جاء في " صحيح البخاري " أن عبد الله بن عمر كان يأخذ من لحيته ما دون القبضة ، وصحَّ عنه أنه هو راوي حديث الإعفاء ، ومعلوم في اللغة أن الإعفاء هو الترك ، فكيف التوفيق بين الأقوال والأفعال ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
جاء في " صحيح البخاري " أن عبد الله بن عمر كان يأخذ من لحيته ما دون القبضة ، وصحَّ عنه أنه هو راوي حديث الإعفاء ، ومعلوم في اللغة أن الإعفاء هو الترك ، فكيف التوفيق بين الأقوال والأفعال ؟
A-
A=
A+
السائل : جاء في " صحيح البخاري " أن عبد الله بن عمر كان يأخذ من لحيته ما دون القبضة ، وصحَّ عنه أنه هو راوي لحديث الإعفاء ، ومعلوم في اللغة أنُّو الإعفاء هو الترك ؛ عايزين نوفِّق بين هذه الأفعال والأقوال ؟

الشيخ : لا تعارض بين هذا وهذا ، لأن الإعفاء هو كما ذكرت ، لكن هذا الإعفاء ليس أمرًا غيبيًّا حتى نُطلقه ، وإنما هو أمر مشاهد من الرسول - عليه السلام - ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؛ أي : إن ابن عمر الذي روى الحديث عن الرسول - عليه السلام - ( وأعفوا اللحى ) لا شك أنه عاش مع الرسول - عليه السلام - سنين طويلة ، فرآه إما أنه كان يأخذ أو كان لا يأخذ ، فماذا يتصوَّر المسلم العارف بترجمة حياة عبد الله بن عمر وحرصه على التمسك بالسنة إلى درجة أنه كان يتمسَّك بالسنة العادية ، وقد شرحنا لكم في بعض الأحيان الفرق بين السنة التعبدية والسنة العادية ، فهو - رضي الله عنه - كان يأتي بأعمال تستلفت الأنظار ، بل توجب الإنكار ؛ كمثل أن رُؤي يومًا يطوف بناقته حول مكان ما ؛ فسُئل عن السبب ؟ قال : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك " ، رُؤي يتقصَّد البول عند شجرة ، فسئل عن ذلك ؟ قال : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك " ، وهذه أمور لا يظهر فيها مطلقًا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقصد فيها التقرُّب إلى الله ، وإنما هكذا اقتضت الظروف ، لكن حبُّ عبد الله بن عمر للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والاقتداء به حملَه على أن يقتديَ به تمام الاقتداء ؛ حتى في العاديَّات .

ولعله هو - أو غيره من الصحابة - رُؤي وقد فكَّ أزرار قميصه ؛ سئل عن ذلك ؟ قال : " رأيت رسول الله فعل ذلك " ، رسول الله فعل ذلك مشوِّب وجد حرارة بدُّو يروِّح عن نفسه شويَّة ، لكن هذا لا يعني أنُّو هي عبادة ، وإنما هذه حاجة ! فإذا وُجدت الحاجة فكَّ الأزرار ، وُجدت حاجة إلى ربطِها رَبَطَها ، وهكذا ، فمن كان بهذه المثابة من الحرص على اتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى في الأمور العادية ؛ فهل نتصوَّر فيه أنه يُخالف أمر النبيِّ المطلق في قوله : ( وأعفوا اللحى ) وهو يرى الرسول - عليه السلام - صباحَ مساء ليل نهار لا يأخذ من لحيته ما دون القبضة - ما زاد - ؟

هذا المقصود ، هذا أبعد ما يكون عن مثل هذا الرجل الذي تفرَّد بالحرص على اتباع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حرصًا لا يُشاركه فيه حتى ولا أبوه عمر بن الخطاب ، بل لقد خالفه أبوه ، ونرى أن مخالفته إيَّاه هو الصواب ، فقد كان عمر - رضي الله عنه - في بعض أسفاره وجد ناسًا وقد نزل منزلًا يسلكون طريقًا يمينًا أو يسارًا ، شيء استرعى انتباهه ، ولفت نظره ، فسأل أين يذهب هؤلاء ؟ قيل له : هناك مصلَّى صلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عنده ، قال - رضي الله عنه - - وهذا من دقَّة علم عمر - قال : " يا أيها الناس ، من أدركته الصلاة في موطن من هذه المواطن ؛ فليصلِّ ، فإنما أهلك الذين من قبلكم تتبُّعُهم آثار أنبيائهم " ، " إنما أهلك الذين من قبلكم تتبُّعُهم آثار أنبيائهم " ، يُنكر على هؤلاء الناس الذين يقصدون ويسلكون طريقًا ليس هو طريقهم إلى مكة ، وإنما هو طريق فرعي يؤدِّي إلى مصلَّى ثبت عندهم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى هناك ، صلى هناك لأنه نزل منزلًا هناك ، وحضرت صلاة فصلى ، وهو لم يقصد الصلاة هناك ؛ فلماذا أنتم تقصدون ؟ هذا غلوٌّ في الدين ، فقال - رضي الله عنه - : " لا تفعلوا ذلك ، من أدركته الصلاة في موطنٍ من هذه المواطن ؛ فليصلِّ ، وإلا فلينصرف ، فإنما أهلك الذين من قبلكم تتبُّعُهم آثار أنبيائهم " .

هذا عمر أما ابنه فكان يتتبَّع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - حذو القذَّة بالقذَّة ، صحابي جليل كهذا يسمع بأذنه قول - عليه السلام - : ( وأعفوا اللحى ) ، ثم يرى الرسول - كما قلنا آنفًا - نهارًا وليلًا لا يأخذ ؟ أنا أجزم بأنه يستحيل على مثله أن يُخالف نبيَّه ؛ لأنه يخالفه في أمره ، هو وافقه فيما لا أمرَ فيه ، فيما هو من عادته وليس من عبادته ؛ فكيف يُخالفه فيما هو عبادة ؟ هذا أبعد ما يكون عن الصواب ، لذلك قد شاركَ ابنَ عمر كثيرٌ من الصحابة والتابعين في هذا الذي فعله ، وقد روى الإمام ابن جرير الطبري في " تفسيره " آثارًا كثيرة توافق ما ذُكر آنفًا من أَخْذِ عمر من لحيته ما دون قبضته ، ابن عمر ، ذهني كان منصرفًا إلى استحضار أثر من الآثار العزيزة التي لم تظهر بعد في عالم المطبوعات ، روى الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه " شعب الإيمان " عن إبراهيم بن يزيد النخعي - وهو تابعيٌّ وفقيه جليل - : " أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كانوا يأخذون من لحيتهم " .

فنحن إذا نظرنا إلى هذه المجموعة من الآثار رجعنا إلى قاعدة طالما كرَّرتها على مسامع بعض الطَّلبة - وهي مهمة جدًّا - : كلُّ نصٍّ عام تضمَّن أجزاء كثيرة ، جزء من هذا النَّصِّ العام لم يجرِ العمل عليه ؛ فلا ينبغي نحن أن نستدلَّ بهذا النَّصِّ العام على هذا الجزء الخاصِّ ؛ ما دام أن العمل لم يجرِ عليه ، وبخاصة إذا ثبت أن العمل جرى على نقيضه ، فالآن هنا ( أعفوا اللحى ) نصٌّ عام مهما طالت ، ولو بارك الله فيها حتى جرَّها أرضًا ، هذا معنى إيش ؟ النَّص العام ( وأعفوا اللحى ) ، هل جرى العمل على هذا ؟ نحن نعرف أن كثيرًا من العلماء قديمًا وحديثًا يقولون : يجب الأخذ بعموم النَّصِّ ، ولا يجوز الأخذ من اللحية إطلاقًا ؛ عملًا بالعموم ، فنحن نسأل بناءً على هذه القاعدة التي اطمأنَّت لها نفسي ، وانشرح لها صدري ؛ هل جرى العمل على هذا العامِّ المطلق على الذين يقولون بأنه لا يجوز مخالفة هذا النَّصِّ أن يُثبتوا أنه جرى العمل عليه ، وفي اعتقادي " دون ذلك خرط القتاد " ، بل جرى العمل على ذلك بخلافه ، وقد سمعتم الآن بعض الآثار ، أول ذلك ما رواه البخاري معلقًا ، ثاني ذلك ما رواه ابن جرير الطبري موصولًا عن جمعٍ منهم بالإضافة إلى ابن عمر أبو هريرة ، ومنهم مجاهد من التابعين الكبار والمفسرين المشهورين منهم ، ومنهم إبراهيم بن يزيد النخعي حيث نقل عن الصحابة أنهم كانوا يأخذون من لحيتهم ، هذه الآثار لا يجوز إهمالها بمجرَّد أننا نحن نفهم من عموم النَّصِّ عمومه ، فإن هذا الجزء منه مما لم يجرِ العمل عليه .

وبهذا القدر كفاية ، والحمد لله رب العالمين .

فانصرفوا راشدين .
  • فتاوى جدة - شريط : 12
  • توقيت الفهرسة : 01:10:13
  • نسخة مدققة إملائيًّا

مواضيع متعلقة