تذكير الشيخ بقضية تسامح السلفيين فيما بينهم في مسألة قيام بعضهم لبعض مع بيان الأدلة في ذلك . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
تذكير الشيخ بقضية تسامح السلفيين فيما بينهم في مسألة قيام بعضهم لبعض مع بيان الأدلة في ذلك .
A-
A=
A+
الشيخ : هناك في الواقع عدَّة قضايا أُلاحظها ، فينبغي لفت النظر إليها والتذكير بها ، القضية الأولى : هي تسامح إخواننا السلفيين بعضهم مع بعض ، ولا أقول : بعضهم مع الآخرين ؛ فلهذا كلام آخر ، وإنما أعني تساهل أو تسامح السلفيين بعضهم مع بعض في قيامهم بعضهم لبعض ، فما أنصح لهم بهذا التسامح ؛ لأنه قائم على خلاف السنة الصحيحة ؛ ألا وهي التي تقوم على عدَّة أحاديث بعضها صريح في الموضوع ، وبعضها يُؤخذ منه ما يدل على الموضوع ، ثم هذا النوع من الصريح ينقسم إلى قسمين ؛ قسم يتعلَّق بالجالس ، وقسم يتعلَّق بالداخل ، أما القسم الذي يتعلَّق بالجالس ؛ فهو حديث أنس بن مالك الذي أخرَجَه الإمام البخاري في " الأدب المفرد " والإمام أحمد في " المسند " وغيرهما بسند صحيح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : " ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - - جاء في رواية - : رؤيةً . " ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رؤيةً ، وكانوا لا يقومون له لِمَا يعلمون من كراهيته لذلك " .

ومن الأمور البدهيَّة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أحقُّ الناس بالإكرام ما دام أن الله - تبارك وتعالى - أكرَمَه وفضَّلَه على سائر الأنام ، وجعله سيِّد الرسل الكرام ، فلو كان هذا القيام الذي يعتادُه المسلمون اليوم لعظمائهم وكبرائهم ومشايخهم وغيرهم وسيلةً مشروعةً للإكرام لَكان أحقَّ الناس به نبيُّنا - عليه الصلاة والسلام - ، وإذ الأمر ليس كذلك ؛ بدليل حديث أنس السابق : " كانوا لا يقومون له لِمَا يعلمون من كراهيته ذلك " ، فلو كان القيام وسيلة إكرام شرعًا ما كان لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يكرَهَه ، فكراهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمثل هذا القيام يُحمل على أقلِّ الاحتمالات على الكراهة التي تفيد أقلَّ ما تفيد عدم استحبابها ، فإذًا تركُ هذا القيام ، ولا أزال ألفت النظر أن البحث بعضنا مع بعض داخل تحت عموم قول الله - تبارك وتعالى - : (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ )) .

ثم تكلَّمنا عن الرسول - عليه السلام - وهو أنه أحقُّ الناس بالإكرام ، نتكلم الآن عن صحابته الكرام ، فهم بلا شك أعرف الناس بمنازل العظماء من الرجال ، فكيف إذا كان أعظم الرجال ؟ فحينما نراهم لا يقومون له ؛ فذلك يؤكِّد أنهم كانوا فهموا منه - عليه السلام - كراهَتَه لهذا القيام ، فإذًا لنتصوَّر الداخل مهما كان عظيمًا ، والجالس مهما كان مقدِّرًا للعظيم فسوف لا يكون الداخل أعظم ، ولا الجالس اليوم أشد تقديرًا للعظماء من الصحابة للرسول - عليه الصلاة والسلام - .

هذا ما يتعلَّق بالجالس ؛ فهو لا يقوم للداخل ، أما الداخل نفسه فهو أحد رجلين ؛ إما أن يقتدِيَ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في كراهته لقيام الناس له ؛ وحين ذاك فموقفه حين يدخل أن يحضَّ الناس على البقاء دون قيام له ، وإما أن يكون الرجل الآخر ؛ وهذا ما يُصاب به جماهير الداخلين اليوم ؛ حينئذٍ يأتيهم الوعيد الشديد ؛ ألا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( مَن أحبَّ أن يتمثَّل له الناس قيامًا فليتبوَّأ مقعده من النار ) ، ولا أتصوَّر إنسانًا لا يحبُّ القيام يعتب على مَن لا يقوم له إلا وفي قلبه نزعة من كبر ، فينصبُّ عليه هذا الحديث بهذا الوعيد الشديد ، والحديث الآخر الذي يقول : ( لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرَّة من كبر ) ، والحديث طويل ، ولا أدري إذا كان من المفيد أن أذكره بتمامه لعله أولى ، لما قال الرسول - عليه السلام - هذا الحديث ؛ قالوا : يا رسول الله ، إنَّ أحدنا يحبُّ أن تُرى عليها ثياب حسنة ؛ أذلك من الكبر ؟! قال : ( لا ) . قال آخر : إنَّ أحدنا يحبُّ أن تُرى عليه نعلان حسنتان ؛ أذلك من الكبر ؟ قال : ( لا ) . قال آخر : إنَّ أحدنا يحب أن يُرى في يده سوط حسن - السَّوط معروف ؛ ما يسمَّى بـ " الكرباج " عندنا في سوريا - ؛ أذلك من الكبر ؟ قال : ( لا ، إنَّ الله جميل يحبُّ الجمال ) . قالوا : فما الكبر يا رسول الله ؟ قال :

"" الكبر بطر الناس "" ، وفي رواية : ( غمط الناس ) ، عفوًا .

قال - عليه السلام - : ( الكبر بطر الحقِّ وغمص الناس ) . وفي رواية : ( وغمط الناس ) ؛ يعني غمص بالصَّاد أو بالطاء ، روايتان ، والمعنى واحد = -- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته -- = ، فالكبر = -- أهلًا -- = بطر الحق وغمص الناس أو غمط الناس ، وإذا عرفنا أن من الحقِّ ألَّا يقوم الجالس للداخل ، ثم دخل الداخل من القوم ، فطمع من الجالسين أن يقوموا له ، وهو يعلم أن هذا أمر مكروه شرعًا ؛ فيُخشى عليه أن يدخل في قوله - عليه السلام - : ( الكبر بطر الحقِّ ) .

وهذا المعنى الثاني المتعلِّق بالداخل الذي يحبُّ أن يتمثَّل له الناس قيامًا فيه حديث يؤكد هذا المعنى ، لكن بطريق الاستنباط والنظر السليم ، ذلك الحديث الذي يرويه الإمام = -- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، أهلًا ، وعليكم السلام ... -- = فهناك حديث في " صحيح الإمام مسلم " من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رَكِبَ دابَّتَه يومًا فرَمَتْه على الأرض ، فأُصِيبَ في عضده ، ولما حضرت صلاة الظهر لم يستطِعْ أن يصلي بالناس قائمًا ، فجلس وقام الناس خلفه قيامًا ، فأشار إليهم وهو في الصلاة أن اجلسوا فجلسوا ، لما انقضَتِ الصلاة قال لهم - عليه الصلاة والسلام - : ( إن كِدْتُم آنفًا لَتفعلنَّ فعل فارس بعظمائها ؛ يقومون على رؤوس ملوكهم ، إنما جُعِلَ الإمام لِيُؤتَمَّ به ؛ فإذا كبَّر فكبِّروا ، وإذا ركعَ فاركعوا ، وإذا قال : سمع الله لِمَن حمده ؛ فقولوا : ربَّنا ولك الحمد ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلَّى قائمًا فصلوا قيامًا ، وإذا صلَّى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعين ) .

فالنظر في هذا الحديث في نقطتين منه ، الأولى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اعتبر قيام الصحابة في الصلاة خلفه وهو جالس في الصلاة اضطرارًا منه اعتبرها صورة مشابهة لقيام جماعة كسرى ووزراء كسرى فوق رأسه تعظيمًا له وهو جالس على عرشه ، مع ملاحظة الفرق البعيد جدًّا جدًّا جدًّا بين الرسول - عليه السلام - وصحابته من جهة ، وبين كسرى وأهل مجلسه من جهة أخرى ؛ ذلك ما أشرتُ إليه أن الرسول - عليه السلام - جلس اضطرارًا ، ثم جلوسه في الصلاة ليس خارج الصلاة ؛ أي : بين يدي الله - عز وجل - ، والصحابة - أيضًا - إنما قاموا في الصلاة ، وقاموا تحقيقًا لركن من أركان الصلاة ممَّا أمَرَ الله - عز وجل - به في القرآن الكريم بقوله : (( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ )) .

أما كسرى فهو يجلس تعاظمًا وتكبُّرًا على عرشه ، والناس يقومون من حوله قيامًا تعظيمًا له ، فشتَّان بين هؤلاء عملًا وقصدًا ، وبين أولئك عملًا وقصدًا ؛ مع ذلك قال لهم : ( كِدْتُم ) ؛ يعني قاربتم أن تفعلوا مثل ما يفعل فارس بعظمائها ؛ يقومون على رؤوس ملوكهم ، فلا شك أنه - عليه السلام - يعني كلامه عدل موزون دقيق ، ما قال : فعلتم كما يفعل عظماء كسرى أو فارس بعظمائها ؛ لأنُّو فيه فرق كبير ، لكن مع ذلك فيه إشعار ناعم ولطيف جدًّا أنُّو هذه الصورة ولو في الصلاة يجب أن تبتعدوا عنها حتى ما يكون فيه مشابهة في الظاهر مع اختلاف المقاصد بين الطائفتين ؛ لذلك قال لهم : ( وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعين ) . النظرة الأولى هي هذه .

النظرة الأخرى أو النقطة الأخرى في هذا الحديث أنه أسقط ركنًا من أركان الصلاة وهو القيام من المصلين خلف الإمام الجالس معذورًا كي لا تظهرَ المشابهة الصُّورية الشخصية بين الإمام الجالس لعبادة الله والجماعة القائمين خلف هذا الإمام بعبادة الله ، حتى لا تظهر المشابهة الشَّكلية بين هؤلاء وبين رجال فارس في تعظيمهم لعظمائها . إذا وضح هذا وذاك يتبيَّن لنا أنَّ ما عليه جماهير المسلمين اليوم ككثير من المشايخ أنه إذا دخل الشَّيخ - مثلًا - ما نقول الأمير ولا نقول الوزير ؛ لأن هؤلاء لهم حكم آخر كما قلت في ابتداء كلمتي هذه أنُّو السلفيين مع بعضهم البعض ، فعلى الأقل السلفيون يجب أن يحيوا السنة دائمًا وأبدًا ، على الأقل مع بعضهم البعض ، بعد ذلك مرتبة أخرى ممَّن يأنسون من غيرهم رشدًا واستعدادًا لتقبُّل السنة ، أما دخل - مثلًا - أمير أو دخل وزير ، وليس هناك مجال لتقيموا السنة ؛ حتى لو أظهروا السنة قد لا يبالي بها إطلاقًا ؛ فحينئذٍ نقوم ولسان حالنا يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ! أما مع بعضنا البعض فهذا ما ينبغي أبدًا ؛ لأنُّو هذه ظاهرة وثنية دلَّ على ذلك الحديث السابق : ( إن كِدْتُم لَتفعلنَّ آنفًا فعل فارس بعظمائها ) .

على أنُّو هناك حديث في سنده ضعف ، وإن كان وجدتُ ما يشهد له ؛ وهو قوله - عليه السلام - : ( لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظِّم بعضهم بعضًا ) ، بعض الناس يقولون بالنسبة لهذا الحديث أنَّه قال : ( كما تقوم الأعاجم ) ، والأعاجم يقومون كما جاء في حديث جابر : يقفون هكذا مدة طويلة وطويلة ، والملك جالس . نقول : هذا يفعله الأعاجم ، وما دونه - أيضًا - يفعله الأعاجم ؛ أي : هذا الذي ذَكَرَه الرسول - عليه السلام - في حديث جابر من قيام حاشية الملك عليه هكذا قيامًا وهو جالس ؛ هذا يفعله العظماء مع أعظمهم ، لكن القيام الآخر الذي نحن سنتحدَّث فيه - أيضًا - يفعله الأعاجم كما هو مشاهد إلى اليوم ؛ ولذلك فالتشبُّه حاصل في كلٍّ من الصورتين . هذا ما يتعلَّق بالقيام للداخل .

المسألة الثانية : القيام من المجلس للداخل ليجلِسَ فيه هذه مسألة أخرى ، وفيه حديث في البخاري ومسلم : ( لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه ، ولكن تفسَّحوا وتوسَّعوا ) ، فالآن يدخل الداخل والمجلس - ما شاء الله - واسع ، فيقوم - مثلًا - أبو خالد له ليجلس في مجلسه ؛ هذا خلاف الحديث ، ( لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه ، ولكن تفسَّحوا وتوسَّعوا ) ، فإذا كان المجلس بطبيعة الحال واسع كما نرى في بلادكم ما شاء الله المجلس عبارة عن عديد من الغرف بالنسبة لبلادنا ، فما في حاجة للتوسعة ؛ لأنُّو هو واسع ، وإذا افتُرِض صار فيه ضغط وزحمة يجب أن نتوسَّع ، هَيْ هنا في مجال أنُّو يجلس ، ولا تقوم الرجل من مجلسه للداخل ليجلس فيه .

راوي هذا الحديث من الصحابة عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وكان يحدِّث بهذا الحديث إذا دخل وقام له الرجل من مجلسه ، فيقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه ، ولكن تفسَّحوا وتوسَّعوا ) . ويأبى أن يجلس في مكان الرجل الذي أخلى له ذلك المكان ، هذه مسألة - أيضًا - يجب أن نتنبَّه لها . لا شك سواء في المسألة الأولى أو في المسألة الأخرى القصد واضح ، وهو إكرام للداخل ، لكن ينبغي أن نكرم الداخل بما شُرع وليس بما ابتُدع ، فالذي قال - مثلًا - : ( ليس منَّا مَن لم يرحم صغيرنا ويوقِّر كبيرنا ويعرف لعالمنا حقَّه ) هو الذي قال : ( لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه ) ، وهو الذي كان يكره أن يُقام له تعظيمًا وإكرامًا .

فينبغي أن نلاحظ هذه المسألة الأولى والثانية ، وهناك مسألة ثالثة ، وما أكثر المسائل !

مواضيع متعلقة