هل يشرع الجهر بعد الصلاة بالأذكار في المسجد ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
هل يشرع الجهر بعد الصلاة بالأذكار في المسجد ؟
A-
A=
A+
السائل : السؤال الثاني : قال ابن عباس في " البخاري " قال ابن عباس - رضي الله عنه - في " البخاري " : ( كان الجهر بالذكر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دبر الصلوات المكتوبات - أو المكتوبة - ) ؛ السؤال : هل يمكن أن يُؤخذ من هذا الحديث مشروعية الجهر بالذكر دبر الصلوات المكتوبة ؟ وهل هذا الجهر يمكن أن يُقال عنه أنه سنَّة ؟

الشيخ : إذا نظرنا إلى مجموع ما جاء في الأوراد المتعلقة بالأذكار الواردة بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من جهة وفي الأحاديث ؛ فأقول : إذا نظرنا إلى مجموع الأحاديث التي جاءت في الحضِّ على الذكر بأشكاله وأنواعه دبر الصلوات من جهة ، ونظرنا إلى الأحاديث الأخرى التي جاءت تنهى عن رفع الصوت بالذكر منعًا للتشويش على الذاكرين أو المصلين فنخرج بالنتيجة التالية ؛ وهي أن ما جاء في النوع الأول من أحاديث الأذكار والأوراد بعد الصلاة مما يُفيد أن الجهر بنوع من الذكر كان في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - - كحديث ابن عباس هذا - وجب علينا التوفيق بينه وما قد يكون في معناه ، وبين الأحاديث التي تنهى عن رفع الصوت بالذكر ؛ ومن أهمها ما رواه الإمام مالك في " الموطأ " ، وأبو داود في " سننه " ، وغيرهما في غيرهما ، عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه سمع مرَّة أصواتًا في المسجد ، فأزاح الستار ، وقال : ( يا أيُّها الناس ، لا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة ) ، زاد غير المذكورين زيادةً هامَّةً مبيِّنةً سببَ النهي ؛ ألا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( فتؤذوا المؤمنين ) ، ( لا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة ؛ فتؤذوا المؤمنين ) ، فإذا كان هذا الحديث صريحًا في النهي عن الجهر ومعلَّلا بعلَّةٍ واضحةٍ معقولةِ المعنى - وهي أن لا يُشوِّش الجاهر بالذكر عقب الصلوات على المصلين أو على الذاكرين - ؛ كان حينذاك من الضروري أن يُحمل حديث ابن عباس وما قد يكون في معناه مما يدلُّ على أن جهر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - " كان يذكر بعد الصلاة جهرًا " ؛ ينبغي أن يُحمل هذا الحديث ونحوه على أنه كان من أجل التعليم ، ولم يكن ليُتخذ سنَّة مطَّردةً ؛ لأن ذلك ينافي المبدأ الذي جاء ذكره آنفًا في حديث " الموطأ " وغيره : ( لا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة ؛ فتؤذوا المؤمنين ) ، وهذا الإيذاء يلمسه الفاحص الباحث لمس اليد حينما يكون أحد المصلين مسبوقًا بركعة أو بأخرى ؛ فيقوم الناس يجهرون بالذكر دبر الصلاة ، فلا يعرف هذا المصلِّي كيف يُتمُّ صلاته ؛ لكثرة ما يحيط به من التشويش عليه بسبب رفع الصوت بالذكر ، لذلك قال - عليه السلام - ، لذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : ( لا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة ؛ فتؤذوا المؤمنين ) ، فالإيذاء هنا - كما لا يخفى على أحد - إيذاء معنوي ؛ ألا وهو التشويش على المصلين ، وعلى التالين ، وعلى الذاكرين .

فإن من الملاحظ ما ذكرتُه أولًا أن بعض الناس قد يُسبقون في بعض صلواتهم ، فإذا رفع الجالسون وراء الإمام أصواتهم ، بل لو رفع نفس الإمام صوته بالتكبير لشوَّش على هؤلاء المسبوقين ، بل ولشوَّش - أيضًا - على الذاكرين الذين يُريدون أن يأتوا ببعض الأذكار المشروعة بعد الصلاة ، مثلًا بعض الناس يقولون عقبَ سلام الإمام : ( أستغفر الله ، أستغفر الله أستغفر الله ، اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام ) ، والحديث يقول : أن الصحابة كانوا يعرفون انقضاءَ صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - برفع الصوت بالتكبير ، اللهم أنت السلام اللهم إني أعوذ بك ما شابه ذلك مما هو معلوم ، لا يشمله لفظة التكبير ، وإنما يُشير هذا الحديث إلى التهليل الذي قد يُخالطه شيء من التكبير ؛ فحينئذٍ إذا رفع الإمامُ صوتَه بنوعٍ من الذكر فالمقتدون لا مناصَ لهم من أحد شيئين ؛ إما أن يُتابعوه ويمشوا معه في ذكره الخاص ولو كان مشروعًا ، وهنا يرد موضوع الذكر الجماعي الذي يُعرف في بعض البلاد كسورية بالجوق أو الجوق - أي جماعة - ، وكانوا ربما لا يزالون حتى الآن يؤذِّنون خمسة أو أكثر من المؤذنين وفي المنارة وفي أكبر مسجد في دمشق أذانًا واحدًا بصوت واحد ، ومع ذلك فبعد أن وُجِدت مكبرات الصوت هذه فأيضًا لا يزالون يستمرُّون على هذه البدعة وهي بدعة الجوق - أي الأذان الجماعي - ، وهذا ليس بمشروع .

كذلك يجتمعون في بعض المساجد على تهليلات العشر المشروعة دبر صلاة المغرب ودبر صلاة العشاء بصوتٍ واحدٍ جهرًا لا شك أن في هذا تشويش ؛ إما على المسبوقين ، وإما على التالين ، أو الذاكرين بأذكار غير هذا الذكر الذي يرفع الإمام صوته به .

فإذًا الجمع بين هذا الحديث - حديث ابن عباس - والأحاديث التي تنهى عن التشويش على المصلين أو التالين إنما هو كما يقول الإمام الشافعي - رحمه الله - في كتابه " الأم " : " أن رفع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صوته بالتكبير كان من أجل التعليم " ؛ أي : كان تشريعًا زمنيًّا لحكمةٍ واضحةٍ وهو تعليم الناس ما ينبغي أن يقولوا بعد الصلاة ، وهذا يستلزم أن يرفع الإمام صوته من باب التعليم .

ونحن نعلم من كثير من الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يرفع صوته أحيانًا في بعض ما السنة خفضُ الصوت فيه ، وكلنا يعلم أن القراءة بعد الفاتحة في صلاة الظهر والعصر تكون سرًّا ، ولا يُشرع الجهر فيها ، ومع ذلك فقد قال أبو قتادة الأنصاري - رضي الله تعالى عنه - حينما روى حديث قراءة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في صلاة الظهر وفي صلاة العصر سرًّا قال - رضي الله عنه - : ( وكان يُسمعنا السورة أحيانًا ) ؛ لماذا ؟ ليُعْلِمَهم بما يقرأ في الصلاة السرية ، فهنا فائدة التعليم تغلَّبت - وهي فائدة عارضة - على سنِّيَّة الإسرار بالقراءة في الصلاتين - صلاة الظهر وصلاة العصر - .

وقد استنَّ بهذه السنة - سنة الجهر - بما الأصل فيه السِّرُّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ؛ فقد روى الإمام مسلم يإسناد رجاله ثقات ، ولكنه منقطع ؛ عن عمر - رضي الله عنه - : " أنه كان يجهر بدعاء الاستفتاح : سبحانك اللهم بحمدك " ، لكن هذا الانقطاع قد زالَ بمجيئه من طريق أخرى غير طريق مسلم ، وهذا من الأحاديث التي تُستدرك على الإمام مسلم ؛ حيث أورَدَها بإسناد منقطع ، ولكن لا ينجو المتن من الصِّحَّة إلى الضعف ؛ لأنه قد جاء وصله في بعض الأحاديث الأخرى كما ذكرتُ ذلك في بعض كتبي ، فرَفْعُ عمر - رضي الله عنه - صوته يمكن لقائل أن يقول قد خالف السنة ، أما أنا فأقول : لا ، فقد أحيا السنة ؛ ذلك لأنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - - كما عرفتم آنفًا - كان يرفع صوته أحيانًا في قراءته في الظهر وفي العصر ، مع أن السنة السِّرُّ فيها ؛ ذلك لأنَّ القصد من الجهر في مكان السِّرِّ هو التعليم ، وهذا ما فعله عمر - رضي الله عنه - ؛ لأنه لا يخفى عليه وهو قد صلى سنين كثيرة وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخفى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقرأ دعاء الاستفتاح سرًّا ؛ كيف لا ؟ وقد أخرج الإمام البخاري ومسلم في " صحيحيهما " من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " قلنا : يا رسول الله ، أرأيتَ سكوتَك بين التكبير والقراءة ؛ ماذا تقول ؟ قال : ( أقول : اللهم بَاعِدْ بَيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ) " ، إلى آخر الدعاء المعروف من أدعية الاستفتاح ، فهذا نصٌّ صريح أن الصحابة كانوا لا يسمعون ما يقرأ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد تكبيرة الإحرام ، ولذلك وجَّهوا إليه هذا السؤال ؛ ماذا تقول بين تكبيرة الإحرام وبين القراءة - أي : جهرًا - قال : ( أقول ) فذكر الدعاء .

إذًا لا يمكن أن نتصوَّر أن عمر بن الخطاب لا يعلم أن السنة في دعاء الاستفتاح هو السِّرُّ ، ولكن جهر ليُعلِّمَ الناس أن دعاء الاستفتاح من أدعيته : " سبحانك اللهم بحمدك " إلى آخره .

ويشبه هذا - مع فارق كبير - ما يُروى - بل أقول الآن ما صحَّ - عن عثمان - رضي الله عنه - أنه في خلافته لما حجَّ بالناس صلَّى في منى الخمس صلوات تمامًا غير قصر ، هذا قد صحَّ ، ورُوِيت بعض الروايات في تعليل هذا الإتمام وهو يعلم أن السنة القصر بالنسبة للحاج في منى ؛ فما الذي حمله على الإتمام ؟ قالت روايةٌ فيها ضعف : حمله على ذلك أنه في ذلك الموسم كان عامرًا بالأعراب ، والأعراب المفروض فيهم أنَّهم لا فقه ولا علم لديهم ، فخشِيَ هو - رضي الله عنه - أن يفهموا أنه لو صلَّى قصرًا أن الصلاة هي هكذا دائمًا قصرًا لا يُفرٍّقون بين سفر وحضر .

فإذًا هذا يفسح لنا المجال أن نفهم أنه إذا كان هناك مبدأ وقاعدة أنَّه لا يجوز رفع الصوت بالذكر لما فيه من التشويش على المصلين ، ثم جاءنا حديث كحديث ابن عباس صريح في الجهر ؛ فالمخرج حينذاك ما نقلته آنفًا عن الإمام الشافعي أنه كان تعليمًا .

هذا هو الجواب .

السائل : جزاك الله خيرًا .
  • فتاوى جدة - شريط : 21
  • توقيت الفهرسة : 00:04:28
  • نسخة مدققة إملائيًّا

مواضيع متعلقة