ذكر قصة ابن بطة لِمَن قام له وهو يكره ذلك . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
ذكر قصة ابن بطة لِمَن قام له وهو يكره ذلك .
A-
A=
A+
الشيخ : وإنما أختم هذه الكلمة بقصَّة فيها علم وفيها طرافة وفيها فائدة ؛ يَذكرُ أهل التاريخ في ترجمة " أبي عبد الله بن بطة " - من كبار علماء الحديث والحنابلة - أنه كان يكره أشدَّ الكراهة هذا القيام الذي اعتاده الناس اليوم وقبل اليوم بمئات السنين ، فخرج ذات يومٍ مع صديق له شاعر إلى السوق ، فمَرَّا برجل عالم جالس في محلِّه ، وهذا من أدب العلماء قديمًا كانوا يعتمدون في تحصيلهم لرزقهم على كدِّ يمينهم وعرق جَبينِهم ، فمرُّوا بهذا العالم مُسلِّمين ، فقام هذا العالم لابن بطة ، فقال ابن بطة لصاحبه الشاعر ، قبل ذلك قام العالم وهو يعلم أن ابن بطة يكره هذا القيام ، على نحو ما تسمعون الآن ، فاعتذر إليه ببيتَين من الشعر قال له :

لا تلُمْني على القيامِ فحقِّي *** حينَ تبدو ألَّا أمَلَّ القيامَا

أنتَ مِن أكرمِ البريَّة عندي *** ومن الحقِّ أن أُجِلَّ الكرامَا

كلام العالم بعضه صحيح ، من حقِّه أن يجلَّ الكرام ، قد ذكرنا حديثًا بل حديثين آنفًا ؛ من حقِّ المسلم إجلال الرجل الكبير ، ولكن هل يكون الإجلال بغير السنة ؟ بمخالفة السنة ؟ هل - مثلًا - يكون الإجلال بالسجود ؟ لا .

كلُّ الناس كلُّ المشايخ يقولوا : لا ، السجود لغير الله لا يجوز ، عفوًا لقد قلت : كلُّ المشايخ يقولون بأنه لا يجوز السجود لغير الله ، كنت أتمنَّى أن أكون موفَّقًا للصواب حينما قلت : كلُّ المشايخ ، لكن آسف ومُضطر أن أقول : ليس كلهم يقولون كذلك ؛ فهناك في بعض الطرق مِن تقاليدهم أن المُريد حينما يريد أن يأخذ الإذن من الشَّيخ بأن يطوف في المجلس ، فيسجد للشيخ ، ويقولون : هذا السجود تعظيم وليس سجود عبادة ، نحن قرأنا هذا في كثير من الرسائل ؛ فهل يُعظَّم المسلم بالسجود ؟ الجواب : الحمد لله لا ، على الأقل عند الجمهور ، أما أولئك فهم شذَّاذ .

وعندنا حديث معاذ بن جبل لمَّا جاء إلى هذه البلاد قبلَ فتحِها بالإسلام ورجع إلى المدينة ، فأوَّل ما وقعَ بصرُه على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هوى ليسجد له ، قال له : ( مَهْ يا معاذ ) . قال : يا رسول الله ، إني أتيت الشام فرأيت النصارى يسجدون لقسِّيسيهم وعظمائهم ، فرأيتُك أنتَ أحقَّ بالسجود منهم . هذا كلام صحيح ، لو كان السجود لغير الله جائزًا فهو أحقُّ من أن يسجد له من أن يسجد القسِّيسون والرهبان لعلمائهم ، قال - عليه الصلاة والسلام - : ( لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجُدَ لِأحد لَأمَرْتُ الزوجة أن تسجُدَ لزوجها لعِظَمِ حقِّه عليها ) ، في أحاديث أخرى : ( لكن لا يصلح السجود إلا لله - تبارك وتعالى - ) . إذًا لا يجوز تعظيم المسلم بالسجود ؛ لأن هذه الخصوصيَّة لله - عز وجل - .

طيب ؛ هل من إجلال المسلم أن نركع له ؟ الجواب - أيضًا - : لا ، إلا في بعض الطرق ؛ فهم الذين استجازوا السجود من باب أولى يستجيزون الركوع .

جاء في حديث أنس بن مالك - أيضًا - في " سنن الترمذي " وغيره قال السَّائل : يا رسول الله ، أحدنا يلقى أخاه أَفيلتَزِمُه ؟! قال : ( لا ) . قال : ( أَفَينحَنِي له ؟! ) . قال : ( لا ) . قال : أَفَيصافِحُه ؟! قال : ( نعم ) . إذًا الإنحناء - أيضًا - كتحيَّة أجنبيَّة لا تصح من مسلم لمسلم ، فذاك العالم لما قال : " ومن الحق أن أجِلَّ الكراما " هذا كلام صحيح ، لكن عمله ليس صحيحًا ؛ لأنه ليس وسيلة مشروعة لتعظيم الرجل العالم ؛ لذلك قال " ابن بطة " لصاحبه الشاعر ، ويبدو أن هذا الصاحب كان يعرف رأي ابن بطة بدقَّة ، وكان فيما يبدو - أيضًا - شاعرًا بالفطرة وبالسليقة ، فعلى الفَور وعلى القافية أجابه بقوله :

" أنت إن كنتَ لا عَدِمْتُكَ تَرعَى *** لِيَ حقًّا وتُظهِرُ الإعظامَا

فلَكَ الفضلُ في التقدُّم والعلمِ *** ولَسْنا نريدُ منك احتشامَا "

- الشاهد هنا -

" فاعفِني الآن من قيامِكَ أوَّلًا *** فَسَأجزيكَ بالقيامِ القيامَا

وأنا كارهٌ لذلكَ جدًّا *** إنَّ فيهِ تملُّقًا وأَثَامَا

لا تكلِّف أخاكَ أن يتلقَّاك *** بما يستحِلُّ به الحرامَا

كلُّنا واثقٌ بودِّ أخيهِ *** فَفِيمَ انزعاجُنا وعَلَامَا "

لذلك واجب الدعاة المسلمين المخلصين حقًّا أن يرجعوا بهذا المجتمع الإسلامي الضَّخم إلى العهد الأول في كلِّ شيء ؛ ليس فقط في العقيدة ، وليس فقط في العبادة ، وليس وليس ، وإنما الإسلام كله ، ومن ذلك العادات والتقاليد ، نحافظ عليها كما وَرِثناها عن سلفنا الصالح .

وهذا واضح جدًّا لو أنَّ المجتمع الإسلامي اليوم كان مُربًّى على ما رَبَّى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه لم يكن لهذا القيام لا محلَّ له من الإعراب كما يقولون ؛ لماذا ؟ قال هذا الشاعر المتفقِّه من العالم الفقيه :

" وإذا صحَّتِ الضَّمائر منَّا *** اكتفينا من أن نُتعِبَ الأجسامَا

كلُّنا واثقٌ بودِّ أخيه *** ففيمَ انزعاجنا وعَلَامَا "

لذلك نسعى بما عندنا من علم ونتعاون مع إخواننا المسلمين جميعًا على أن نعود إلى هدي الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، فهو كما سمعتم آنفًا وتسمعون بين يدي كل كلمة نقولها : ( فإن خير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) .

مواضيع متعلقة