزداد اختلافًا على اختلاف ، وسنأتي باختلافات جديدة فوق الاختلافات القديمة ؛ لهذا نجد في القرآن الكريم قولَ ربِّ العالمين : (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )) ، هنا نكتة ؛ لماذا قال ربنا : (( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )) ؟ لماذا لم يقتصر على قوله : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى نوله ما تولى " إلى آخر الآية ؟ لكنه أضاف إلى مشاققة الرسول قوله : (( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )) ؟ هنا سر عظيم جدًّا ؛ وهو إشارة إلى أن هناك ناسًا يزعمون أنهم يتَّبعون الكتاب والسنة ولكن بمفهومهم الخاص ، ومن هنا جاءت الفرق الإسلامية ، لا يوجد فرقة من الثلاث والسبعين فرقة التي أشار إليها الرسول - عليه السلام - ؛ لا يوجد فيها فرقة تقول : نحن براء من الكتاب والسنة أبدًا ، أضلُّ الفرق الإسلامية اليوم أقولها صراحةً وصريحةً من جهة الدعوة كجماعة يدعون هم جماعة " القاديانية " الهنود الذين يزعمون بأن الله بعث نبيًّا في آخر الزمان منذ سبعين سنة اسمه " ميرزا غلام أحمد القادياني " إلى آخر ضلالاتهم ، هؤلاء يقولون : نحن على الكتاب والسنة ، لكن إذا قيل لهم : كيف تعتقدون بأنُّو في نبي بعد الرسول والله يقول في القرآن الذي تزعمون أنكم تؤمنون به : (( وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ )) ؟!

جاؤونا بمعنى ما يعرفه السلف إطلاقًا !! قالوا : (( وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ )) مو معناه آخر النبيين ، لَكان شو المعنى ؟ خاتم النبيين يعني زينة النبيين ؛ كما أنه الخاتم زينة الأصبع كذلك النبي محمد هو زينة الأنبياء ، مو معنى الآية آخر الأنبياء ؛ إذًا هؤلاء مؤمنون بالآية ، لكن ماذا أفادهم هذا الإيمان ؟

السائل : ... لا يدخل فيه الموضوع هذا .

الشيخ : ماذا أفادَهم هذا الإيمان ؟

السائل : ( لا نبيَّ بعدي ) أستاذ .

الشيخ : نعم ؟

السائل : ( لا نبيَّ بعدي ) .

الشيخ : كذلك ؛ لا ، كمان لهم تفسير غريب ، قالوا : ( لا نبيَّ بعدي ) معي ، معي .

...

الشيخ : أما بعد منه في ، ( لا نبيَّ بعدي ) معي ... .

...

الشيخ : إي ، هلق نحن ما نبحث القاديانية ، عم نجيب أمثلة عالماشي سريعة .

السائل : ... .

الشيخ : سريعة ، إي نعم .

الفرقة الأخرى وهي لا تدعو ، لكنها تبثُّ أفكارها بصورة خطيرة جدًّا وهي غلاة الصوفية القائلون بوحدة الوجود ، الذين يقول قائلهم :

" وما الكلب والخنزير إلا إلهُنا *** وما الله إلا راهبٌ في كنيسة "

الذين يقول قائلهم : " لمَّا عبد المجوس النار ما عبدوا إلا الواحد القهار " !! الذين يقول قائلهم : " إنما أخطأت اليهود والنصارى لأنهم حصروا ربهم في : اليهود في العزير ، والنصارى في الأب والابن وروح القدس " ، قال : " أما نحن - يعني الصوفية هؤلاء - فقد عمَّمناهم في كل شيء !! " ، هديك ضلُّوا لأنهم حصروا في ثلاثة ، أما نحن فقد عمَّمناهم بكل شيء ؛ لذلك تأكيدًا لهذا المعنى قال قائلهم : " كلُّ ماتراه بعينك فهو الله " ، أيضًا ليس قصدي البحث في الصوفية وضلالاتها وخرافتها ، لكن هل تسمعون صوفيًّا يقول : أنا أبرأ من الكتاب والسنة ؟ أبدًا ؛ لذلك لا بد من أن نتمسَّك بماذا نسمِّيه ؟ صُمَام الأمان ، ما هو ؟ أن نفهم الكتاب والسنة على ما كان عليه السلف الصالح ، وإلا فكلُّ المسلمين على ما فيهم من اختلاف وضلال يقول : أنا على الكتاب والسنة ، كما قال الشاعر في غير هذا المجال :

" وكلٌّ يدَّعي وصلًا بليلى *** وليلى لا تقرُّ لهم بذاكا "

كلُّهم يدَّعي أنه على الكتاب والسنة ، لكن من الذي يشهد له أنه على الكتاب والسنة ؟ من كان جاء الحديث السابق قالوا : مَن هي يا رسول الله ؟ قال : ( هي ما أنا عليه وأصحابي ) . ( ما أنا عليه وأصحابي ) كالآية السابقة : (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )) ، فإذا كان اتَّبع القرآن والسنة بزعمه ، لكن خالف سنة المسلمين طريقة المسلمين فكمان ينطبق عليه : (( نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )) .

هنا نصل إلى نهاية المطاف أنه إذًا لا يكفي أن ندعو إلى الكتاب والسنة دعوة مجرَّدة عن التطبيق العملي ، لا يكفي أن ندعو إلى العمل بالكتاب والسنة حسب أهوائنا ومفاهيمنا الخاصة ، بل لا بد أن يكون ذلك قائمًا على فهم الكتاب والسنة على ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين الذين هم من القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيريَّة .

أخيرًا : ما هو السبيل إلى معرفة ما كان عليه السلف الصالح ؟

هو السنة ، السنة هي التي تدلُّنا على ما كان عليه الرسول أوَّلًا ، وعلى ما كان عليه الصحابة مما تلقَّوه عن الرسول ثانيًا ، وعلى ما كان عليه بقية السلف الصالح مما تلقَّاه هؤلاء عمَّن قبلهم ، هذا هو صُمام الأمان إذا صح التعبير ، وهو الضَّمان لكي لا ينحرف المسلمون باسم تمسُّكهم بالكتاب والسنة عن الكتاب والسنة .

إذا عرفتم هذه الحقائق فنحن نعتقد بكلِّ إخلاص وصراحة أنه لا بد أن نكون صريحين مع المسلمين الذين يجمَعُنا معهم الإيمان بكتاب الله وبحديث رسول الله ، يجب أن نكون صريحين معهم أنه لا يكفي ... .

... الإسلامية تنتمي إلى الكتاب والسنة كما ذكرنا ، لكن لا أحد منهم يتجرَّأ ليقول : نحن على ما كان عليه السلف الصالح أبدًا ، إلا فرقة واحدة هي تسمَّى في البلاد الشامية بـ " السلفيين " ، تسمَّى في البلاد المصرية بـ " أنصار السنة المحمدية " ، تسمَّى في البلاد الهندية والباكستانية بـ " أهل الحديث " ، هؤلاء فقط هم الذين يتمسَّكون بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح .

ومثال فارق بين هؤلاء السلفيين من جهة والآخرين من جهة أخرى تلك العقيدة الهامة ؛ أين الله ؟ سلوا مَن شئتم غير السلفيين لا يدري الجواب ، والجواب مذكور في السنة ، وتوارَثَه علماء السلف ، السؤال مقرَّر في السنة مع الجواب ، لكن غير السلفيين لا يعرفون لا السؤال ولا الجواب ؛ لأنهم لا يأخذون الشريعة حتى في العقيدة على طريق السلف الصالح ، وإنما حسب ما يبدو لآرائهم ، وآراؤهم مقسَّمة إلى ما ذكرنا " الله موجود في كل مكان " ، أو " ليس لا داخل العالم - باختصار - ولا خارجه " .

التمسُّك بما كان عليه السلف الصالح هو الضمان لكي لا ينحرف المسلمون يمينًا ويسارًا ؛ لبيان هذه الحقيقة لا بد من إعلان الحق على الناس والاهتمام بهذا الأصل ؛ أي : فَهْم الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح ، وبعد ذلك دعوة المسلمين إلى فهم التوحيد الذي ينجُون به عن الوقوع في الشرك الذي يستحقُّ صاحبه الخلود في النار ، إذا انطلق المسلمون في دعوتهم على هذا الأساس وعلى هذا المنهج أمكن أن يتفقوا وأن يفكِّروا بعد ذلك بحلِّ المشكلة القائمة الآن من الناحية السياسية ؛ وهو احتلال الكفار للبلاد الإسلامية على الوجه الذي سَبَقَ ذكره .

فإذا قيل كما ورد في أول السؤال : هذا يُفرِّق المسلمين ؛ نحن نقولها صريحة : نعم ، نعم دائمًا وأبدًا الدعوة إلى الحق يُفرِّق بين أهل الحق وبين أهل الباطل ، وهكذا كان شأن الرسول - عليه السلام - حينما بُعِثَ بين قومه قريش ، ماذا كانت النتيجة ؟ إن قريشًا انقسموا وتفرَّقوا ، ناس آمنوا بالله ورسوله ، وناس كفروا بالله ورسوله ، فكان يلتقي الولد الكافر مع الوالد المؤمن في معركة واحدة ؛ هذا أليس تفريقًا ؟ نعم ، لكنه تفريق بالحق ؛ لذلك فلا ينبغي أن نغترَّ بدعوة نسمعها أحيانًا أن الدعوة صحيح الدعوة السلفية دعوة حق لكنها تُفرِّق بين الناس ، ونحن نريد أن نوحِّد الناس ؛ نقول : نعم ، نحن نريد أن نُوحِّد الناس ، ولكن على أساس دعوة الحق لا أن نُوحِّد الناس على أساس طمس الحق والقضاء عليه .

ولذلك جاء في " صحيح البخاري " عن الرسول - عليه السلام - أن من أوصافه أنه مُفرِّق ؛ مُفرِّق بين الحق والباطل ، مُفرِّق بين أهل الحق وأهل الباطل ؛ لذلك فلا يهمُّنا أبدًا أن يُقال : إن دعوتكم هذه دعوة حقِّ لكنها تُفرِّق ؛ فإننا نقول : ما دام أنها دعوة حق فلا يهمُّنا أنها تُفرِّق ، لكن كل الذي يهمُّنا أن تكون دعوتنا قائمة على الإسلام الذي هو القرآن والسنة ، وبصورة خاصَّة في فهمي للجواب على هذا السؤال أن تكون هذه الدعوة قائمة على قوله - تبارك وتعالى - : (( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )) ، ولكن حذار أن يختلط الحق بالباطل ؛ أن يظنَّ بعض الناس أن من الحق ومن الحكمة في الدعوة إلى الحق أن تتريَّث عن دعوة الحق ، وأن تُؤجِّل الدعوة إلى الحق إلى زمن تُقدِّره أنت ، هذا ليس من الحكمة في شيء أبدًا .

(( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ )) ليس معناه أجِّل الدعوة إلى سبيل ربك ، وإنما معناه اقْرُنْ مع دعوتك الحكمة والموعظة الحسنة .

هذا ما عندي في الجواب عن السؤال السابق ، فمن كان الآن له سؤال فليتفضَّل شاكرًا .

مواضيع متعلقة