لو سأل سائل : حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من توضأ ؛ فبها ونعمت ) ، هل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمدح من يترك واجبًا فيقول له : ( فبها ونعمت ) ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
لو سأل سائل : حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من توضأ ؛ فبها ونعمت ) ، هل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمدح من يترك واجبًا فيقول له : ( فبها ونعمت ) ؟
A-
A=
A+
السائل : لو سأل سائل حول حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من توضأ ؛ فبها ونعمت ) ؛ هل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمدح من يترك واجبًا فيقول له : ( فبها ونعمت ) ؟

الشيخ : هو لا يقتصر لو قال : ( من توضأ يوم الجمعة ؛ فبها ونعمت ) وبس يرد السؤال ، أما وقد أتم ذلك بقوله : ( ومن اغتسل ؛ فالغسل أفضل ) ؛ فحينئذٍ لا يرد السؤال ، على أنه ينبغي لك أن لا تأخذ الجواب بما يفتح الطريق لإشكالك وسؤالك ، أن جوابي لم يكن مقتصرًا فقط على أن الحديث هذا يدلُّ على الفضيلة فقط ، فبيَّنت أنه من الممكن أن يكون هذا في الدور الأول كما جاء حديث : ( لو أنكم اغتسلم يوم الجمعة ) ، فلو أنكم اغتسلتم يوم الجمعة يساوي في الدلالة على فضيلة غسل الجمعة كظاهر هذا الحديث : ( ومن اغتسل ؛ فالغسل أفضل ) ، لكن الأمر هل وقف أمر الرسول - عليه السلام - على الحضِّ فقط الذي ينافي الاستحباب وينافي الوجوب في غسل الجمعة أم أكد ذلك فيما بعد في أحاديث عديدة من القسم الأول ؟

الجواب : نعم ، ولذلك فنهاية المطاف أن الأحاديث التي تؤكد وجب غسل الجمعة من الناحية الفقهية هي أرجح ، كما هي كذلك من الناحية الحديثية ، ذكرنا آنفًا .

وسؤالك هذا يذكِّرني بضرورة تنبيهكم إلى أصل من أصول علم الفقه الذي يساعد طالب العلم على فهم الأحكام الشرعية وبخاصَّة حينما تتعارض لديه الأحاديث النبوية ، من هذه القواعد الأصولية أنه يُؤخذ دائمًا وأبدًا بالزائد ، فالزائد من الأحكام الشرعية ، مثلًا إذا جاء دليل يدل على جواز أمرٍ ما ، ثم جاء دليل يدل على فضيلة واستحباب هذا الأمر ، فلا نبقى على ما دل عليه الدليل الأول من الجواز فقط ، بل نضمُّ إليه ما دل عليه الدليل الآخر من الاستحباب ، ذلك لأن الإستحباب لا ينافي الجواز ، كذلك مما يدخل في القاعدة السابقة أنه يؤخذ بالزائد فالزائد ، إذا جاء حديث يبيح شيئًا ، وجاء حديث آخر يُحرِّمه ، وليس عندنا علم بتاريخ تقدُّم أحد النَّصَّين على الآخر ؛ فبأي المفهومين يؤخذ ؟ أبما دل عليه الحديث المُبيح ، أو بما دل عليه الحديث المُحرِّم ؟

الجواب : " إذا تعارض حاظر ومبيح قُدم الحاظر على المبيح " ، مفهوم هذا الكلام ؟ والسبب الذي جعل العلماء يتبنون هذه القاعدة هو أنه من المعلوم ضرورة شرعية أن الله - عز وجل - حينما بعث محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - بالنبوة والرسالة ما أنزل عليه الأحكام الشرعية كلها فقرة واحدة ، وإنما جاءت هذه الأحكام على التدرج ، وهذا أمر مقطوع به لدى الجميع ، إنما كانت دعوة الرسول عليه السلام واهتمامه الأول هو بتبليغ دعوة التوحيد إلى الناس ، أما الأحكام الشرعية فجاءت بالتدرج .

هنا الآن يرد سؤال ، أعتقد جوابه معلوم ، هذه الأشياء التي جاء تحريمها فيما بعد ، ما كان حكمها في أول الإسلام ؟ لا شك أن الجواب كان على الإباحة ، لأنه كما جاء في الحديث أذكره لما فيه من صلة بهذا البحث أولًا ، وللتنبيه على ضعف إسناده ثانيًا ؛ ألا وهو : الحديث المعروف في الأربعين النووية : ( إن الله فرض فرائض فلا تضيِّعوها ، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء رحمةً بكم ؛ فلا تسألوا عنها ) ، فما كان من الأحكام مسكوتًا عنها في أول الإسلام ، فهي مسكوت عنها ، والسكوت عن الشيء يعني جوازه ، فقبل تحريم الخمر مثلا ما كان حكم الخمر ؟ طبعًا لم يكن هناك نصٌّ اشربوا الخمر ، وهنيئًا لكم بالخمر ، وإنما كان مسكوتًا عنه ، ويوم دخل بعض الصحابة في الصلاة وهو سكران ، ترى هل شرب الخمر قبل الصلاة وهو قد بُلِّغ من الرسول - عليه السلام - بأنها محرمة ؟ طبعًا لا ، إذًا ما كان حكم الخمر في هذه الحالة التي شربها هذا الصحابي وغيره كما في أحاديث كثيرة ، كانت على الأصل المسكوت عنه ، وهو الإباحة ، ثم جاء التحريم على التدرج المعروف ، ولا نطيل عليكم ، هكذا - مثلًا - لما حرم الذهب ، قبل تحريم الذهب ؛ ما كان حكم الذهب ؟ قبل تحريم الحرير ما كان حكمه ؟ كل ذلك كان مسكوتًا عنه ، فكانت على الإباحة ، فلما جاءت النصوص المحرمة لهذه الأشياء تبنَّاها العلماء ، ومن هنا قالوا : " إذا تعارض نصَّان أحدهما مُبيح ، والآخر حاظر محرم ؛ قدم الحاظر على المبيح " .

كل هذا وذاك يدخل في قاعدة يُدندن حولها كثيرًا ابن حزم - رحمه الله - في كتابه " الإحكام في أصول الأحكام " ، وخاصة في مناقشته للمخالفين في كتابه الآخر " المحلى " ، فهو يقول : " يجب أن يُؤخذ بالزائد فالزائد من الأحكام " ، إذا كان الأصل في الأشياء الإباحة - وهي قاعدة - أيضًا - أصولية - الأصل في الأشياء الإباحة ، فنحن نقول - مثلًا - : هل يجوز استعمال هذا اللاقط للصوت ؟ نقول : يجوز ، قد يتنطَّع بعضهم يقول : ما هو الدليل وهذا أمر حادث ؟ نقول : الأصل في الأشياء الإباحة ، فإذا جاء نهي وقفنا عنده ولم نتجاوزه ، هكذا يؤخذ بالزائد فالزائد من الأحكام .

إذا عرفنا هذه القاعدة ولها شعب كثيرة وكثيرة جدًّا نعود لتطبيقها في المسألة السابقة الذكر ، جاء حديث عائشة كما ذكرنا : ( لو أنكم اغتسلتم يوم الجمعة ) ، هذا فيه حض ، ترى قبل الحض ماذا كان غسل الجمعة ؟ كان كأيِّ غسل يغتسله الإنسان من باب الترويح عن النفس ، أو إزالة الرائحة الكريهة على الإباحة الأصلية ، فلما جاء الحديث : ( لو أنكم ) جاء بحكم جديد وهو الحض على الاغتسال بخصوص هذا اليوم يوم الجمعة ، كذلك حديث : ( ومن اغتسل ؛ فالغسل أفضل ) يفيد تشريعًا جديدًا ، وهو أن هذا الغسل أفضل من الاقتصار على الوضوء الذي لا بد منه يوم الجمعة ؛ لأن الصلاة لا تصح إلا به ، لما جاءت الأحاديث من القسم الأول : (فليغتسل ، حق واجب ) ، لا شك أن هذا النوع أفاد أمرًا زائدًا على ما أفاده حديث عائشة ، وما أفاده الحديث الآخر ، وهو من حديث سمرة بن جندب - رحمه الله - ، هذه القاعدة يجب أن تحفظ أولًا ، ثم تُطبَّق في التوفيق بين الأحاديث التي يبدو بينها التعارض ثانيًا .

نعم .

السائل : ... .

الشيخ : ما الذي في هذا ؟ هذا رأي ، هذا الرأي ينسخ ما دلَّت عليه الأحاديث القائلة بالوجوب صراحة ، ( غسل الجمعة واجب ) ، هذا لا ينبغي معارضة الحديث المرفوع كما يقال : " إذا جاء الأثر بطل النظر " ، " وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل " . إيش عندك ؟

سائل آخر : بالنسبة للقاعدة الفقهية ... .

الشيخ : ... كما شرحنا آنفًا ، وأرجو الانتباه لما يقال ، حتى ما تأتي الأسئلة وقد أجيب عنها ، نحن قلنا : إذا كان الشيء مستحبًّا ، وقيل بأنه سنة مؤكدة - مثلًا - ؛ فهل ينافي القول بالسنية الاستحباب ؟ قلنا : لا ، لم ؟ لأنه ما كان سنة مؤكدة فهو أفضل مما كان مستحبًّا صح ؟ طيب ، فهنا ثلاث مرات الآن في مسألتنا هذه :

- أن يقال باستحباب غسل الجمعة .

- أن يقال بسنية غسل الجمعة .

- أن يقال بوجوب غسل الجمعة .

هذا فاضل وهذا أفضل ، هذا الفاضل والأفضل كلاهما يدخل في الوجوب ؛ لأن ما كان واجبًا ؛ فهو أفضل مما كان سنة مؤكدة ، ومن باب أولى فهو أفضل مما كان مستحبًّا ، هذا هو طريق الجمع - أيضًا - ، نحن نقول : أنه يؤخذ دائمًا كما قلت أنت تمامًا : إذا لم يمكن التوفيق فإذا أمكن التوفيق ؛ فلا بأس حينئذ بالرجوع إلى القاعدة التي ذكرناها ، والحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - له رسالة نافعة جدًّا في علم المصطلح مصطلح الحديث ، وهي المعروفة بـ " شرح النخبة " ، هناك يقول : " إذا جاء حديثان من قسم المقبول " - وهو يعني بالمقبول ما كان حسنًا فصاعدًا - " متعارضان " ، إذا جاء حديثان مقبولان متعارضان ؛ فما العمل ؟ قال : " وُفِّق بين الحديثين المتعارضين بوجهٍ من وجوه التوفيق " ، هو يريد بهذا الجواب المختصر جدًّا ؛ لأن رسالته قائمة على الاختصار ، لكننا إذا رجعنا إلى المبسوطات من كتب المصطلح لَوجدناهم يقولون : أن طرق التوفيق بين الأحاديث المتعارضة بلغت أكثر من مائة وجه ، أكثر من مائة وجه ! فإذا لم يستطع الفقيه التوفيق بين الحديثين المتعارضين بوجه من هذه الوجوه الكثيرة ، التي أشار إليها إشارة عابرة الحافظ ابن حجر في كلامه السابق قال : " إذا لم يمكن التوفيق اعتُبر الناسخ من المنسوخ " أي : حول معرفة المتقدم من المتأخر ، يقال : المتقدم منسوخ ، والمتأخر هو الناسخ ، فإذا لم يتبيَّن للباحث الناسخ من المنسوخ قال : " صِير إلى الترجيح " ، الترجيح من حيث الثبوت ، بمعنى أن الحديثين المتعارضين إذا كان أحدهما حسنًا ، والآخر صحيحًا ، ولم يمكن التوفيق بينهما ، ولا اعتبار الناسخ من المنسوخ من بينهما ؛ حينئذٍ رُجّح الصحيح على الحسن ، وإذا كان الحديثان أحدهما صحيحًا فردًا غريبًا ، والآخر صحيحًا مستفيضًا أو مشهورًا ، ولم يمكن التوفيق رُجِّح هذا على الحديث الصحيح الغريب ، وهكذا ، إذا تعارض حديث مشهور أو مستفيض مع حديث متواتر ولم يمكن التوفيق بينهما أُخذ بالحديث المتواتر ، وتُرك الحديث الصحيح المستفيض أو المشهور .

المهم أن الأصل هو التوفيق ، ولكن إذا لم يتمكن الإنسان من التوفيق صِير إلى المرتبة الثانية ، وهي اعتبار الناسخ من المنسوخ ، وإلا صير إلى الدرجة الثالثة ، وهي الأخذ بالأصح من الدليلين ثبوتًا ، ثم يقول الحافظ في نهاية كلامه : " فإذا استويا في الصحة ولم يمكن المراجحة بينهما حينئذٍ تُرك الأمر وقيل : (( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )) " .

ولا يُقال كما يقول الحنفية - مع الأسف الشديد في بعض الأحاديث التي تبدو لهم أنها متعارضة ، وأنهم لم يتمكَّنوا من توفيق هذه القاعدة - يقولون - مع الأسف - : تعارضا فتساقطا ، أي : أعرضوا عن العمل بأيِّ حديث من الحديثين المتعارضين .

لا بد من التدرج في العمل بأحد الحديثين على هذه القاعدة الحديثية الفقهية .

مواضيع متعلقة