بيان أن التنعُّم بنعم الله لا يدلُّ على الإسراف ، وأن التبذير منهيٌّ عنه في الشريعة الإسلامية . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
بيان أن التنعُّم بنعم الله لا يدلُّ على الإسراف ، وأن التبذير منهيٌّ عنه في الشريعة الإسلامية .
A-
A=
A+
الشيخ : ... بالإضافة إلى أنه بيَّن أن المال بالنسبة للرجل الصالح نعمة من نعم الله - عز وجل - ، لكنه من ناحية أخرى يضع حدودًا للتنعُّم بهذه النعمة بحيث لا تنقلب على صاحبها نقمة ، من ذلك - مثلًا - ألا يسرف في استعمال هذا المال ويضعه في غير مواضعه التي شُرعت لها ، فيقول - عز وجل - في بعض صفات عباد الرحمن : (( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا )) ، وكذلك نهى - عليه الصلاة والسلام - في بعض الأحاديث أن يستمرَّ الإنسان في تنعُّمه بتلك النِّعم التي أُحِيط بها من ربِّه تنعُّمًا مستمرًّا ؛ لأن ذلك سيدفعه بحياة ملؤها الرَّخاء والتَّرف ، وحينَ ذاك مثل هذا الرجل الذي عاش في هذه الحياة المُنعَّمة قد لا يستطيع أن يثبُتَ أمام الحوادث وأمام المصائب ، فسرعان ما يخضع ويركع أمامها ؛ فمن ذلك قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( إياي والتنعُّم ، فإنَّ عباد الله ليسوا بالمتنعِّمين ) .

وقد يظنُّ بعض الناس أن مثل هذا التوجيه النَّبوي الكريم = -- يرحمك الله -- = يُنافي بعض الآيات الصَّريحة في القرآن بأنَّ للمسلم أن يتمتَّعَ بما أحلَّ الله كمثل قوله - عز وجل - : (( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ )) ، قد يظنُّ البعض أن ذاك الحديث يُخالف هذه الآية ، وهذه الآية تُخالف ذلك الحديث ، والجواب : أنه لا تخالف والحمد لله ، ذلك لأنَّ الرسول - عليه السلام - في ذلك الحديث إنما يعني ألَّا يُبالِغَ أو أن يستمرَّ الإنسان في هذا التمتُّع للمحذور الذي أشرنا إليه آنفًا ، فقوله : ( إيَّاي والتنعُّم ) أي : إياك والتنعُّم والمبالغة فيه ، بل تارةً وتارةً كما قال في حديث آخر - عليه الصلاة والسلام - ، أو ليس قولًا إنما حكاية عن قوله : قال بعض الصحابة : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الترجُّل إلا غبًّا " ، والترجُّل هو تسريح الشعر ، وتسريح الشعر - لا يخفاكم - هو من الزينة التي ذكرت في عموم الآية السابقة ، لكنه لا يريد للمسلم أن يجعلَ ديدنه الاعتناء بهندسة هندامه ومظهره ، لكن تارةً وتارةً ، فيترجَّل ويتسرَّح يوم دون يوم وهكذا .

بل جاء في حديث آخر ما قد يُشكل على بعض الناس- أيضًا - ألا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( إنَّ البذاذةَ من الإيمان ) ، البذاذة من الإيمان يعني عدم الاعتناء بهندسة ثيابه وشكله ونحو ذلك ، ويجعل ذلك أو تلك الهندسة هي حياته وديدنه ، وإنما تارةً وتارةً حسبَ ما أفاد الحديث النهي عن الترجُّل إلا غبًّا ، كل ذلك لكي يتمكَّن المسلم من أن ينطلق في حياته على حدود ما وصف به عبادَ الرحمن : (( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا )) ، ولا يخفاكم أنَّ وقوف الرجل في الخطِّ الوسط بين الإسراف والتَّقتير ليس بالأمر اليسير ؛ خاصَّة من الذين - كما أشرنا في مطلع كلمتنا هذه - أُحيطوا من الله - تبارك وتعالى - بالنِّعم الكثيرة الغزيرة .

فإذا كان من المعلوم أنَّ من الدين النصيحة فأنا أذكِّر بهذه المناسبة الطَّيِّبة بأنني رأيت في هذه البلاد وفي غيرها مثل الإمارات وغيرها أنَّ الأمر لا ينجو عند كثير من إخواننا السلفيين فضلًا عن غيرهم من الوقوع في شيء من الإسراف ، قد يكون تارةً جليًّا ظاهرًا وتارةً يكون خفيًّا ؛ بسبب أن كثيرًا من المتفقِّهين فضلًا عن غيرهم قد يكونون عن ذلك النوع من الإسراف من الغافلين ، أضرب بعض الأمثلة البسيطة بالنسبة لما يخصُّنا نحن - معشر السلفيين - ، أما عامة الناس فالدعوة التي يُقيمونها ثم تُرمى الأطعمة التي حُضِّرت لتلك الدعوة في القمامات ؛ فهذا لعلَّكم تعرفونه أكثر منِّي ، وهو معروف لدى جميع الناس ؛ لكني أتحدَّث عمَّن نظنُّ فيهم أنهم من خاصَّة الناس ، وهم إخواننا السلفيين ؛ فهم - مثلًا - حينما يجلسون على الطعام لا يستعملون الأوامر الشرعية التي جاءت عن الرسول - عليه السلام - من حيث عدم ترك فضلات الطعام في الصَّحن ، بل أمر الرسول - عليه السلام - بلعقِ الإناء فضلًا عن أنَّهم لا يفعلون ، بل يستهجنون لَعْقَ الأصابع ؛ مع أنَّ الرسول - عليه السلام - قد أمر بذلك حينما قال في حديث " الصحيحين " عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا أكل أحدكم فلا يمسَحْ أصابعه قبل أن يَلعَقَها أو يُلعِقَها ) ، وأنا أعرف أن التَّيَّار الكافر الغربي يكتسح المجتمعات الإسلامية اكتساحًا رهيبًا جدًّا ، وبصورة خاصَّة البلاد التي توفَّر فيها المال بغزارة لا مثيلَ لها في البلاد الأخرى ، فإن هذه الوفرة في المال تساعد - كما أشرنا آنفًا - على الإسراف وتبذير المال ، ونحن نعلم أن الله - تبارك وتعالى - يقول = : "" إن المبذرين كانوا من الشياطين "" فأصبحنا ونحن .

السائل : ... .

الشيخ : نعم ؟

السائل : (( كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ))

الشيخ : كانوا ؟ عفوًا ، = (( إِنَّ المُبذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ )) ، فأصبحنا لا نحسُّ بأنَّنا نبذِّر أموالنا ونضيِّعها ، فنقع في هذا التبذير الذي هو من صفة إخوان الشياطين ، وليس من صفة عباد الرحمن ، بل لم يقِف الأمر كما ألمحت آنفًا إلى أنَّنا تركنا لعقَ الأصابع ، وتركنا لعقَ الصُّحون لكثرة المال ، بل أصبح عند الكثيرين - حتى من إخواننا السلفيين ولا أزكِّي إلا القليل منهم - أصبح هذا أمرًا مُستهجنًا ، وفي كثير من البلاد كما لاحظت أنَّه يُوضع العلبة أو الباكيت اللي فيه الورق المسمَّى عندنا وربما عندكم بورق " الكلينكس " ، تُوضع هذه العلبة في متناول كلِّ طاعم ، ولا يكاد يأكل لقمةً أو لقمتَين إلا ويأخذ ورقة ويمسح بها أصابعه أو فمه ، هذا كله إضاعة للمال ، والرسول - عليه السلام - يقول في بعض الأحاديث : ( فإنَّه لا يدري في أيِّ طعامه البركة ) ، هل البركة فيما أكل أم البركة فيما لحس ؟ هذه أمور غيبيَّة ، إذا كنَّا حقيقةً سلفيين نستسلم لأحكام ربِّ العالمين ولا نُعمِلُ عقلَنا المادِّيَّ وعاداتنا وأهواءنا وشهواتنا ، فنحن نخضَعُ لأمر الرسول - عليه السلام - كما هو معروف لدى الجميع هذا ، لكن كما أشرت آنفًا إنما أنا مذكِّر ، والذكرى تنفع المؤمنين ، فيجب أن نغتنمَ فرصة هذه النِّعمة ونقدِّرَها حقَّ قدرها ، ولا نبذِّرها تبذيرًا ، ولعل في ذلك ذكرى لِمَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

مواضيع متعلقة