تتمَّة شرح الحديث السابق : ( سلَّط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) ، وبيان حقيقة الخلاف بين أهل العلم . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
تتمَّة شرح الحديث السابق : ( سلَّط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) ، وبيان حقيقة الخلاف بين أهل العلم .
A-
A=
A+
الشيخ : فيدلنا الرسول - عليه الصلاة والسلام - في هذا الحديث في آخره على العلاج وعلى الدواء الذين نحن إذا تعاطَيناه رفع الله عنَّا الذُّلَّ ؛ فما هو ؟ ( سلَّط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) ، وهنا نقطة خطيرة جدًّا عندي ؛ ( حتى ترجعوا إلى دينكم ) بأيِّ مفهوم ؟ أَبمفهوم فلان أم فلان أم فلان أم فلان ؟ بمفهوم الحزب الفلاني والجماعة الفلانية و و إلى آخر ما هنالك من طوائف وأحزاب ؟ طبعًا الإسلام الذي أنزَلَه الله على قلب محمد - عليه الصلاة والسلام - إنما يُريد من الناس أن يفهموه على الوجه الذي أرادَه ، والله - عز وجل - قد قرَّرَ حقيقة تبنَّاها جماهير أهل العلم بقوله - تبارك وتعالى - : (( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ )) ؛ لذلك يقول أهل العلم : " إن الحقَّ لا يتعدَّد ، والصواب واحد " ، فإذا كان هناك قولان متباينان مختلفان اختلاف تضادٍّ وليس اختلاف تنوُّع ، وهذه نقطة علمية يجب أن نعرفها أيضًا ؛ الاختلاف بين العلماء تارةً يكون اختلاف تضادٍّ ، وهنا يرد قوله - تعالى - السابق : (( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ )) ، وقول العلماء : " الحقُّ واحد لا يتعدَّد " ، وتارةً يكون الاختلاف اختلاف تنوُّع وليس اختلاف تضادٍّ ، أما النوع الأول اختلاف تضادٍّ ؛ فهو - مع الأسف - أكثر الخلاف القائم اليوم بين المسلمين هو اختلاف تضاد ؛ سواء في المسائل الفكرية أو الاعتقادية أو المسائل العملية ، الأحكام الفرعية التي يسمُّونها .

وبهذه المناسبة أقول : إن كثيرًا من الناس يزعمون أن الخلاف بين العلماء إنما هو في الفروع دون الأصول ، وهذه دعوى يُخالفها ما في بطون علم الكلام إن كان عند الأشاعرة أو عند الماتريدية أو عند أهل الحديث ؛ فقد اختلفوا في الأصول ، بل في أصل الأصول ؛ ألا وهو الإيمان بالله - عز وجل - الذي هو أوَّل ركن من أركان الإيمان ، ولست الآن في صدد تفصيل هذا إلا إن جاء سؤال بعد أن أفرغ من التعليق على هذا الحديث جوابًا على السؤال السابق .

فالشاهد أن أكثر الاختلاف هو من النوع الأول اختلاف تضاد ، وهنا الحق واحد ، أما اختلاف التنوُّع فله أمثلة معروفة عند أهل العلم ؛ من ذلك - مثلًا - : دعاء الاستفتاح عند الأحناف : ( سبحانك اللهم ) ، عند الشوافعة : ( وجَّهت وجهيَ ) ، عند أهل الحديث : ( اللهم ) ، اللهم إيش ؟

الحاضرون : ( باعِدْ بيني وبين خطاياي ) .

الشيخ : ( باعِدْ بيني وبين خطاياي كما باعدْتَ بين المشرق والمغرب ) إلى آخر الحديث ، وهذا أهل الحديث هم الذين يتبنَّوْنه ، فهذا اختلاف تنوُّع وليس اختلاف تضادٍّ ؛ ولذلك فلا يجوز أن يتعصَّب الحنفي لدعاء استفتاحه ، أو الشافعي لدعائه ، أو الحديثي لدعائه ، وإنما بأيِّ دعاء دعا في دعاء الاستفتاح جاز ؛ لأنه ثَبَتَ عن الرسول - عليه السلام - أنه كان تارةً يستفتح بهذا ، وتارةً يستفتح بهذا ، وتارةً يستفتح بهذا ؛ فكله شرْعٌ سائغ . كذلك أنواع الأذكار في الركوع وفي السجود ، وأنواع التشهُّدات عند الحنفي والشافعي والمالكي ، كل هذ جائز ، وهذا النوع أمره سهل .

لكن النوع الخطير هو ما كان من النوع الأول ؛ أي : اختلاف تضاد ، فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول لنا بما مؤدَّاه : إذا شئتم أن يرفع الله عنكم الذُّلَّ فارجعوا إلى الدين ، الدين كلنا نعلم أنه كتاب وسنة ، ولكننا نعلم - أيضًا - أن الناس اختلفوا في فهمه ، فإلى أيِّ فهمٍ يجب أن نرجع حتى نستحقَّ به عزَّ الله لنا ونصره إيَّانا على أعدائنا ؟ الجواب عندنا هو ما يُستفاد من قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ) ، ( تفرَّقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وتفرَّقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلُّها في النار إلا واحدة ) . قالوا : مَن هي يا رسول الله ؟ قال : ( هي ما أنا عليه وأصحابي ) ؛ لذلك إذا أرَدْنا أن نفهم الدين بالمفهوم الذي لا خلاف فيه ؛ فعلينا أن نرجِعَ إلى ما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - .

ونحن إذا رجعنا سنجدهم قد اجتمعوا على كثير من المسائل التي اختلف الناس فيها مِن بعدهم ، وسنجد أنهم اختلفوا في مسائل قليلة ، وحين ذاك لا بد أن نحكِّم قول الله - عز وجل - : (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )) ؛ لذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : ( تركتُكُم على شيئين ؛ لن تضلُّوا ما إن تمسَّكتم بهما ؛ كتاب الله وسنَّتي ، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض ) .

إذًا حينما قال الرسول - عليه السلام - : ( حتى ترجعوا إلى دينكم ) فيعني الدين الذي كان عليه أصحاب الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، ولا يعني أبدًا هذه الاختلافات سواء في المذاهب أو في الطرق التي حدثَتْ من بعد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فالدين هو ما كان عليه أصحاب الرسول - عليه السلام - وليس ما حدث بعد الرسول - عليه السلام - من اختلافات من أيِّ نوع كان ؛ سواء كان في الأصول أو في الفروع ، فإذا نحن رجعنا إلى الدين بهذا المفهوم الصحيح لا شك أننا استحقَقْنا حين ذاك وعد الله الحق : (( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )) .

إذًا (( لَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )) معناه لا تنصرفوا بتكالُبِكم على الدنيا عن الجهاد في سبيل الله - عز وجل - ، ولكن الجهاد اليوم لا بد من اتخاذ مقدِّمات أساسية بين يدي الجهاد ، أهمُّ ما عندنا ما نستلخصه من هذا الحديث ؛ الفهم الصحيح للدين ، والتربية الصحيحة لأفراد المسلمين ؛ فلا بد من التصفية ومن التربية ، وهذا جواب ما سألت .

السائل : ... .

الشيخ : نعم ؟

السائل : ... قضية التربية .

الشيخ : التربية هو كلَّما تعلمنا شيئًا كما كان أصحاب الرسول .

السائل : ... .

الشيخ : كلما تعلمنا شيئًا كما كان أصحاب الرسول - عليه السلام - طبَّقناه في أنفسنا ، في أهلنا ، في ذرِّيَّاتنا .

نعم .

مواضيع متعلقة