قصَّة الورقة الضَّائعة . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
قصَّة الورقة الضَّائعة .
A-
A=
A+
الحويني : طيب ؛ نحن كنا توقَّفنا في المرة الماضية على الورقة .

الشيخ : الورقة الضائعة .

الحويني : الورقة الضائعة ، - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته - .

الشيخ : - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته - .

سائل آخر : - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته - .

الشيخ : ألا يكفي أن أُحيلك على الكتاب الذي صار في ملكك ، أم لا بد أن تسمع من فمي ؟

السائل : إي نعم .

الشيخ : هكذا ترغب ، الحقيقة أنني كنت أُصبت بعرض في عيني اليمنى ، كنت إذا نظرت إلى الجدار الأبيض فأرى خيال شيء في عيني كالذبابة يتحرَّك ، ولما عرضت نفسي على الطبيب قال : هذا يسمَّى عندهم بالذبابة الطائرة ، وهذا عبارة عن عرق دقيق متفسِّخ ، وخرج منه قطرة دقيقة جدًّا من الدم ، فنزل على العين ، فهي التي تراها تذهب وتجيء ، فسألني : ما عملك ؟ قلت له : ساعاتي . قال : هذا هو ، وجاءك هذا من التعب . فبيَّنت له واقعي أنُّو ساعاتي ومُطالع كثيرًا ، فطلب مني الراحة مقدار ست أشهر ، وبعض القطرات والعلاجات .

فرجعت إلى دكاني وبدأت أجلس في الدكان ، لا أعمل شيئًا لا في المهنة ولا في القراءة والمطالعة ، مضى عليَّ نحو أسبوع وأسبوعين ، بدأ الملل يتسرَّب إليَّ ، فأخذت أمنِّي نفسي وأعلِّلها بشتى التعليلات ، وخطر في بالي أن في المكتبة الظاهرية مجموع لرسائل عديدة إحداها في " ذم الملاهي " لابن أبي الدنيا ، فخطَّطت في ذهني أن أكلِّف الخطاط هناك النَّسَّاخ أن ينسخ هذه الرسالة ، ولبينما ينتهي من النسخ بكون أنا استجممت واسترجعت شيء من راحتي وسلامة عيني .

وذهبت إلى المكتبة الظاهرية وكلَّفت صاحبنا هذا في أن ينسخ الرسالة ، وبدأ فعلًا ، لما وصل إلى منتصفها جاء إليَّ ليقول أن الرسالة فيها خرم فيها نقص ، فذهبت إلى هناك إلى المكتبة اطَّلعت على الرسالة فعلًا فيها نقص ، قلت له : امضِ في سبيلك ، ويخلق الله ما لا تعلمون ، انتهى الرجل من نسخ الرسالة ، وكان - كما يقولون - عقلي الباطن يشتغل ليلًا نهارًا في البحث أين ذهب هذا النقص ، فافترضت أن هذه الرسائل لما جُمعت في هذا المجلد كغيره من المجلدات ربما سقط من المُجلِّد لهذا المجلَّد الورقة أو الورقتان المفقودتان ، فخيَّطها في مجموع آخر ، فإذًا لا سبيل إلا للبحث في المجاميع الموجودة في المكتبة الظاهرية ، وكتب المكتبة الظاهرية المخطوطة هي مرتبة على العلوم كان هو النظام العام في كل مكاتب الدنيا ، إلا أن هناك نحو 150 مجلدًا تُسمَّى بالمجاميع ، وهو اسم على مسمَّى ؛ لأنُّو كل مجمَّع يجمع عديدًا من الرسائل مختلفة النظام والترتيب والمواضيع ، ولذلك وضعوها تحت عنوان المجاميع ، فقلت في خاطري الأحسن البدء بهذه المجاميع ، فبدأت ، ثم مما ييسر البحث أن هذه المجاميع كما أنَّها مختلفة المواضيع والمؤلفين فهي مختلفة نوعية الورق - أيضًا - ، فتجد شيء طويل وشيء قصير وشيء أبيض وشيء رمادي وشيء أزرق أحيانًا وهكذا ، فمن السهل أنُّو الإنسان يقلِّب هذه المجاميع ، هذا كله كان يسهِّل لي طريقة البحث .

فبدأت مجلد أول ثاني ثالث ما عاد أذكر بالضبط وإذا بي أعثر على عنوان رسالة ؛ والله هذه رسالة مهمَّة ، لكن أجد الجزء الثاني ، لو كان الجزء الأول كان كمل الأمر ، وكنت أسجله عندي لَيومًا ما ننسخه ونستفيد منه ، فلما أجد الجزء الثاني أو الثالث أعرض عنه ، ومضيت بعد عديد من المجلدات وإذا بي أعثر على المجلد الأول لرسالة من تلك الرسائل ؛ فأتحسَّر وأندم وأقول ليتني كتبت عنوان ورقم الجزء الثاني وهَيْ الجزء الأول ، إذًا أخذتها عبرة فبدأتت أسجِّل أيَّ شيء يعجبني ولو كان ناقصًا ، وتلاحظ هنا بأنُّو كنت في شيء وصرت في شيء آخر ، كنت أبحث عن ورقة الضائعة وإذا أنا الآن أسجل العناوين اللي هي كنوز تُعتبر ، ولو كانت يعني غير تامة ، فالمهم انتهيت من 150 مجلد وما حصَّلت على الورقة الضائعة ، لكني خرجت بربح كبير جدًّا من الناحية العلمية .

فقلت في نفسي : لا بد أن تتمَّ مسيرتك هذه ؛ وذلك بالبحث عن الورقة في مجلدات الحديث ، ومجلدات الحديث عندنا في المكتبة الظاهرية أكثر من 500 مجلد ، فبدأت أبحث ، وهنا البحث عن الورقة الضائعة أسهل بكثير ؛ لأن المجاميع تبقى صغيرة الحجم من حيث الطول والقصر ، أما موضوع علم الحديث فيه أكثرها كبيرة ، والورقة الضائعة قصيرة ، لكن أنا دخلت في بحث آخر وهو يعني التحصيل على مثل هذه المواضيع والكتب النفيسة ، بدأت آخذ عناوين ولو كان كتاب مجلد كبير ، وأسجل عندي في مسودات ، وانتهيت من 500 مجلد دون أن أعثر على الورقة الضائعة .

وكما يقولون عندنا في الشام : " بلا طول سيرة " - يعني باختصار - : أتيتُ على كل المخطوطات الموجودة في المكتبة الظاهرية ، وأنا طامع أنُّو لعله في العلم الفلاني لعله لعله ؛ لأنُّو قضية خطأ من المُجلِّد ، فأتيت على كتب السيرة وكتب التاريخ كتب الأدب كتب التصوف ، فالكل هذول اللي فيها من الكتب مخطوطة ، ويسَّر الله - عز وجل - لي هذا البحث بحيث لا يتيسَّر إلا لموظَّف رسمي مكلَّف ، وصل التيسير إلى درجة أنني كنت أضع السُّلَّم على الخزائن ، لأنُّو الرفوف عالية لا تطولها اليد ، فأقف على السلم ، والرَّف - مثلًا - طوله متر ، أبدأ من هنا أسحب أنتهي من هنا وأنا على السلم ، إذا وجدت شيئًا نفيسًا نزلت وسجَّلته ، ثم تابعت مسيرتي ، وهكذا مررت على المكتبة كلها وما عثرت على الورقة الضائعة ، لكني شاعر بأني أنا الرابح ، صار عندي مئات الأسماء والعناوين من الكتب النفيسة .

في الأخير أعلم عندهم شيء يسمَّى بـ " الدَّست " أو " الدَّشت " لغة ، وهي عبارة عن أوراق مكدَّسة في خزائن ما أحد يتردَّد عليها أو يمد يده إليها ، فسألت الموظف المختص ، وكان يعني ممن يسَّره الله لخدمتي العلمية ، وكان يتجاوب معي ، قلت له : يا أبو مهدي ، وين الدشت هذا ؟ قال لي : هَيْ ورَّاني خزانتين ثلاثة ، فأخذت أبحث في هذه الورقة الفلتانة فما وجدت شيئًا ، لكني وجدت - أيضًا - نفائس ، ومنها عندنا في المكتبة الظاهرية نسختان من " مسند الشهاب " للقضاعي ، وكلتاهما ناقصتان ؛ إحداهما شرقية والأخرى مغربية ، والمغربية خطُّها مغربي جميل جدًّا ومعتنى بها من بعض الحفَّاظ أهل الحديث ، ومكتوب بجانب كثير أن لم أقل كل الأحاديث : ضعيف أو موضوع إلى آخره ، لكن ينقص منها الكرَّاس الأول ، والنسخة الأخرى مشرقية ما لنا ولها الآن ! وإذا بي أُفاجئ بهذا " الدشت " وجدت الكرَّاس الناقص من النسخة المغربية ، وبذلك تمَّت النسخة النفيسة ، فأخذتها فرحًا مسرورًا وانطلقت إلى المدير المسؤول عن المخطوطات ؛ قلت له : هذا الكرَّاس من " الدشت " ، وهذا هو الكتاب الموضوع عندكم في الفهرس أنه مجهول الهوية لا يُعرف مين المؤلف ومين إيش الكتاب ، فقلت له : هذا هو الكتاب والمؤلف ، وما اهتم في ذلك ؛ لأنُّو كما يقولون في الشام : " كلٌّ مين يغني على ليله !! " ، وأنا بهمني هذا البحث هو ما بهمُّه .

ثم دارت السنين والأيام وإذ به أخونا عبد المجيد السلفي يقوم بطباعة تحقيق هذا الكتاب من هذه النسخة ، وشيء بالشيء يُذكر حتى تعرف طبائع الناس ؛ طبع الكتاب " مسند الشهاب " للقضاعي في المكتب الذي يعمل فيه شعيب .

الحويني : مؤسسة الرسالة .

الشيخ : نعم ؟

الحويني : مؤسسة الرسالة .

الشيخ : مؤسسة الرسالة ، فأنا كنت كتبت للتاريخ على هذا الكرَّاس : استخرجه من " الدشت " ناصر ، كلمة ناصر فقط ، فهو ماذا فعل ؟ وضع ورقة وغطَّى هذه الحقيقة ، والآن تجد صورة للعنوان الرئيسي لهذا الكتاب في " مسند الشهاب " التي حقَّقها أخونا حمدي ومطموس على هذه الحقيقة العلمية ، ما الذي دفعه لذلك ؟ الجواب تعرفه !

الشاهد : هذا من النفائس التي حصَّلت عليها في هذا البحث ، وأخيرًا يئست من الحصول على الورقة الضائعة ، لكن ما ندمت أبدًا ؛ لأن الميسَّر كان أكبر مما أتصور ، المهم رجعت فيما بعد إلى الأسماء التي كنت سجَّلتها لهذه المؤلفات والمؤلفين فكتبتها من جديد على بطاقات ، ورتَّبت البطاقات على أسماء المؤلفين كل مؤلف وما له .

السائل : هذا مجهود لك لنفسك فردي يعني ؟

الشيخ : طبعًا طبعًا ، أنا ما عملت يومًا موظَّفًا في دائرة من الدوائر ، وهذا من فضل الله عليَّ ، ثم بعد أن انتهيت من ترتيب هذه القصاصات على أسماء المؤلفين رتَّبت المؤلفات على الترتيب الهجائي ، وكان من ذلك " فهرس لمنتخبات لمخطوطات المكتبة الظاهرية " ، ثم جاءت المرحلة الأخيرة وهي الثمرة المباركة من ذلك الجهد الأول ، فبدأت أقرأ هذه المخطوطات وأستخرج منها الفوائد الحديثية بأسانيدها ، وعندي الآن وهي التي تُساعدني على تغذية مشاريعي العلمية نحو 40 مجلد ، فيها الأحاديث التي استخرجتها من هذه المخطوطات بأسانيدها ، ورتَّبتها لتيسير المراجعة - أيضًا - على الحروف الهجائية ، فهذا مختصر عن قصة الورقة الضائعة ، ولكي لا نضيِّع شيئًا من الوقت في ... منشوف إيش عندك من سؤال آخر .

مواضيع متعلقة