كيف التوفيق بين قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لِمَن تركَ المِراءَ وإن كان مُحقًّا ) وبين آية : (( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )) ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
كيف التوفيق بين قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لِمَن تركَ المِراءَ وإن كان مُحقًّا ) وبين آية : (( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )) ؟
A-
A=
A+
عيد عباسي : يقول الأخ : الجدال نوعان ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أنا زعيم ببيت في ربض في الجنة لمن ترك الجدال وهو محق ) ، أو كما قال ؛ فكيف التوفيق بين الحديث وبين آية : (( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )) أفيدونا ، وأجركم على الله ؟

الشيخ : لا شك أن الجدال له صور وله أنواع ، وجملة ذلك أنه ينقسم إلى قسمين ، جدال بالحق وجدال بالباطل ، فالجدال بالحق هو الذي أمَرَ به الشارع الحكيم بالآية السابقة ، وما في معناها من الآيات الأخرى ، أما الجدال بالباطل فهو الذي لا يجوز شرعًا حتى في القرآن في كلام الله - عز وجل - ؛ فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( جدال في القرآن كفر ) .

إذا رجعنا إلى القسم الأول فالقسم الثاني ما أظن أحدًا بحاجة أو يشعر بحاجة إلى ضرورة الخوض والتفصيل لأنه لا يجوز أن يجادل الإنسان بالباطل ؛ لذلك لوضوح بطلان هذا الجدل بالباطل جعل الرسول - عليه السلام - في الحديث السابق أو في نحوه أن مَن تَرَكَ الجدال وهو مبطل بُنِيَ له بيت في ربض الجنة ، أما ( مَن ترك الجدال وهو محقٌّ بُنِيَ له بيتٌ في وسط الجنة ، ومَن حسَّنَ خلقَه بُنِيَ له بيتٌ في أعلاها ) ؛ أعلى الجنة ، فالذي يترك الجدال وهو مبطل بُنِيَ له بيت في ربض الجنة ؛ يعني أطرافها ، أما الذي يترك المراء والجدال وهو محقٌّ فيُبنى له بيت في وسط الجنة ، كيف هذا جاء السؤال ، كيف هذا الحضُّ على ترك المِراء للمحقِّ في المراء ليس للمجادل بالباطل ؛ كيف يكون له هذه الفضيلة فيُبنى له بيت في وسط الجنة ؟

-- سائل آخر : السلام عليكم . الشيخ : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته --

لا شك ، لا شك أن كل شيء جاوَزَ حدَّه صار ضده ، فالشجاعة - مثلًا - ممدوحة ، ولكن إذا بالَغَ فيها هذا الشجاع وصلَ الأمر به إلى التهوُّر ، والتهوُّر ليس أمرًا يُمدح عليه صاحبه ، كذلك الجود والكرم هو خلق حَسَن يُمدح عليه صاحبه ، لكنه إذا أفرط في ذلك وصل الأمر به إلى الإسراف وإضاعة المال وإضاعة الحقوق ، فكل شيء يجب أن يؤخذ بالاعتدال ، الصلاة - مثلًا - فهي كما قال - عليه السلام - : ( خير مَوضوع ) خاصَّة في قيام الليل ، لكن ما ينبغي أن يبالغ في الصلاة حتى يُتعِبَ نفسه ويعرِّضها للملل ، وبالتالي للخلاص من هذه العبادة التي كانت سبب إتعابه ، وربما كانت سببًا لإمراضه وإضعافه .

وقد أشار الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - إلى هذه الحقيقة في أحاديث كثيرة ، يحضرني منها قوله - صلوات الله وسلامه عليه - : ( إن لكل عمل شرَّة ، ولكل شرَّة فترة ؛ فَمَن كانت فترته إلى سُنَّتي فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى بدعة فقد ضَلَّ ) ، ( إن لكل عمل شرَّة ) يعني شدة ، لكن هذه الشدة ليس من الأمر الطبيعي أبدًا أن يستمرَّ صاحبها عليها ، وأبسط مثال أن نأمر أقوى الرجال بأن يقبض أصابعه قبضة يده قبضة الأبطال ، ونقول له : شدّ ، فسيشد إلى متى ؟ دقيقة ، دقيقتين ، خمس دقائق ، وعشرة وبعدين ؟ لح يفلت زمام الأمر بيده رغمًا عنه ؛ ذلك لأن طاقة الإنسان محدودة ؛ لذلك قال - عليه السلام - : ( إن لكل عمل شرَّة ) ؛ يعني لكل عمل يبتدئه الإنسان مما يودُّه ويرضاه ويحبُّه يبقى مُقدِم عليه بكل رغبة وبكل نشاط ، فالرسول - عليه السلام - يهذِّب هذا الإنسان ويقول له : رُوَيدك ، لا تُقدِمْ على هذا العمل بكلِّ قوتك وجهدك ، وإنما باعتدال ؛ لأنُّو في نهاية المطاف رح يصير معك فترة ، ح يصيبك فتور وضعف وخَوَر ، ثم ينتهي هذا إما إلى السنة وهو الاعتدال في الأمر في العبادة ، وإما إلى البدعة وهو مخالفة السنة .

الجدال بالحق حقٌّ ولا شك ، لكن كما قلنا في العبادة بصورة عامة وفي بعض الخصال من الأخلاق من مكارم الأخلاق بصورة خاصة كالشجاعة والجود ونحو ذلك أنَّ المبالغة في ذلك يؤدي إلى النقيض ؛ كذلك الجدل ينبغي أن نقف فيه على الحدِّ الوسط أن لا نبالغ فيه ؛ لأن المبالغة فيه ستؤدي إلى عكس الطلب ، فتنبيهًا منه - عليه الصلاة والسلام - وتربيةً لأمته جاء ذلك الحديث ليقول أن مَن ترك المراء وهو محقٌّ بُنِيَ له بيت في وسط الجنة ، فهذا المراء الذي حَضَّ الرسول - عليه السلام - على تركه إنما هو المبالغة والإصرار على المجادلة مع الخصم ؛ فهذا قد يؤدي إلى تنفير الخصم مما أنت في صدد جلبه إليه من الحقِّ والهدى والنور .

ومعنى هذا أخيرًا : أيها المسلم الذي أُمِرْتَ بمجادلة الناس حتى لو كانوا غير مسلمين بالتي هي أحسن فجادِلْهم بمقدار ما تقيم الحجة عليهم ، ثم انتهِ ؛ لأن المتابعة في المجادلة والإصرار عليها يُشعِر خصمك بأنك تريد أن تفرض رأيك عليه فرضًا ، فينفِّره منك ويُبعده عنك ، وهذا خلاف ما أنت كنت في صدده من أن تجذِبَه إلى ما تعتقده من الحق ، فإذا جادلت إنسانًا وجادلته ثم تبيَّن لك أنك قد بلَّغت الرسالة وأدَّيت الأمانة ولكن خصمك لا يريد أن يخضع للحق الذي قدَّمته إليه فقل بلسان حالك : هذا فراق بيني وبينك ، ولا تلح في المجادلة ، فإذا ما أمسكت وأنت على الحق خشية أن ينتج ضرر أكبر من استمرارك على المجادلة لك بيت في وسط الجنة .

هذا هو التوفيق بين الحديث وبين الآية وما في معناها .

مواضيع متعلقة