صلاة الجماعة وفضلها . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
صلاة الجماعة وفضلها .
A-
A=
A+
الشيخ : الحديث الحادي عشر قال : وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في سوقه وبيته بضعًا وعشرين درجة ؛ وذلك أنَّ أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم أتى المسجد لا يريد إلا الصلاة ؛ لا يَنهَزُه إلا الصلاة ، لا يدفعه إلا الصلاة ؛ لم يخطُ خطوةً إلا رفع له بها درجة ، وحُطَّ عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد ، فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه ، والملائكة يصلُّون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلَّى فيه ؛ يقولون : اللهم ارحمه ، اللهم اغفر له ، اللهم تُبْ عليه ما لم يؤذِ فيه - في المسجد - ما لم يُحدِثْ فيه ) ، متفق عليه ، وهذا لفظ مسلم ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( يَنهَزُه ) هو بفتح الياء والهاء وبالزاي ؛ أي : يخرجه وينهضه .

في هذا الحديث بيان فضيلة صلاة الجماعة وليس هذا فقط ، وفضيلة الخطوات التي يخطوها لصلاة جماعة وليس هذا فقط ، بل والجلوس في المسجد ينتظر صلاة الجماعة ، في كلِّ هذه المقدمات بين يدي صلاة الجماعة هذه الفضائل وهذه الحسنات التي ذكرها - عليه الصلاة والسلام - ، أما صلاة الجماعة نفسها ففضلها سبع وعشرون درجة كما في بعض الأحاديث الصريحة ، وهذه تفسير للبِضع المذكور في هذا الحديث ؛ حيث قال - عليه السلام - : ( صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في سوقه ، في محلِّه ، في دكَّانه ، في متجره ، وفي بيته إذا صلى وحده بضعًا وعشرين درجة ) ، فالبضع هنا من حيث اللغة معلوم أنه ما دون العشرة ، فجاء تفسيره في حديث - أيضًا - من البخاري ومسلم سبع وعشرين درجة ، وهذا العدد لا يُنافي الرواية الأخرى خمس وعشرين درجة ؛ لأنه من القواعد المعروفة عند علماء الأصول وعلماء الحديث أنه دائمًا يؤخذ بالزائد فالزائد من الأحكام ومن الأخبار ، فالخمس والعشرون داخلة في السبع والعشرين ، وكل من العددين الخمس والعشرون والسبع والعشرون مفسِّر للبضع من الناحية العربية .

ولذلك فالذي ينبغي اعتقاده أن صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفرد سواء صلَّاها في البيت أو صلَّاها في السوق بسبع وعشرين درجة .

ولا بدَّ هنا من إلفات النظر إلى مسألة اختلف العلماء فيها قديمًا ، والذي جرى عليه السلف هو الذي يُحرِّر الخلاف ويرفعه ؛ ألا وهي فهم الجماعة التي لها هذه الفضيلة ؛ ( صلاة الرجل في جماعة ) ، وفي اللفظ الآخر : ( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذِّ بسبع وعشرين درجة ) ، صلاة الجامعة هذه هل هي كلُّ صلاة جماعة تُقام في كل مسجد وفي أيِّ وقت أم إنها جماعة واحدة لا تتكرَّر ولا تتعدَّد ؟ مسألة فيها خلاف ، والذي يترجَّح عندما تُراجَع أدلة المسألة أن الجماعة التي لها هذه الفضيلة إنما هي الجماعة الأولى والتي تصلَّى وراء الإمام الراتب ، فلا يكفي فقط أن تكون جماعة أولى ؛ فقد يأتي جماعة إلى المسجد على عجل ويفتاتون ويتقدَّمون ويعتَدُون على الإمام الراتب فيصلُّوا جماعة ثم يدبرون ، ثم تقام صلاة الجماعة النظامية الرسمية ، فلا تكون الجماعة هذه هي الأولى وهي التي لها هذه الفضيلة ؛ لأنها جماعة باغية معتدية على الجماعة الراتبة ، فالجماعة التي لها هذه الفضيلة إنما هي الجماعة الأولى والجماعة المقَيَّدة بالإمام الذي جُعِل إمامًا لهذا المسجد .

فهذه الجماعة الأولى هي التي لها هذه الفضيلة سبع وعشرون درجة ، فليست هي الأولى التي تتقدَّم الجماعة الراتبة ولا هي الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو أكثر من ذلك التي تتأخَّر عن الجماعة الراتبة ، والدليل على هذا التقييد هو واقع الحياة العملية الجماعية في عهد النبوة والرسالة وفي عهد السلف الصالح .

فقد جاء في " مصنف ابن أبي شيبة " من رواية الحسن البصري - رحمه الله - أنه قال : " كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا دخلوا المسجد فوجدوا الإمام قد صلى صلَّوا فُرادى " ، وإلى هذه الرواية أشار الإمام الشافعي - رحمه الله - الذي بسطَ القول في هذه المسألة بسطًا لا نكاد نجده في كتاب آخر من المتقدمين ؛ فقد قال في الجزء الأول من كتابه " الأم " : " وإذا دخل جماعة المسجد فوجدوا الإمام قد صلى صلوا فرادى ، وإن صلوا جماعة أجزأتهم صلاتُهم ، ولكني أكره ذلك ؛ لأنه لم يكن من عمل السلف ، وقد كانوا قادرين على أن يجمِّعوا مرَّة أخرى ، ولكنهم لم يفعلوا ؛ لأنهم كرهوا أن يُجمِّعوا في مسجد مرتين " ، فهذا النقل العام من الحسن البصري عن الصحابة الكرام أنهم كانوا لا يعدِّدون الجماعة في المسجد يُعطينا صورة الحياة التي كانوا يَحيَونَها في مساجدهم من حيث الصلاة جماعة ؛ وهي أنهم كانوا حريصين على المحافظة على الجماعة الأولى ، فإذا ما فاتتهم لعذرٍ ما فضلًا عن غير عذرٍ صلّوا فرادى .

وهذا الذي يدل عليه أحاديث مرفوعة للنبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ولكن بشيء من الاستنباط والتأمل ، من ذلك حديث أبي هريرة - أيضًا - الذي أخرجه البخاري ومسلم في " صحيحيهما " قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( لقد همَمْتُ أن آمر رجلًا فيصلي بالناس ، ثم آمر رجالًا فيحطبوا حطبًا ، ثم أخالف إلى أناسٍ يَدَعونَ الصلاة مع الجماعة فأحرِّق عليهم بيوتهم ، والذي نفس محمد بيده ؛ لو يعلم أحدهم أنه يجد في المسجد مرماتَين حسنتَين لَشَهِدَها ) - يعني صلاة العشاء - .

في هذا الحديث دلالة صريحة في تحريم التخلف عن صلاة الجماعة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - همَّ بتحريق بيوت المتخلِّفين عنها ، هذا واضح وليس لنا كلام فيه ، وإنما الكلام فيما نحن فيه في صدده الآن ؛ ألا وهو تكرار الجماعة ؛ فما علاقة هذا الحديث بعدم مشروعية تكرار الجماعة ؟

لنتصور الأمر الواقع اليوم في كثير من مساجد المسلمين من التكرار والتعدُّد ؛ تُرى هذا الوعيد الصريح في هذا الحديث على أيَّة جماعة ينصَبُّ لو افترضنا أن هناك جماعات كثيرة ؟ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لقد همَمْتُ - طبعًا تلخيص الحديث - أن أحرِّق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعة ) ؛ فلو أن الرسول - عليه السلام - فعلًا باشر التحريق ، وخالف أولئك الجماعة في بيوتهم ، وهمَّ بالتحريق ، ما هذا يا رسول الله ؟ إنَّكم تتأخرون عن صلاة الجماعة ، لا يا رسول الله ؛ نحن نصلي مع الجماعة الثانية ، مع الجماعة الثالثة ، مع الجماعة الخمسين ؛ أتكون حجَّة الرسول حينَ ذاك قائمة على هؤلاء المتخلِّفين أم الأمر بالعكس ؟

إذا لاحظنا هذا نفهم أن هذه الحُجَّة النبويَّة لا تكون قائمة على المتخلِّفين عن صلاة الجماعة إلا إذا استحضرنا تلك الحقيقة التي أنبأنا بها الحسن البصري أولًا ، ثم أيَّده الإمام الشافعي في كلامه السابق آنفًا ، وإلا أُبطِلَتْ حجة الرسول - وحاشا من ذلك ! - ؛ بأن يقول قائلهم : يا رسول الله ، إن فاتتنا الصلاة معك فسنصلي - مثلًا - مع معاذ في مسجده ، سنصلي مع أبيِّ ، سنصلي مع فلان ممَّن نفترض أنهم كانوا يعدِّدون الجماعة في المسجد كما هو الشأن اليوم في المساجد الكبيرة والصغيرة ، أو يمكن أن يُقال أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم : صحيح أنه فيه هناك جماعات عديدة ؛ لكن أنا يَهُمُّني الجماعة الأولى من بين كل الجماعات ، هذا ممكن أن يقوله قائل - أيضًا - ، وسواء كان الاحتمال الأول أو الاحتمال الآخر فالحجَّة قائمة على أن المسلم حينما يسمع نادِيَ الله يقول : " حي على الصلاة ، حي على الفلاح " فإنما يعني بذلك الجماعة الأولى ؛ لأنَّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - همَّ بتحريق المتخلِّفين عنها .

فإذًا الجماعة الأولى هي الجماعة الواجب حضورها وليست الجماعات الأخرى التالية من بعدها ، حتى ولو سلَّمنا جدلًا أنها جائزة ، ولكن حاشا أن نتصوَّر هذا التصور ، الجماعة الأولى هي الواجبة ، والجماعات التي بعدها جائزة ؛ ضدان لا يجتمعان ؛ لأنَّ القول بجواز الجماعات التي تلي الجماعة الأولى يُناقض القول بوجوب الجماعة الأولى ؛ لأن الاعتقاد بشرعيَّة الجماعة الثانية فما بعدها يؤدِّي - كما يقولون اليوم - أتوماتيكيًّا إلى التساهل عن الجماعة الأولى ، وأكبر مثال على هذا من حيث الواقع ومن حيث النقل أنَّ الواقع اليوم أن المسلمين لا يتأخَّرون عن صلاة الجمعة ، من كان منهم عازمًا على صلاة الجمعة لا يتأخر عن صلاة الجمعة ؛ لماذا ؟ لأنه قد استقرَّ في ذهنه واعتقد في علمه أنه لا جمعة بعد الجمعة الأولى ، ولذلك فهو يحرص حتى مَن كان متساهلًا بالصلوات الخمس وحريصًا على صلاة الجمعة لا يُفوِّت صلاة الجمعة إطلاقًا ؛ لأنه لم يَقُمْ في نفسه ما يحمله على التهاون للجمعة ؛ لأنه يعلم أن لا جمعة إلا جمعة واحدة .

هذا دليل من حيث الواقع يدلُّنا على تأثير الرأي الخاطئ في صاحبه ، فلما قام في رأي كثير من الناس جواز الجماعة الثانية فما بعدها صرفتهم عن الاهتمام بأن تكون الصلاة مع الجماعة الأولى .

بينما لمَّا لم يَقُمْ مثل هذا الخطأ في أذهانهم تجاه صلاة الجمعة لم يكن لهم هذا التأثُّر الخاطئ ؛ فكلهم يصلون صلاة الجمعة في وقتها ، هذا من حيث الواقع .

ومن حيث النقل لقد وجدنا مع حديث أبي هريرة السَّابق الذي يقول في طرفه الأول : ( لقد همَمْتُ ) - استوصِ بجارك خيرًا - لقد وجدنا مع حديث أبي هريرة السابق : ( لقد همَمْتُ أن آمر رجلًا فيصلي بالناس ) إلى آخر الحديث الذي فيه : ( لَشَهِدَها ) - يعني صلاة العشاء - ، وجدنا مع هذا الحديث حديثًا يشبهه في صلاة الجمعة يرويه الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث عبد الله بن مسعود ، قال - عليه الصلاة والسلام - : ( لقد همَمْتُ أن آمر رجلًا فيصلي بالناس صلاة الجمعة ، ثم أحرِّق على أناس بيوتهم يتخلَّفون عن صلاة الجمعة ) ، فمثل ما قال الرسول - عليه السلام - في صلاة الجماعة قال مثله تمامًا في صلاة الجمعة .

وهذا يدلُّنا عل شيئين اثنين ، الشيء الأول أن صلاة الجماعة فرض مثل صلاة الجمعة ، طبعًا المثليَّة هنا ليس من الضروري أن تكون بالمائة مائة ؛ لأنُّو زيد مثل الأسد يعني من زاوية معيَّنة ، ولذلك فأنا أعني أنُّو صلاة الجماعة مثل صلاة الجمعة من حيث الفرضية ، لكن الفرضية درجات ، هذا ما يدلُّ عليه الحديث أولًا ، وثانيًا كما أن صلاة الجمعة لا تتكرَّر في المسجد الواحد ولذلك همَّ بتحريق المتخلفين عنها ؛ فكذلك صلاة الجماعة لا تتكرَّر ولذلك همَّ بتحريق المتخلفين عنها .

من هنا اتفق الأئمة الأربعة على عدم شرعية الجماعة الثانية ، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية عنه ، اتفقوا كلهم على أن الجماعة الثانية غير مشروعة ، ويُطلق الحنفية الكراهة عليها وإنما يعنون الكراهة التحريمية ، لكن نصُّوا وبخاصَّة منهم الإمام الشافعي على أن المسجد الذي تُكره فيه تكرار الجماعة هو المسجد له إمام راتب ومؤذِّن راتب ؛ لأن تحقُّق هاتين الصِّفتين في المسجد هو الذي يجمع المسلمين في ذاك المسجد ؛ الإمام والمؤذن ، أما مسجد على قارعة الطريقة ليس له مؤذن يدعوهم ، وليس له إمام يجمعهم ؛ فلا تُكره تكرار الجماعة في هذا المسجد ، والفرق واضح جدًّا ، وهو الذي رمى إليه هؤلاء العلماء والفقهاء ؛ ذلك أن تكرار الجماعة في المسجد له إمام راتب ومؤذِّن راتب عاقبة ذلك تفريق الجماعة ، وما سُمِّيت صلاة الجماعة إلا للتجميع ، فأيُّ عملٍ عارض المقصد من شرعية الجماعة وهو تفريق الجمع يكون طبعًا مخالفًا للشرع ، ولذلك فلا يُشرع اتِّخاذ أيِّ سبب أو أيِّ وسيلة يؤدي إلى تفريق الجماعة الأولى .

أما المسجد الذي ليس له إمام راتب ولا مؤذِّن راتب فليس هناك جماعة تُفرَّق ، بل على العكس من ذلك ؛ هناك جماعات تُجمَّع ، كمثل - مثلًا - عيلة في الدار يُصلي جماعة منهم وناس منهم آخرون مشغولون أو غائبون ، ثم يعودون إلى الدار ؛ فيصلون جماعة ثانية ؛ لا أحد يقول بكراهة ذلك ؛ لأنه لا يفضي إلى تفريق جماعة منتظمة .

لذلك قال أولئك العلماء بأن هذا الحكم حكم كراهة تكرار الجماعة إنما يختصُّ بالمسجد له إمام راتب ومؤذِّن راتب .

فإذًا حينما نسمع الأحاديث التي تُبيِّن أن صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة فلا ينبغي أن نفهم لفظة " الجماعة " أو بعبارة أدق أن نفهم أن " الـ " في الجماعة للاستغراق والشمول ، وإنما هي للعهد ، فنقول : صلاة الجماعة هي الجماعة الأولى ، وبالشرط السالف ؛ ما تكون جماعة معتدية على الجماعة الراتبة ، فصلاة الجماعة هي الجماعة الأولى ؛ فـ " الـ " هنا ليست للاستغراق والشمول ، وإنما هي للعهد .

من أجل هذا الحديث وأمثاله نقول : يجب أن تُفسَّر نصوص الشريعة وأقوال الرسول - عليه الصلاة والسلام - على ضوء الواقع والحياة النبوية الكريمة ؛ فلا يجوز أن نأتي إلى نصٍّ مُطلق فنُطبِّقه نحن اليوم على إطلاقه ؛ مع أنَّنا نعلم أنه لم يُطبَّق في عهد النبوة والرسالة على إطلاقه ... .

مواضيع متعلقة