ما حكم تكفير أصحاب المعاصي ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
ما حكم تكفير أصحاب المعاصي ؟
A-
A=
A+
السائل : وردت في تكفير بعض أصحاب المعاصي ؛ أنهم إذا فعلوا معاصي كُفِّروا ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( مَن أتى امرأة في دبرها أو أتى كاهنًا وعرَّافًا فصدَّقَه بما يقول ؛ فقد كفر بما أُنزِلَ على محمد ) ، فهذا واضح بأنُّو إذا فعل هذا الشيء كفر بما أنزل على محمد ؛ فهل هذا الحديث حجَّة في إقامة التكفير عليه ؟

الشيخ : يحب أن نعلم أن الكفر كفران : كفر اعتقادي : وهو الذي يرتد به صاحبه عن الدين . والكفر الآخر : كفر عملي ، وهو الذي يأثم به صاحبه ، ولكن إذا لم يقترِنْ مع هذا الكفرِ الكفرُ الاعتقادي لا يخرج به عن الملة .

والصحيح أن هناك أحاديث كثيرة فيها مَن فَعَلَ كذا فقد كفرَ ، ولكن العلماء وهنا يأتي المثال في البحث السابق ، العلماء لمَّا درسوا الكتاب والسنة ، ودرسوا ألفاظهما ودلالاتهما ؛ وجدوا أن لفظة الكفر - مثلًا - إذا ما أُطلِقَت لا تعني دائمًا وأبدًا ما يساوي الرِّدَّة ، بل الكفر يأتي إجمالًا على معنى الرِّدَّة تارةً ، وعلى معنى الكفر العملي تارةً أخرى ، أما الكفر بمعنى الرِّدَّة فهذا لا يحتاج إلى بيان وشرح ، أما الكفر بمعنى الكفر العملي فلماذا سُمِّي كفرًا عمليًّا ؟ أي : لأن صاحبه وإن كان معتقدًا بكل ما جاء في الكتاب والسنة فهو حينما وقعَ في تلك المخالفة التي أطلق فيها الرسول - عليه السلام - على المخالف لفظة الكفر ؛ فقد فَعَلَ فِعْلَ الكفار ، وعَمِلَ عَمَلَ الكفار ؛ لذلك اصطلح العلماء على تسمية هذا النوع من الكفر بالكفر العملي ؛ أي : إنه يعمل عملَ الكفار ، ولكن لا يُلحق بهؤلاء الكفار حتى يتحقَّق فيه ما تحقَّق في الكفار من الكفر الاعتقادي ؛ لذلك رأينا العلماء يفسِّرون مثل هذا النَّصِّ بإما هكذا وإما هكذا .

فمثلًا : ( فقد كفر بما أُنزِلَ على محمد ) إما أن يُفسَّر جَحَدَ ، وحينئذٍ فهذا كفره كفر ردَّة ، وخرجَ عن الملة ، وإما أن يُفسَّر بأنه عَمِلَ عَمَلَ مَن جحد ملَّة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وأولئك هم الكفار ، لكن العمل بعمل الكفار إذا لم يقترِنْ به عقيدة الكفار كما ذكرنا آنفًا ؛ فهو لا يلحق بالكفار ؛ يعني : ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) ، وهذا القتال يقع قديمًا وحديثًا بين المسلمين ، فلا نقول : إنَّ هذا الذي يقاتل المسلم كفر بمعنى ارتَدَّ أو ما ارتَدَّ ؛ لأنُّو هذا يتعلَّق بالقلوب ، ولكننا نفسِّر فنقول : مَن قاتل مسلمًا بغير حقٍّ إن كان مستحلًّا ذلك بقلبه فذلك هو الرِّدَّة ، وهو الكفر الاعتقادي ، وإن كان لم يستحلَّ ذلك فكفره كفر عملي ، هذا يُقال في كل الأعمال التي جاء فيها إطلاق لفظة الكفر ؛ ما دامت المخالفة وقفَتْ عند العمل ولم تتعدَّه إلى العقيدة .

مما اتَّفق عليه المسلمون أن المسلم مجرَّد أن يُنكِرَ شيئًا ثابتًا في الشريعة ويجحده فهو كافر ، ولو كان - مثلًا - يصلي ويصوم ، فهو حينما يصلي وحينما يصوم نعتبره منَّا وفينا مسلمًا ، ولكن الله - عز وجل - إذا عَلِمَ منه أنه يجحد هذه الصلاة وهذا الصيام وتلك الزكاة مثلًا ؛ فهو مرتدٌّ عند الله ، وهو في الدرك الأسفل من النار ؛ لماذا ؟ لأنه جَحَدَ بقلبه ما شرع الله ، فالكفر الاعتقادي لا يقف على العمل ، وإنما مجرَّد أن يكون الاعتقاد مخالفًا للشريعة فهو كافر ، وهذا - أيضًا - لا بد من التذكير ؛ لأنه لا بد من قيد وهو بعد إقامة الحجة ؛ لأن الله - عز وجل - يقول : (( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا )) ، فمَن أُقِيمت الحجة عليه في فساد اعتقاده ثم أصَرَّ على ذلك فهو كأولئك الكفار الذي قال الله فيهم : (( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ )) .

فكلُّ مَن أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة فهو كافر ولو كان يعمل عَمَلَ المسلمين ، لكن ليس كذلك مَن يعمل عَمَلَ المسلمين ويعتقد اعتقادهم ، ولكنه في بعض الأحيان يتَّبع هواه فيعمل عمل الكفار الذين اتَّخذوا إلههم هواهم من دون الله - تبارك وتعالى - ، فالمسلم إذا اتَّبع هواه وهو معترف بأنه مذنب ومقصِّر مع ربِّه - عز وجل - ، وأنه يرجو عفوه ومغفرته ؛ فهذا لا يُلحق بالكفار إلا عند فرقة مِن تلك الفرق الكثيرة التي أشارَ إليها الرسول - عليه الصلاة والسلام - في الحديث السابق ، وهذه الفرقة بالضبط هم الخوارج ، فهم الذين كانوا يكفِّرون المسلمين بارتكابهم للذنوب ، وبعضهم يشترطون فيها أن تكون من الكبائر ، وبعضهم قد لا يشترطون ذلك ، هذا غلوٌّ وانحراف عن سنة المسلمين الأولين في تكفير المسلمين بمجرَّد ارتكابهم بعض الذنوب ، من هذه الذنوب الذهاب إلى الكاهن ، فإذا ذهب الذاهب إلى الكاهن وهو يستحلُّ ذلك فقد كفر ؛ لا شك ولا ريب في ذلك ، وأيُّ شيء استحلَّه ولو لم يأتِ فيه لفظة كَفَرَ فهو كافر .

ومن هنا يظهر جمود بعضنا اليوم حينما يتمسَّك ببعض الأحاديث التي فيها لفظة كَفَرَ ، فيقول : إذًا هو مرتد عن دينه ؛ نقول : لا ، إلا إن جحد ، وحينئذٍ فالجحد ليس من الضروري أن يأتي إنسان فيجحد - مثلًا - شرعية صلاة الوتر ، ما فيه حديث : مَن تركَ صلاة الوتر - مثلًا - فقد كفرَ ، لكن هو يقول : ما شرع الله إلا الصلوات الخمس ، وما فيه صلاة وتر ، فهذا - أيضًا - كَفَرَ ؛ أي : كفر ردَّة ؛ لماذا ؟ لأنه جحدَ ما هو معلوم من الدين بالضرورة ، ومع أنه ليس هناك حديث بأنه مَن أنكر كذا فقد كفر ، لكن العلماء يأخذون هذه المعاني ويتوسَّعون فيها من لفظة : (( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ )) ، فكلُّ شيء يتيقَّنه المسلم أنه من الإسلام ثم يجحده فهو كافر ، ولكن إذا كان يؤمن بكلِّ ما جاء في الإسلام إلا أنه يذنب أحيانًا ، ويعصي الله - عز وجل - في بعض المعاصي ، وهو معترف بعجزه وتقصيره مع ربِّه ؛ فهذا لا يجوز تكفيره .

ويجب أن نلاحظ هنا شيئًا يا إخواننا ؛ التكفير معناه أن هذا الإنسان أنكَرَ بقلبه شيئًا ، ونحن نفترض أنه ما أنكر ، نفترض أنه ما أنكر ، بل اعترف وآمَنَ بكلِّ ما جاء من عند الله - عز وجل - ؛ فكيف نصفُّه مصافَّ الكفار الجاحدين المنكرين ؟ ثم هذا إنسان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله ، ويصوم ويصلي ، و وإلى آخره ، ولكن - مثلًا - يأتي الكهَّان ، وقد لا يعلم هذا المسكين بسبب سكوت أهل العلم أنُّو إتيان الكهان هو كفر على التفصيل السابق ؛ لا سيما واليوم وُجِدَت تكهُّنات أو وسائل الكهانة جديدة ، والناس يُبتَلون بها ، ولا أحد يذكِّرهم بأنُّو هذا النوع من أنواع الكهانة التي كانت في عهد الرسول - عليه السلام - ، وحرَّمَها أشد التحريم .

لما جاء في حديث معاوية بن الحَكَم السُّلمي سألَه قال : يا رسول الله ، إن منَّا أقوامًا يأتون الكهان ؟ قال : ( فلا تأتوهم ) ؛ هذا هو الواجب ، فإذا جاء جاءٍ وأتى آتٍ للكهان وسألهم ؛ فإما أن يكون مصدِّقًا لهم ومؤمنًا بذلك ، وعارفًا بمثل قوله - تبارك وتعالى - : (( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ )) ؛ فَمَن زَعَمَ أن هناك سبيلًا يمكن الاطِّلاع به على الغيب لا سيما إذا كان سبيل نهى عنه الرسول ووضَّحَه وبيَّنه كالكهانة ؛ فقد كفر فعلًا بما أُنزِلَ على محمد ؛ لأن ممَّا أُنزِلَ على محمد (( فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ )) ؛ فهذا الكاهن إما أن يعتقد فيه أنه رسول وهذا هو الكفر الصريح ، وإما أن يعتقد أنه إنسان من البشر ولكنه يعلم الغيب ؛ فهو - أيضًا - كفر ببعض الآيات الأخرى التي منها قوله - تبارك وتعالى - : (( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ )) .

وخلاصة القول - وهذا بحث طويل ، وله شعب كثيرة وكثيرة جدًّا - : أنه لا يجوز عند علماء المسلمين سلفًا وخلفًا أننا إذا رأينا نصًّا أطلَقَ فيه الرسول - عليه السلام - أنه كَفَرَ أن نُلحِقَه بالمرتدين ، وأن نأخذه ونقطع عنقه ؛ لأنه صَدَقَ فيه لفظة : " كَفَرَ " . نحن نعلم في كثير من المسائل التي أصبح الكفر أنَّ مَن وقع في الكفر يُؤتى به فيُستتاب ، فإن تاب وإلا قُتِلَ ، فلا يجوز أن نبادر إلى تكفير الناس بمجرَّد أنه صَدَقَ فيهم لفظة " كفر " ، وإنما يجب أن نتحرَّى أيُّ المعنيين صدق في هذا الذي نريد أن نطلق عليه لفظة " كفر " ، كمثل ما ذكرنا من الحديث السابق : ( سبابُ المسلمِ فسوق ، وقتاله كفر ) ؛ هل نقول : هذا كفر ردة ؟ لا ، وإنما يكون الكفر ردة إذا استحلَّ ذلك ، وهكذا الأحاديث كثيرة وكثيرة جدًّا تُقاس بهذا المقياس ، إذا اقتَرَنَ مع هذا الذي فَعَلَه وصف الشرع أنه كفر كفر اعتقادي ؛ فهو مرتد عن دينه ، وإذا لم يقترن فذلك خروج عن جادَّة المسلمين ، فـ ... الله - تبارك وتعالى - وإياكم من ... .

غيره ؟

مواضيع متعلقة