حكم تكرار الجماعة في المسجد الواحد . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
حكم تكرار الجماعة في المسجد الواحد .
A-
A=
A+
الشيخ : فقد جاء في " مصنف ابن أبي شيبة " من رواية الحسن البصري - رحمه الله - أنه قال : " كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا دخلوا المسجد فوجدوا الإمام قد صلى صلَّوا فُرادى " ، وإلى هذه الرواية أشار الإمام الشافعي - رحمه الله - الذي بسطَ القول في هذه المسألة بسطًا لا نكاد نجده في كتاب آخر من المتقدمين ؛ فقد قال في الجزء الأول من كتابه " الأم " : " وإذا دخل جماعة المسجد فوجدوا الإمام قد صلى صلوا فرادى ، وإن صلوا جماعة أجزأتهم صلاتُهم ، ولكني أكره ذلك ؛ لأنه لم يكن من عمل السلف ، وقد كانوا قادرين على أن يجمِّعوا مرَّة أخرى ، ولكنهم لم يفعلوا ؛ لأنهم كرهوا أن يُجمِّعوا في مسجد مرتين " ، فهذا النقل العام من الحسن البصري عن الصحابة الكرام أنهم كانوا لا يعدِّدون الجماعة في المسجد يُعطينا صورة الحياة التي كانوا يَحيَونَها في مساجدهم من حيث الصلاة جماعة ؛ وهي أنهم كانوا حريصين على المحافظة على الجماعة الأولى ، فإذا ما فاتتهم لعذرٍ ما فضلًا عن غير عذرٍ صلّوا فرادى .

وهذا الذي يدل عليه أحاديث مرفوعة للنبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ولكن بشيء من الاستنباط والتأمل ، من ذلك حديث أبي هريرة - أيضًا - الذي أخرجه البخاري ومسلم في " صحيحيهما " قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( لقد همَمْتُ أن آمر رجلًا فيصلي بالناس ، ثم آمر رجالًا فيحطبوا حطبًا ، ثم أخالف إلى أناسٍ يَدَعونَ الصلاة مع الجماعة فأحرِّق عليهم بيوتهم ، والذي نفس محمد بيده ؛ لو يعلم أحدهم أنه يجد في المسجد مرماتَين حسنتَين لَشَهِدَها ) - يعني صلاة العشاء - .

في هذا الحديث دلالة صريحة في تحريم التخلف عن صلاة الجماعة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - همَّ بتحريق بيوت المتخلِّفين عنها ، هذا واضح وليس لنا كلام فيه ، وإنما الكلام فيما نحن فيه في صدده الآن ؛ ألا وهو تكرار الجماعة ؛ فما علاقة هذا الحديث بعدم مشروعية تكرار الجماعة ؟

لنتصور الأمر الواقع اليوم في كثير من مساجد المسلمين من التكرار والتعدُّد ؛ تُرى هذا الوعيد الصريح في هذا الحديث على أيَّة جماعة ينصَبُّ لو افترضنا أن هناك جماعات كثيرة ؟ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لقد همَمْتُ - طبعًا تلخيص الحديث - أن أحرِّق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعة ) ؛ فلو أن الرسول - عليه السلام - فعلًا باشر التحريق ، وخالف أولئك الجماعة في بيوتهم ، وهمَّ بالتحريق ، ما هذا يا رسول الله ؟ إنَّكم تتأخرون عن صلاة الجماعة ، لا يا رسول الله ؛ نحن نصلي مع الجماعة الثانية ، مع الجماعة الثالثة ، مع الجماعة الخمسين ؛ أتكون حجَّة الرسول حينَ ذاك قائمة على هؤلاء المتخلِّفين أم الأمر بالعكس ؟

إذا لاحظنا هذا نفهم أن هذه الحُجَّة النبويَّة لا تكون قائمة على المتخلِّفين عن صلاة الجماعة إلا إذا استحضرنا تلك الحقيقة التي أنبأنا بها الحسن البصري أولًا ، ثم أيَّده الإمام الشافعي في كلامه السابق آنفًا ، وإلا أُبطِلَتْ حجة الرسول - وحاشا من ذلك ! - ؛ بأن يقول قائلهم : يا رسول الله ، إن فاتتنا الصلاة معك فسنصلي - مثلًا - مع معاذ في مسجده ، سنصلي مع أبيِّ ، سنصلي مع فلان ممَّن نفترض أنهم كانوا يعدِّدون الجماعة في المسجد كما هو الشأن اليوم في المساجد الكبيرة والصغيرة ، أو يمكن أن يُقال أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم : صحيح أنه فيه هناك جماعات عديدة ؛ لكن أنا يَهُمُّني الجماعة الأولى من بين كل الجماعات ، هذا ممكن أن يقوله قائل - أيضًا - ، وسواء كان الاحتمال الأول أو الاحتمال الآخر فالحجَّة قائمة على أن المسلم حينما يسمع نادِيَ الله يقول : " حي على الصلاة ، حي على الفلاح " فإنما يعني بذلك الجماعة الأولى ؛ لأنَّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - همَّ بتحريق المتخلِّفين عنها .

فإذًا الجماعة الأولى هي الجماعة الواجب حضورها وليست الجماعات الأخرى التالية من بعدها ، حتى ولو سلَّمنا جدلًا أنها جائزة ، ولكن حاشا أن نتصوَّر هذا التصور ، الجماعة الأولى هي الواجبة ، والجماعات التي بعدها جائزة ؛ ضدان لا يجتمعان ؛ لأنَّ القول بجواز الجماعات التي تلي الجماعة الأولى يُناقض القول بوجوب الجماعة الأولى ؛ لأن الاعتقاد بشرعيَّة الجماعة الثانية فما بعدها يؤدِّي - كما يقولون اليوم - أتوماتيكيًّا إلى التساهل عن الجماعة الأولى ، وأكبر مثال على هذا من حيث الواقع ومن حيث النقل أنَّ الواقع اليوم أن المسلمين لا يتأخَّرون عن صلاة الجمعة ، من كان منهم عازمًا على صلاة الجمعة لا يتأخر عن صلاة الجمعة ؛ لماذا ؟ لأنه قد استقرَّ في ذهنه واعتقد في علمه أنه لا جمعة بعد الجمعة الأولى ، ولذلك فهو يحرص حتى مَن كان متساهلًا بالصلوات الخمس وحريصًا على صلاة الجمعة لا يُفوِّت صلاة الجمعة إطلاقًا ؛ لأنه لم يَقُمْ في نفسه ما يحمله على التهاون للجمعة ؛ لأنه يعلم أن لا جمعة إلا جمعة واحدة .

هذا دليل من حيث الواقع يدلُّنا على تأثير الرأي الخاطئ في صاحبه ، فلما قام في رأي كثير من الناس جواز الجماعة الثانية فما بعدها صرفتهم عن الاهتمام بأن تكون الصلاة مع الجماعة الأولى .

بينما لمَّا لم يَقُمْ مثل هذا الخطأ في أذهانهم تجاه صلاة الجمعة لم يكن لهم هذا التأثُّر الخاطئ ؛ فكلهم يصلون صلاة الجمعة في وقتها ، هذا من حيث الواقع .

مواضيع متعلقة