شرح حديث : ( من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) وكيف نعرف الحسنة من السيئة . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
شرح حديث : ( من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) وكيف نعرف الحسنة من السيئة .
A-
A=
A+
الشيخ : ولعله يحسن أن نضرب مثلاً آخر لأنه له علاقة بكثير مما يثار اليوم ويجري النقاش حوله , ويستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الإسلام سنةً حسنةً فلها أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة , دون أن ينقص من أجورهم شيء ) , إلى آخره الحديث فإن جماهير العلماء اليوم وقبل اليوم ببضع قرون يفسرون هذا الحديث تفسيرًا على خلاف ما يدل عليه سبب وردوه , فيقولون معنى الحديث: ( من سن فيّ الإسلام سنةً حسنة ) , أي: من ابتدع في الإسلام بدعةً حسنة , وعلى ذلك يضطرون أن يخصصوا عموم قوله عليه الصلاة والسلام بالحديث السابق ذكره: ( من أحدث فيّ أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌ ) , وكذلك يفعلون بالحديث الذي هو أوضح فيّ الدلالة على عموم وشمول الذم لكل بدعة ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ( كل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالةٍ فيّ النار ) فحينما وقعوا في تأويل الحديث السابق ( من سنة سنةً حسنة ) بـ ( من ابتدع فيّ الإسلام بدعةً حسنةٌ ) اضطروا توفيقًا بين ذاك الحديث وهذا المفهوم للحديث ولا أقول بين ذاك الحديث وهذا الحديث لأنه فيّ الحقيقة لا تنافر ولا تنافي بينهما , وإنما جاء التنافر والتنافي بين ذلك الحديث العام الذي لا إشكال فيه ( كل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالة فيّ النار ) , وبين الفهم الخاص لـ ( من سن فيّ الإسلام سنةً حسنة ) , أي من ابتدع فيّ الإسلام بدعةً حسنة . فقالوا إذًا قوله: ( كل بدعةٍ من ضلالة ) , من العام المخصوص , وحينئذٍ يكون معنى الحديث ( ليس كل بدعةٍ ضلالة ) فما هو معنى الحديث إذًا الذي تأولوه بالبدعة ؟ الحقيقة أننا نستطيع أن نفهم الحديث فهمًا لا يتنافى مع العموم المذكور ( كل بدعةٍ ضلالةٍ ) , من نفس المتن أولًا ثم نبتغي دعمًا لهذا الفهم من سبب وروده ثانيًا , ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال في الحديث: ( من سن فيّ الإسلام سنةً ) , وصفها في الطرف الأول من الحديث بـ ( حسنة ) , وفي الطرف الثاني الذي استغنيت عن ذكره لشهرته بقوله: ( سنةً سيئةً ) . فإذًا هذا الحديث يدلنا أن فيّ الإسلام سنةً حسنة وفي الإسلام سنةً سيئة , هنا يأتي السؤال ما هو سبيل معرفة السنة الحسنة والسنة السيئة ؟ أهو العقل والرأي المحض أم هو الشرع ؟ ما أظن أن قائلاً يقول هو العقل والرأي وإلا ألحق نفسه ولا أقول نلحقه بالمعتزلة , ألحق نفسه بالمعتزلة الذين يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين , هؤلاء المعتزلة هم الذين عرفوا منذ أن ذروا قرنهم وأشاعوا فتنتهم بقولهم أن العقل هو الحكم , فما استحسنه العقل فهو الحسن وما استقبحه العقل فهو القبيح .

أما رد أهل السنة والجماعة بحقٍ فإنما هو على النقيض من ذلك الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع إذًا حينما قال عليه الصلاة والسلام: ( من سن فيّ الإسلام سنةً حسنة ) , أي شرعا و ( من سن فيّ الإسلام سنةً سيئة ) أي شرعا , فالشرع هو الحكم في أن نعرف أن هذه السنة حسنة وهذه السنة سيئة . إذا كان الأمر كذلك حينئذٍ لم يبق مجال للقول بأن معنى الحديث ( من سن فيّ الإسلام سنةً حسنة ) بدعة حسنة , فنقول هذه بدعة لكنها حسنة , ما يدريك أنها حسنة ؟ إن جئت بالدليل الشرعي فعلى الرأس والعين والتحسين ليس منك وإنما من الشرع , كذلك إن جئت بالدليل الشرعي على سوء تلك البدعة , الشرع هو الذي حكم بأنها سيئة وليس هو الرأيُ.

فهذا الحديث إذًا من نفس كلمة حسنة وسيئة نأخذ أنه لا يجوز تفسير الحديث بالبدعة الحسنة والبدعة السيئة التي مرجعها الرأي والعقل , ثم يندعم هذا الفهم الصحيح لهذا المتن الصحيح بالعودة إلى سبب ورود الحديث وهنا الشاهد .الحديث جاء فيّ صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وغيرهما من دواوين السنة , من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه أعرابٌ مجتابي النمار متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر , فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تمعر وجهه) أي تغيرت ملامح وجهه -عليه الصلاة والسلام- حزنًا وأسفًا على فقرهم الذي دل عليه ظاهر أمرهم , فخطب في الصحابة وذكر قوله تعالى: (( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ )) ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( تصدق رجلٌ بدرهمه بديناره بصاع بره بصاع شعيره ) تصدق هو فعل ماضٍ لكن هذا من بلاغة اللغة العربية أي لــيتصدق فأقام الفعل الماضي مقام فعل الأمر للإشارة إلى أنه ينبغي أن يقع ويصبح ماضيًا ( ليتصدق أحدكم بدرهمه بديناره بصاع بره بصاع شعيره ) وبعد أن انتهى عليه الصلاة والسلام من خطبته قام رجلٌ ليعود وقد حمل بطرف ثوبه ما تيسر له من الصدقة من طعام أو دراهم أو دنانير وضعها بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم فلما رأى أصحابه الآخرون ماذا فعل صاحبهم قام كل منهم ليعودُوا أيضًا بما تيسر له من الصدقة قال جرير: فاجتمع أمام النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة كأمثال الجبال .قال: فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تنور وجهه كأنه مذهبةٌ , قالوا في تفسير هذا التشبيه كأنه مذهبةٌ أي كالفضة المطلية بالذهب , فيّ أول الأمر لمّا رآهم عليه الصلاة والسلام قال: " تمعر وجهه أسفًا وحزنًا " لكن لمّا استجاب أصحابه لموعظته _باسم الله_ فلما استجابوا له عليه الصلاة والسلام تنور وجهه كأنه مذهبةٌ وقال: ( من سن فيّ الإسلام سنةً حسنةً حسنة إلى آخر الحديث ) الآن نقول: لا يصح بوجه من الوجوه أن يفسر الحديث بالتفسير الأول ( من ابتدع فيّ الإسلام بدعةً حسنة ) , لأننا سنقول: أين البدعة التي وقعت في هذه الحادثة وقال عليه الصلاة والسلام في مناسبتها: ( من ابتدع فيّ الإسلام بدعةً حسنة ) ؟ لا نرى هناك شيئًا من هذا القبيل إطلاقًا , بل نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم آمرًا لهم بالصدقة مذكرًا لهم بآية في القرآن الكريم كانت نزلت عليه مسبقًا وهي (( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ )) , وأكد ذلك ببعض حديثه ( تصدق رجلٌ بدرهمه بديناره بصاع بره بصاع شعيره ) , إذًا ليس هناك إلا الصدقة والصدقة عبادة تارةً تكون فريضةً وتارةً تكون نافلةً . فإذًا لا يجوز أن نقول معنى حديث ( من ابتدع ) , لأنه لم يقع هنا بدعة , ولكن لو رجعنا إلى لفظة سنّ في اللغة العربية للمسنا منها شيئًا جديدًا في هذه الحادثة لكن ليست هي البدعة , الشيء الجديد هو قيام هذا الرجل أول كل شيء وانطلاقه إلى داره ليعود بما تيسر له من صدقة , فأصحابه الآخرون فعلوا مثل فعله فسن لهم سنةً حسنة , لكن هو ما سن بدعة سن لهم صدقة فالصدقة كانت مأمور بها من قبل كما ذكر آنفًا . قد أكون أطلت قليلاً أو كثيرًا ولكن أرى أن هذا البيان لا بد منه لكل طالب علمٍ ليفهم النصوص الشرعية فهمًا صحيحًا حتى لا يضرب بعضها ببعض , فقوله عليه الصلاة والسلام الذي أخذ بظاهره بعض العلماء فأباحوا أخذ الأجر على القرآن مطلقًا لا يصح فهمه على هذا الإطلاق بل ينبغي أن نربطه بالسبب وهو الرقية , فلا يكون حينذاك أخذ الأجر المنصوص في الحديث لمجرد تلاوة القرآن أو تعليمه , بل للرقية بالقرآن الكريم . ويؤكد هذا أخيرًا ولعلي أكتفي بهذا الذي سأذكره أن رجلاً علم صاحبًا له فيّ عهد النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فأهدى إليه قوسًا , ولكنهم عودًا إلى حديث أبي سعيد لماذا توقف أبو سعيد من الاستفادة من الأجر الذي أخذه من أمير القبيلة ؟ وهذا الرجل الثاني لمّا أهديت له القوس توقف حتى سأل الرسول عليه السلام لماذا توقف هذا وذاك ؟ لأنهم كانوا فقهاء حقًا وكانوا يفهمون مثل الآية السابقة (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )) فأبو سيعد قرأ القرآن ولو أنها مقرونة بالرقية , وهذا الآخر علم صاحبه القرآن فخشيا أن يكون ذلك منافيًا للإخلاص فيّ عبادة الله عز وجل فكان من ذلك أن أبا سعيد تورع عن الانتفاع بالأجر الذي أخذه مقابل الرقية حتى قال له عليه السلام ما سمعتم . أما هذا الرجل الثاني الذي علم صاحبه القرآن لمّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له بأنه علمه فأهدى إليه قوسًا قال: ( إن أخذتها طوقت بها نارًا يوم القيامة ) , فإذًا تعليم القرآن إذًا بهذا الحديث والحديث الآخر ( يتعجلونه ولا يتأجلونه ) , لا يجوز إطلاقًا . إلى هنا أكتفي بما سبق من بيان أن القرآن تعليمًا وقراءةً لا يجوز أخذ الأجر عليه ككل العبادات ولكن هنا ملاحظة لا بد من ذكرها ولو بإيجاز . الأجر كما تعلمون حقٌ مقابل عمل يقوم به إنسان هذا النوع من الأخذ المسمى لغةً وشرعًا أجرًا هو الذي يحرم شرعًا

مواضيع متعلقة