فائدة : إذا اتفق العلماء الأوائل على تلقي حديث ما بالقبول ؛ فلا يجوز لأحد من المتأخرين أن يضعِّفه لأنه قد خالف سبيل المؤمنين في ذلك . وردُّ شُبه أنه من الممكن أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نسيَ أو غيَّر أو بدَّل شيئًا بسبب سحره ! - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
فائدة : إذا اتفق العلماء الأوائل على تلقي حديث ما بالقبول ؛ فلا يجوز لأحد من المتأخرين أن يضعِّفه لأنه قد خالف سبيل المؤمنين في ذلك . وردُّ شُبه أنه من الممكن أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نسيَ أو غيَّر أو بدَّل شيئًا بسبب سحره !
A-
A=
A+
الشيخ : كذلك نقول نحن : إذا جاء الحديث وقد تلقَّته الأمة بالقبول بدون خلاف بينهم كأهل اختصاص في هذا العلم ، فلا يجوز لأحدٍ أن يأتي من بعدهم لِيُخالفهم فيقول : هذا الحديث ضعيف ؛ لأنه في ذلك يكون قد خالف سبيل المؤمنين ، فالمؤمنون اتفقوا على أحاديث ، واختلفوا في بعضها ، فما كان من القسم الأول ؛ فلا يجوز المخالفة ، بل المخالفة خروج عن سبيل المؤمنين ، إذا عُرف هذا فلا سبيلَ لإنكار حديث سحر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بمثل ذلك الاستدال الواهي بتسليط آية : (( والله يعصمك من الناس )) على معنى أن أحدًا من البشر لا يستطيع أن يُؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - إيذاءً بدنيًّا مادِّيًّا ؛ لأن ذلك أولًا معناه تخطئة الأمة في تلقِّيهم لهذا الحديث بالقبول ، وثانيًا سيلزم من ذلك ردُّ أحاديث كثيرة أشرنا إلى بعضها آنفًا ؛ كشجِّ وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكسر رباعيته يوم أحد ، - أيضًا - هذا حديث صحيح ؛ فهل يُردُّ بمثل : (( والله يعصمك من الناس )) ؟ الجواب : لا ، رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما يتعلَّق بطبيعته البشرية فهو كالبشر تمامًا ، وذلك هو صريح القرآن الكريم : (( قل إنما أنا بشر مثلكم )) ، فقط هذا ؟ لا ، إنما مُيِّز بقوله - تعالى - حكايةً عن قوله هو : (( يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد )) إلى آخر الآية ، ففيما يتعلق به - عليه السلام - بصفة كونه بشرًا هو كسائر البشر ؛ أي : يمرض ، يفرح ، يحزن ، يضحك ، يتبسم ، يبكي إلى آخره .

ولذلك ذكر الإمام الذهبي - رحمه الله - في ترجمة بعض الرواة حينما روى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حينما مات تغيَّر بعد موته بدنه ، أنكر ذلك في رواية بعضهم من الناحية العقلية ؛ قال : هذا لا يليق نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فردَّ الذهبي عليه أنَّ هذه الرواية إن صحَّت فما فيها شيء يُنافي عصمته - عليه السلام - ومنزلته عند ربِّه - تبارك وتعالى - ؛ لأنه بشر ، فيجري عليه كل أحكام البشر ، من ذلك أن اليهوديَّ سحره ، هذا السحر هنا ينبغي أن نقف قليلًا ؛ السحر يتوهَّم الكثيرون أنه أثَّر فيه - عليه السلام - ليس فيما يتعلَّق فقط في بشريَّته ، وإنما - أيضًا - فيما يتعلق بنبوَّته ورسالته ، نقول : حاشا ، ليس في الحديث ما يدلُّ على ذلك ، كلُّ ما في الحديث إنما هو في رواية أنه سُحر حتى كان يظنُّ أنه يأتي الشيء ولا يأتيه ، فتشبَّث بهذه الرواية بعضُ ذوي الأهواء الذين يحلو لهم الخروج عن جماعة المسلمين بأشياء يتوهَّمون أنهم يظهرون أمام الناس بأنهم من المحقِّقين ، وأنهم سبقوا الناس أجمعين إلى فكرة ما خطرت لهم في بال ؛ فيقولون : هذا يُنافي عصمته - عليه السلام - من ناحية التبليغ ، ويبنون على ذلك ما يقال علاليَ وقصورًا ، فنقول : ليس في هذه الجملة المتعلقة بهذا الحديث يأتي الشيء ولا يأتيه ؛ لأن المقصود به أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أثَّر فيه السحر في بدنه ؛ بحيث كان يريد أن يأتي زوجته كما يأتي الرَّجل أهله فلا يجد فيه قوَّة ، هذا يُسمَّى في بعض البلاد العربية بأنه " مربوط " ؛ تستعملون هذه العبارة ؟

الحضور : نعم .

الشيخ : مربوط يعني انهارت قوى الرسول - عليه السلام - وهو بلا شك كان أقوى الرجال ، والدليل على ذلك :

أولًا : مصارعته لرُكانة المرة الأول والثانية والثالثة .

وثانيًا : ما جاء في " صحيح البخاري " بهذه المناسبة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال : " كنا نتحدَّث بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أُوتي قوة ثلاثين " - أوتي قوة ثلاثين رجلًا ! - ، هذا الرجل المصطفى القوي أثَّر فيه السحر ، فكان يريد أن يأتي أهله ؛ فهو مربوط لا يستطيع أن يأتي أهله ، هذا كل ما وقع للرسول - عليه السلام - ، فهو تأثير بدني ، وليس تأثيرًا عقليًّا ؛ بحيث أنه يتصور الشيء على غير حقيقته .

ولذلك قلت مرَّة لبعض بني بلدي هناك في دمشق حينما تعرَّض لإنكار هذا الحديث على المنبر فردَدْتُ عليه بنحو هذ الذي تسمعونه مني الآن ، وكنت قلت له ما فيه علم زائد ودفع للشبهة من أصلها ، هم يقولون : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قيل إنه سُحر فتحنا باب للكفار من التَّشكيك بدين الإسلام ؛ لأننا إذا قلنا سحر يقول الكافر : طيِّب ؛ وما يدريكم أن هذا المسحور ادَّعى في حالة كونه مسحورًا أن الله - عز وجل - أوحى إليه بآية كذا ، وآية كذا ، وحكم كذا ، وحكم كذا ، وأنتم تظنُّون أن هذا من وحي السماء ، وهو مسحور ؟ فكان من جوابي عليه : ما تقول في النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : أهو بشر أما غير بشر ؟ طبعًا لا يسعه أن يقول إلا أنه بشر ، قلنا هذه واحدة . الثانية : أليس يجوز في البشر كبشر أن يكذبوا ؟ قال : نعم .

قلت : فإذًا الشبهة التي سلَّطتها على كون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بشرًا سُحر ترد على بشر لم يُسحر ؛ لأن البشر عادة يكذبون ، فما جوابك أنت تجاه هذه الشبهة لو طُرحت أمامك من ملحد أو كافر ؟ قال : أقول إنه بشر ، لكنه معصوم . قلت : إذًا هذا هو الجواب ، ثم تابعت الكلام معه ؛ البشر ينسون ؟ قال : نعم ، قلت : فماذا تُجيب فيما إذا ادَّعى ما يُدريكم أن نبيَّكم أوحي إليه بأشياء ثم نسيها ؟ وبخاصة أن في القرآن والسنة ما يؤكِّد هذا النسيان ؛ كمثل قوله - تبارك وتعالى - : (( سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله )) ؟ إذًا رسول الله ينسى ، وتأكَّد هذا بحديث البخاري أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دخل يومًا المسجد فسمع قراءة قارئ فقال : ( رحم الله فلانًا ، لقد ذكَّرني آيةً كنت أُنسيتها ) ، إذًا الرسول ينسى ، فما جوابك وأنت لا تستطيع أن تُنكر أولًا أن الرسول باعتباره بشر يمكن أن يكذب ؟ فأخذنا الجواب منك ، الآن باعتباره بشر لا يكذب ، ولكننا نعتقد بأنه بشر لا يكذب ، ولكنه ينسى ؛ ما جوابك ؟ قال : جوابي أن الله - عز وجل - حَفِظَه من أن ينسى شيئًا أُوحي به إليه ، أما أن ينسى شيئًا بلَّغه إلى الناس فلا ضير في ذلك ؛ كما جاء في حديث البخاري : ( رحم الله فلانًا لقد ذكَّرني ) سورة - عفوًا - آية ، ( لقد ذكَّرني آيةً كنت أُنسيتها ) .

ثم النسيان يتأكَّد بحوادث عديدة وقعت من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ كمثل حديث " الصحيحين " ؛ عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : " صلَّى يومًا الظهر خمس ركعات ، ولما سلم قيل : يا رسول الله أَزِيدَ في الصلاة ؟ قال : ( لا ) ، قالوا : صلَّيت خمسًا ، فسجد سجدتي السهو وسلَّم ، فقال : ( إنما أنا بشر مثلكم ؛ أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكِّروني ) ، إذًا هذا نصٌّ يؤكد ما جاء في القرآن والسنة السابقة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو من حيث نسيانُه كالبشر معرَّض للنسيان ، وكما في قصة ذي اليدين حيث صلَّى الرسول - عليه السلام - العصر ركعتين ، وفي رواية : أنه صلى الظهر ، لكن الرواية الراجحة هي : أنها العصر ، صلَّاها ركعتين ثم سلَّم ، وانتحى ناحيةً من المسجد ، ووضع اليمنى على اليسرى ، أو إحدى رجليه على الأخرى - هكذا مستريحًا - عليه السلام - - ، وفي القوم رجل يقال له : " ذو اليدين " ؛ يبدو أنه كان جريئًا فقال : يا رسول الله ، أَقصُرَت الصلاة ؟ قال : ( لا ) . قال : بلى يا رسول الله ، صلَّيت ركعتين . فنظر في القوم - وفيهم كبار الصحابة أبو بكر وعمر - وقال لهم : ( أَصَدَقَ ذو اليدين ؟ ) . قالوا : نعم . فعاد إلى مقامه ، فأتى بالركعتين ، ثم - أيضًا - سجد سجدتي السهو .

وقصة ثالثة : " صلى المغرب ركعتين وسلَّم ، فخرج سرعان الناس ، فقيل له : صليت ركعتين ، فأمرَ بالإقامة من جديد - إقامة الصلاة من جديد - ، ثم صلَّى بهم ، ركع وسجد سجدتي السهو " ، هذه النصوص كلُّها متضافرة على إثبات طبيعة النبي - صلى الله عليه وسلم - البشرية من حيث أنه ينسى ؛ فما جوابك - يا حضرة الشـيخ - فيما إذا أورَدَ علينا بعض الكفار أن النبيَّ أنتم تدَّعون إنه بشر وينسى ؟ فما يُدريكم لعله نسيَ حكمًا أو غيَّر أو بدَّل بسبب النسيان ؟ قال : نقول نحن إنَّه عصمه الله بعصمة النبوة ، قلنا : إذًا - الآن هنا الخلاصة - محمَّد - صلى الله عليه وآله وسلم - بشر ، وإن كان البشر عادةً يمكن أن يكذبوا ؛ فهو لا يكذب ؛ لأنه معصوم من الكذب بإجماع أمَّة المسلمين ، محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - بشر ينسى كما ينسى البشر ، وكما سمعتم صراحة في حديث ابن مسعود ، ولكنَّ الله مع ذلك حَفِظَه أن ينسى حكمًا شرعيًّا لا يبلِّغه إلى أمَّته ، كذلك محمد بشر يُسحر فحفظه الله - عز وجل - كما حفظه بشرًا مطلقًا ، وحفظه بشرًا ينسى ، فكذلك الله - عز وجل - يحفظه بنفس القاعدة التي رَدَدْنا الاحتمال الأول والثاني ، فنحن نردُّ عليكم احتمالكم الثالث ، وهو صادر منكم - مع الأسف ! - ، وليس صادرًا من الكفار أو المشركين ، بهذا يتم الجواب عن حديث سحر الرسول - عليه الصلاة والسلام - .

تفضَّل .
  • فتاوى جدة - شريط : 11
  • توقيت الفهرسة : 00:42:00
  • نسخة مدققة إملائيًّا

مواضيع متعلقة