هل أساليب الدعوة توفيقية أم اجتهادية ؟ وما ضابطها ؟ - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
هل أساليب الدعوة توفيقية أم اجتهادية ؟ وما ضابطها ؟
A-
A=
A+
السائل : بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيِّدنا ونبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ أما بعد :

فضيلة الشيخ - حفظكم الله - ، يقول السائل : هل أساليب الدعوة توفيقية أم اجتهادية ؟ وما ضابطها ؟ واضرب لنا أمثلة على ذلك وجزاكم الله خيرًا ؟

الشيخ : بسم الله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

فقد ذكرت في كلمتي السابقة طريقًا يمكن الاعتماد عليه جوابًا عن هذا السؤال ؛ ألا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( ما تركت شيئًا يقرِّبكم إلى الله إلا وأمرتُكم به ، وما تركت شيئًا يبعِّدكم عن الله ويقرِّبكم من النار إلا ونهيتُكم عنه ) ، فلا شك أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد جاءنا بشريعة كاملة ، لا تحتاج لأحد أن يستدرك عليها شيئًا ، ولكن يمكن أن يُقال بأن تمام الشريعة ليست في تفاصيلها ودقائق أحكامها كما هي في قواعدها وفي أصولها ، فإن الأولى والقواعد التي جرت في الشريعة يُشكل على الباحث أن يجتهدَ دائرة الاستنباط والإتيان ببعض الأمور التي لم تكن معروفة من العهد الأول ، وقد تكلمت منذ عهد قريب في ... هذا المجلس المبارك - إن شاء الله - على ما يسمَّى عند العلماء بـ " المصالح المرسلة " ، فهذه المصالح المرسلة هي أمور حدثت بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم تكن معروفةً في ذلك العهد الأوحد الأول ، وإنما حدثت فيما بعد ؛ فهل هذه الأمور الحادثة تدخل في عموم ما ذكرتُه في الجلسة السابقة بعد صلاة العصر ؛ ألا وهو قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) ؛ أي : يمكن أن يكون في بعض هذه الأمور الحادثة ما يمكن الأخذ بها والعمل بها وإن لم تكن موجودةً معروفةً من قبل ، وهذه النقطة في الحقيقة من دقائق الفقه وأصول البدعة ؛ فإن الأصول المعروفة والمذكورة عند العلماء وطلاب العلم إنما هي أصلان فقط ؛ أصول الحديث وأصول علم الفقه ، ولكن الناس بعض العلماء المتأخِّرين واعتمادًا على مثال جديد في أصول البدعة ألَّف رسالةً كتيِّبًا أسماها " أصول البدع " .

والحق - الحق أقول - : إن إتقان هذا العلم ... يساعد الفقيه على التمييز بين ما كان بدعةً ضلالةً داخلةً في عموم ذلك النَّصِّ النبوي الكريم ، وبين ما كان من المصالح المرسلة التي يقول ... الأمر بها كثير من العلماء وعلى مقدِّمتهم وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ، ولدقة الأمر ولإمكان اختلاط هذا الحادث بأن يكون بدعة ضلالة وبين أن يكون مصلحة مرسلة هنا تكمن الدِّقَّة المتناهية ، وقد فصَّل القولَ في ذلك ابن تيمية - رحمه الله - ليكون الباحث على بيِّنةٍ من الأمر ؛ يقول - رحمه الله - : إذا حدثت حادثة نُظِرَ في الباعث على إحداثها ؛ فإن كانت الباعث على ذلك كان قائمًا في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ثم لم يأخذ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بمثل ذلك الأمر الحادث ، مع وجود المقتضي للأخذ به أو على ... لتشريعه ؛ فما دام أن المقتضي كان موجودًا في عهده - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يأخذ بالمقتضى منه ؛ فذلك دليلٌ على أن الأخذ به إذا وُجد فهو بدعة ضلالة داخل في عموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) .

ومن الأمثلة الواضحة البيِّنة في ذلك الأذان لصلاة العيدين ، فلو أن أحدًا عمل أو خطر بباله أن يتَّخذ الأذان المعروف وسيلةً للإعلام بدخول وقت صلاة العيد لن يُقبل ذلك منه ؛ لأنه قد كان المقتضي لتشريع أو ... مثل هذا الأذان في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومع ذلك لم يكن ذلك مسنونًا ، فمَن سنَّ ... بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أذانًا لغاية الإعلان يكون مُحدثًا ومُبتدعًا ، ومعنى ذلك أنه يكون مستدركًا على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - و ... بلسان حاله ولسان الحال كما يُقال أنطق من لسان المقال ؛ فلذلك جاء عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رضي الله عنه - أنه قال : " من ابتدعَ في الإسلام بدعةً يراها حسنة ؛ فقد زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - خان الرسالة ، اقرؤوا قول الله - تبارك وتعالى - : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا )) " ، قال - رحمه الله - : " ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلحَ به أولها ؛ فما لم يكن يومئذٍ دينًا لا يكون اليوم دينًا " .

إذًا التقرُّب إلى الله - عز وجل - بتشريع عبادة لم تكن في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مع وجود المقتضي بكونها شريعةً في عهده هو عين الابتداع في الدين ، وليس له علاقة بـ " المصالح المرسلة " ؛ هذا إذا كان المقتضي بالأخذ بتلك المصلحة قائمًا في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - .

ثم يتابع شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فيقول : وإن لم يكن المقتضي قائمًا في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نُظِرَ إن كان هذا المقتضي بالأخذ بتلك الوسيلة سببه إهمال المسلمين لبعض الأحكام الشرعية ؛ فهذا الإهمال هو الذي كان سبب للإتيان بوسيلة أخرى لم تكن في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نتج من عدم الأخذ ممَّا كان في السنة هذه المصلحة فحينئذٍ لا يجوز الأخذ بها ؛ لأن المقتضي لها سببه هو تقصير المسلمين في القيام ببعض أحكام دينهم .

من الأمثلة على ذلك ما هو واقع في كثير من البلاد الإسلامية من الضَّرائب التي أثقلت كاهلَ أكثر الشعوب المسلمة ، ففرضُ هذه الضرائب كمصلحة لإملاء خزينة الدولة ؛ هذا بلا شك مصلحة ، ولكن هذه الضرائب ما الذي أوجَدَها ؟ عدم القيام بالوسائل الشرعية التي سنَّها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهي جمع الأموال المختلفة المذكورة في بعض كتب علماء الحديث ، ككتاب " الأموال " لأبي عبيد ، وكتاب " الأموال " لابن زنجويه ، وغيرهما من العلماء الذين فصَّلوا القول تفصيلًا في الأموال التي يجب جمعُها ، وأن تكون مجهَّزةً لخزينة الدولة لتقومَ بمصالح المسلمين سواء ما كانت عامة أو عالية أو كانت طارئة ، فإذا أخذ المسلمون بهذا الشرع الذي سنَّه الرسول - عليه الصلاة والسلام - أغناهم عن فرضِ وسائل لجمع أموال وإملاء خزينة الدولة بها ؛ ففي هذه الصورة لا يجوز فرضُ نظم أو فرض وسائل على المسلمين ، فإن كان المقتضي لفرضها قائمًا ولكن السبب لذلك إنما هو إهمالهم نظام فرض الزكاة مثلًا .

أما - وهذا آخر البحث في المصالح المرسلة - أما إذا كان المقتضي لفرض نظام جديد ووسيلة جديدة لم تكن معهودةً في عهد النبي ... هذا المقتضي لم يكن سببه إهمال المسلمين فيما ذكرنا من بعض أحكام الدين ؛ فهنا ما دام أن هذه المصلحة تحقِّق غايةً شرعيَّة لا تخالف الشريعة بوجهٍ من الوجوه ففي هذه الحالة يجوزُ الأخذ بهذه الوسيلة ، وهي تدخل في باب المصالح المرسلة .

مثاله : بنفس المثال السابق ؛ إذا فرضنا أن الدولة قامت بواجب جمع الأمول من الطرق المشروعة كالزكوات - مثلًا - ... ونحو ذلك ، ثم طرأ طارئ أو هجمَ عدوٌّ على بلاد المسلمين ، و ... القائمون على بيت مال المسلمين فوجدوا أن هذه الأموال التي كانت تُجمع بالطرق المشروعة غير كافية لردِّ صائلة هذا العدو ؛ ففي هذه الحالة يجوز للحاكم المسلم أن يفرضَ ضرائب جديدة لدفع ذلك العدوِّ عن بلاد المسلمين ، فإذا ما رُدَّ على أعقابه رُفعت هذه الضرائب ؛ لأنها كانت عارضةً لدفع ذلك العدوِّ ... .

إذا عرفنا هذا التفصيل المتعلِّق بالمصالح المرسلة عرفنا حينَ ذاك التمييز بين البدعة الضَّلالة وبين المصلحة التي يجوز الأخذ بها وهي بهذه الدقة المتناهية ... .
  • رحلة النور - شريط : 39
  • توقيت الفهرسة : 00:25:05
  • نسخة مدققة إملائيًّا

مواضيع متعلقة