الدنيا وسيلة الآخرة . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
الدنيا وسيلة الآخرة .
A-
A=
A+
الشيخ :

النظامي وهو من كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري وذلك على خطتنا التي أصبحت معروفة لدا

جميع إخواننا الذين يلتزمون حضور دروسنا وهي الاكتفاء من هذا الكتاب بالأحاديث الثابتة في مرتبة

الحسن

فما فوق يقول المؤلف رحمه الله في الحديث الآتي وهو صحيح ، عن عبد الله بن عمر قال : أخذ رسول الله

صلى الله عليه وآله وسلم ، بمنكبي فقال كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وكان ابن عمر يقول : إذا

أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك رواه

البخاري ......

رواه البخاري والترمذي ، ولفظه قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسده فقال : كن في

الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعدَّ نفسك في أصحاب القبور ، وقال لي يا ابن عمر ، إذا أصبحت فلا

تحدث نفسك بالمساء ـ وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من صحتك قبل سقمك وحياتك قبل موتك

فإنك لا تدري يا عبدالله ما اسمك غداً : ورواه البيهقي وغيره بنحو الترمذي .

هنا روايتان بينهما تخالف ظاهر الرواية الأولى رواية الإمام البخاري والأخرى رواية الترمذي .

رواية الترمذي أتمُّ معنىً من حيث اللفظ ، ولا كن رواية البخاري أصح سنداً وأصغر متناً شيئا قليلاً .

ثم إن هناك اختلاف في بعض الجمل من حيث الوقف والرفع ، فالنصف الثاني من رواية البخاري من

الحديث موقوف بينما نجد هذا النصف في رواية الترمذي موضوعاً ، والواقع أن رواية الترمذي في سندها

ضعف فكان ينبغي أن يحكم عليها من حيث الصناعة الحديثية بالرخاوة والضعف إلاَّ أنَّ هذه الرواية التي

رفعها الترمذي في روايته ....

البخاري قد وجد لها شواهد تقويها ولذلك حكمنا على الحديث بروايتيه بأنه حديث صحيح ، رواية البخاري

صحيح لذاته : ورواية الترمذي صحيح لغيره ، لفظ البخاري ـ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي

خاطب ابن عمر بقوله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل : إلى هنا انتهى الحديث المرفوع في رواية

البخاري ثم قال في هذه الرواية وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت إلى آخره ....

ففصل بين الجملة الأولى أو الشطر الأول من الحديث المرفوع وبين الشطر الآخر فجعله موقوفاً حيث قال

وكان ابن عمر يقول إذا امسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك

لمرضك ومن حياتك لموتك أما الترمذي فقد رفع هذه الجملة الثانية أيضاً حيث لفظه أخذ رسول الله صلى

الله عليه وآله وسلم ببعض جسدي فقال كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل إلى هنا تنتهي رواية

البخاري السابقة المرفوعة ثم يزيد الترمذي فيقول وعُدَّ نفسك في أصحاب القبور ، وقال لي يا بن عمر ،

الجملة السابقة الموقوفة على ابن عمر هنا يقول أن الرسول عليه السلام خاطب ابن عمر بقوله : إذا

أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من صحتك قبل سقمك ومن

حياتك قبل موتك فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غداً .

قلنا أن هذه الزيادة وهي قوله عدَّ نفسك في أصحاب القبور وبقية الزيادة التي جائت في حديث البخاري

موقوفة جائت في حديث الترمذي مرفوعة قلت هذا إنما صح بالنسبة ل...

خلاصة القول من حيث الناحية الحديثية أن الحديث صحيح مرفوع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولا

منافات بين الوقف وبين الرفع نعود إلى شيء من التعليق المناسب من المقام على بعض جمل هذا الحديث

قال عليه السلام لابن عمر كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل في هذا الحديث حض من النبي صلى

الله عليه وسلم للناس ألا يركنوا إلى الدنيا وألا يلتهوا بها وأن يجعلوا أنفسهم بمثابة الغرباء الذين ليس لهم

وطن يستقرون فيه ولذلك قال كن في الدنيا كأنك غريب لأن الغريب لاوطن له ولا استقرار له في الأرض

ثم لم يكتفي بهذا المقدار من الحض لقوله كأنك غريب بل قال أو عابر سبيل ، عابر سبيل أبلغ من الغريب ،

فالغريب قد يستقر ولو أنه غريب نازح لكنه قد يستقر في بلد الغربة وها أنتم ترون جماعات تعد بالألوف

المؤلفة بالملايين المملينة من الغرباء أصلهم مسلمون استقروا في بلاد الكفر وتوالدوا فيها فصار أبنائهم من

بعدهم نصارى تركوا دين آبائهم وهم غرباء ويسكنون ويستوطنون بلاداً ليست هي بلادهم فإذاً ولو أن

الغريب كان غريباً فقد يكون غريباً مستقراً في بلد الغربة فلذلك كان عطفه عليه السلام على ما سبق من

قوله كن في الدنيا كأنك غريب بقوله أو عابر سبيل أبلغ في الحض على عدم الالتفات إلى الدنيا

والركون إليها لأن عابر السبيل لا قرار له وإنما هو منطلق وإن استقر فا سويعة صغيره بمقدار ما تقتضيه

الضرورة كما ضرب على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً رائعاً حين قال : مثلي ومثل الدنيا كمثل

راكب نزل تحت شجرة قد تولى فيها ثم هو عما قريب راحل أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، فهذا النزول

سريع الزوال لذلك قال العلماء بأن قوله أو عابر سبيل هذا من باب الاضراب عن الجملة السابقة كأنك

غريب بل كأنك عابر سبيل ثم قال إذا أمسيت تأكيداً لهذا الأمر بأن يكون المسلم في هذه الحياة غريباً بل

عابر سبيل قال إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح يعني لا تأمل في الحياة وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء

والغرض من هذا أن المسلم حينما يكون هكذا ناظراً إلى نفسه في كونه في هذه الحياة الدنيا أنه عما قريب

راحل فهو سينظر في الأمر العابر هنا ليستغله وليتزود في حياته المقبلة الحياة الأبدية التي لا فناء لها فإما

حياة في نعيم مقيم وإما حياة في جحيم وفي النار الشديدة الاسطلاء .

فإذا نظر المسلم إلى وجوده في الدنيا هكذا كما حدض عليه الصلاة والسلام إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح

وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء يدفعه هذا التأمل وهذه النظرة لدنياه التي يعيش فيها إلى أن يعمل لآخرته

ولذلك أتبع تلك النصيحة بقوله عليه السلام وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك يعني اغتنم هذا

الوقت القليل الذي أعطيته في الدنيا ابتلاء من الله تبارك وتعالى الذي قال : الذي جعل الموت والحياة ليبلوكم

أيكم أحسن عملاً : فتجاوباً مع هذا الابتلاء من الله عزَّ وجل : قال خذ من صحتك لمرضك ومن حياتك

لموتك .

في حديث الترمذي زيادة بعد قوله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعدَّ نفسك في أصحاب القبور

هذا الحديث قد يستشكله بعض الناس وكأني كنت قرأت قديماً إنكاراً له من بعضهم وأنهم يستوفون منه

الإعراض عن الدنيا بالكلية والركون وعدم العمل والواقع أن هذا الحديث لا سيما إذا نظرنا إليه مع ما قبله

من النصائح والتوجيهات الكريمة إنما نفهم منه أن تعد نفسك في أصحاب القبور بمعنى أنك لا تبالي بالناس

الذين من حولك ولا تركن إليهم ولا تحسب لهم حساباً وإنما همك أن تعمل لآخرتك وأن تغتنم صحتك قبل

سقمك وفراغك قبل شغلك كما سيأتي في بعض الأحاديث أيضاً : فقوله عليه السلام وعد نفسك من أصحاب

القبور يعني أنت حي بين الناس ، ولكنك لا تقيم لهم وزناً ولا حساباً حين تراهم منهمكين في دنياهم في

مكاسبهم في ملاهيهم فكأنك من أصحاب القبور لا يصرفك شأنهم عما أنت فيه من الإقبال على الآخرة

والعمل لها والاستعداد من أجلها هذا هو المقصود من هذه الجملة ألا وهي قوله عليه السلام وعدَّ نفسك في

أصحاب القبور ، وقال لي يا ابن عمر إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك

بالصباح وخذ من صحتك قبل سقمك ومن حياتك قبل موتك فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غداً ـ فإنك لا

تدري يا عبد الله ، ما قال هنا يا عبد الله ابن عمر وإنما أطلق فقال يا عبد الله أي عبد من عباد الله يخاطبه

الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله ما تدري ما اسمك غداً : ما المقصود ما تدري ما اسمك غداً ؟ .

أطلق الاسم وأراد الوصف أي أنك لا تدري أتكون موصوفاً بالسعادة أم بالشقاوة .

فإذا عليك أن تعمل لتسعد في الآخرة لا لتشقى لتكون سعيداً وليس لتكون شقياً وهذه النصائح كلها في الواقع

خلافاً لما قد يتبادر إلى بعض الناس هي حضٌ على العمل ، وحض بحيث أن الموت أمامك فمن كان

يتصور الموت أمامه فهو في المساء لا يفكر أنه سيعيش إلى الصباح وفي الصباح لا يخطر بباله أنه سيعيش

إلى المساء ، من كان ينظر إلى هذه الدنيا بهذا الزمن المحدود النطاق ، فهو سيسارع إلى اغتنام الوقت

وعدم إضاعته وإلى تشغيله في طاعته لربه تبارك وتعالى فلذلك فمادام أن الإنسان لا يدري ما اسمه غداً ما

صفته أسعيد أم شقي فعليه أن يتعاطى الأسباب التي شرعها الله تبارك وتعالى وجعلها سنناً شرعيةً تأدي به

أن يكون عند الله سعيداً ويبتعد عن تعاطي الأسباب التي جعلها الله تبارك وتعالى أيضاً أسباباً شرعيةً تأدي

به إلى أن يكون عند الله عزَّ وجل شقياً ، فلذلك فلا منافات بين جهل الإنسان أهو سعيد عند الله أم شقي .

وكذلك بين كتابة السعادة الشقاوة التي جاء ذكرها في بعض الأحاديث الصحيحة كحديث عبد الله ابن مسعود

في صحيح البخاري ومسلم الذي أوله إنَّ خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفةً ثم ذكر الأطوار

التي يمر بها الإنسان وفي آخر الطور فيما يراد نفخ الروح فيه يأتيه ملك فيكتب أجله سعادته وشقاوته وذكر

أو أنثى فكتابة السعادة في هذه اللحظة التي ينفخ فيها روح الجنين هي بلا شك كتابة جليلة كما حقق ذلك

العلامة ابن القيم الجوزية في كتابه العظيم شفاء العليل في الحكمة والقضاء والقدر والتعليل بين هناك أن هذه

الكتابة وحين ما يأتيه الملك إلى الجنين فهي كتابة مسبوقة حينما كتب الله عز وجل في اللوح المحفوظ حين

قال للقلم كما قال عليه السلام أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب ، قال ما أكتب ؟ قال اكتب ما هو كائن إلى

يوم القيامة فكل صغير وكبير مستطر مسجل عند الله عز وجل فهذه الكتابة هي طبق للكتابة السابقة والتي

سجلت في اللوح المحفوظ كل هذه الكتابات لا تعني أن الإنسان كما يتوهم كثير من جهال الناس قديماً

وحديثاً أن الإنسان مجبور ، ليس مجبوراً والبحث في هذا تركناه مراراً وتكراراً وإنما أريد الآن الإشارة

فقط وأن الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه لما تحدث في حديث صحيح بما أشرنا إليه من أسبقية القدر لكل

أمر كبير أو صغير قال له بعض الصحابة ففيم العمل : قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له ولو كان من أهل

الجنة فسيعمل بعمل اهل الجنة ولو كان من أهل النار فسيعمل بعمل أهل النار إذاً شقاوتك وسعادتك التي

سبق علم الله بها وتقدريه لها في اللوح المحفوظ إنما هو شيء أنت في الواقع السبب في تسجيله فلما كان

ذلك التسجيل القديم مجهولا لدينا على الإنسان أن يكون كيِّساً أن يكون عاقلاً ما دمنا لا ندري ماذا كتب علينا

وبما ستنتهي حياتنا فعلينا إذا أن نسعى ونعمل لنكون سعداء عند الله عزوجل ولا نكون أشقياء فهذا الحديث

في الحض على هذا العمل الذي لا ينافي القدر لأنوا العمل هو من جملة القدر لذلك قال عليه السلام : اعملوا

فكل ميسر لما خلق له فمن كان من أهل الجنة فسيعمل بعمل أهل الجنة ومن كان من أهل النار فسيعمل

بعمل أهل النار . فهل منا من أحد يدري أو كما يزعم بعض غلاة الصوفية كشف له عن اللوح المحفوظ

فرءا اسمه من أهل النار فتواكل وقال ما الفائدة من العمل مادام ..... كشف عن بصري فرئيت اسمي

مسجلاً في الأشقياء لا في السعداء إذاً ففيم العمل ؟ : لا أحد يعرف هل هو سعيد أم شقي لذلك كان جواب

الرسول عليه السلام جواباً حكيماً حينما قيل له فيم العمل مادام الأمر فرغ منه : قال اعملوا فكل ميسر لما

خلق له وهذا مقتبس من قول الله تبارك وتعالى : فأما من أعطى وتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى *

وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى : لذلك لا عذر لأحد أبداً إذا لا سمح الله كان عند

الله شقياً لأن هذه الشقاوة هو الذي سعى إليها ، والله عزوجل بسابق علمه اكتشف هذا السعي من عبده فسجله

عنده في لوحه فلا تلوموا القدر وإنما لوموا أنفسكم ، فقوله عليه السلام فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك

غداً في حض تقواك لتلك النصائح على أنه يجب عليك يا عبد الله أن تعمل لسعادتك ليكون اسمك موصوفاً

في السعادة وليس بالشقاوة .

أسأل الله عزوجل أن يجعلنا من السعداء وأن لا يكتبنا من الأشقياء وفي هذا القدر كفاية والحمد لله رب

العالمين .



مواضيع متعلقة