الطريقة من تلقي الأسئلة والإجابة عليها وفق الكتاب والسنة . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
الطريقة من تلقي الأسئلة والإجابة عليها وفق الكتاب والسنة .
A-
A=
A+
السائل : فكما جرت العادة في لقاءاتنا المتعدِّدة التي نقيمها ، فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، وهو من المكانة والمعرفة بغنى عن التعريف ، وهذه الزيارة التي يزور فيها البلاد بدعوة من جمعية إحياء التراث الإسلامي ، و - إن شاء الله - في هذه الليلة سنسمع منه ما يفيدنا ، ونرجو الله - عز وجل - أن نكون طلبة علم بأسلوب السؤال والجواب كأسلوب من أساليب طلب العلم ، ثم بعد ذلك التركيز على علم الحديث وطلبه ، وكما جرت العادة بعد هذه الكلمة نأخذ الأسئلة المكتوبة على ورق ، ثم يتم الجواب عليها ، فليتفضَّل الشيخ .

الشيخ : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله ، (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) ، (( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالًا كثيرًا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا )) ، (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا )) ، أما بعد :

فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، وبعد :

فقد خطر في بالي في هذه الليلة أن أقدِّم بين يدي الأسئلة والأجوبة عليها كلمةً أرجو أن لا تكونَ طويلة في بيان أنَّ هذه الطريقة التي جرينا عليها منذ أن فقَّهنا الله بكتابه وبسنة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - من تلقي الأسئلة والإجابة عليها ، إنما هي طريقة وأسلوب من أساليب الشريعة الإسلامية التي جاء بيانُها في كتاب الله وفي حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ذلك أن الأسلوب المعروف قديمًا في تعلُّم الناس لدينهم إنما كان بطريقة واحدة ؛ ألا وهي أن يجلس الطالب الدارس في حلقة الدرس ، ويتلقَّى من أستاذه ما هو في صدده من بيانه من العلم ، لاشك أن هده الطريقة هي طريقة مشروعة ، ولكن إلى جانبها طريقة أخرى قد يظنُّ بعض الناس أنها طريقة محدثة وأسلوب غربي في العصر الحاضر ؛ تلك الطريقة هي التي ذكرتها آنفًا توجيه السؤال من الطالب المحتاج لمعرفة حكم يتساءل عنه في نفسه ، يوجِّهه إلى من يظن فيه أهلية الجواب عن سؤاله ، ويتلقَّى ذلك الجواب من ذاك المسؤول ، فهذه الطريقة أريد أن أبيِّن الآن - ولو بشيء من الإيجاز - أنها طريقة إسلامية قبل أن تكون طريقة أوروبية غربية ، قد ذكرنا في أكثر من مناسبة - بل وفي الأمس القريب - قول الله - تبارك وتعالى - : (( فَاسْأَلُوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )) ، ففي هذه الآية تشريع ربِّ العالمين لأغلبيَّة الناس الذين وُصفوا في هذه الآية بأنهم لا يعلمون أن يتعلَّموا بطريق سؤالهم لأهل الذكر ، وهم أهل العلم والمعرفة بالكتاب والسنة ، هذه الآية هي الأصل في هذا الأسلوب من تعلم العلم بطريقة السؤال والجواب ، ونحوها قول ربِّنا - تبارك وتعالى - : (( فاسأل به خبيرًا )) ، وأوضحَ ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : ( بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ جاء رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يُرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منَّا أحد ؛ حتى أسند ركبتيه إلى ركبتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ووضع كفَّيه على فخذيه ، وقال : يا محمد ، أخبرني عن الإيمان ؟ قال - عليه الصلاة والسلام - : الإيمان أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، وباليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره ، قال السائل : صدقت . قال عمر : فعجبنا له يسأله ثم يصدِّقه . قال : أخبرني عن الإسلام ؟ قال : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت . قال : صدقت . قال : فعجبنا له يسأله ثم يصدقه ! ثم قال : أخبرني عن الإحسان ؟ قال : الإحسان أن تعبدَ الله كأنك تراه ، فإن لم تك تراه ؛ فإنه يراك . قال : فأخبرني عن الساعة ؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل . قال : فأخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربَّتها ، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشَّاء يتطاولون في البنيان . قال عمر : فلبثنا مليًّا . - وفي رواية : ثلاثة أيام - . ثم قال لنا - عليه الصلاة والسلام - : أتدرون من السائل ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال - عليه الصلاة والسلام - : ذاك جبريل جاءكم يعلِّمكم دينكم ) .

والشاهد من هذا الحديث كله هذه الجملة الأخيرة ؛ (( ذاك جبريل جاءكم يعلِّمكم دينكم )) أي : بطريقة السؤال وتلقي الجواب ، السائل يسأل ، والمسؤول يجيب ، وفي رواية : قال - عليه السلام - : (( ذاك جبريل جاءكم يعلِّمكم إذ لم تسألوا عن دينكم ! )) ، فهذا أوقع وأقوى وأشد دلالة على أن المسلم ينبغي أن يسال عمَّا يهمه من أمور دينه وآخرته .

كذلك ممَّا يدل على هذا الأسلوب من التعلم - وهو أسلوب السؤال والجواب - ؛ ما أخرجه أبو داوود في " سننه " من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - قال : (( خرجنا غزاةً في عهد النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فأُصيب رجل منَّا بجراحاتٍ في بدنه ، وفي الليل احتلم ؛ فوجب عليه الغسل ، فسأل مَن حوله ؛ هل يجدون له رخصة في أن لا يغتسل ؟ قالوا : لا ، وعليك أن تغتسل . فاغتسل فمات ؛ ذلك لأنَّ الماء - لا سيما وهم في العراء - أثَّر في تلك الجراحات حتى تقيَّحت وصارت صديدًا ، واشتدَّت - كما هو معلوم اليوم - حرارته وارتفعت ، فكان في ذلك هلاكه وموته ، فلما بلغ خبره رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - غضب غضبًا شديدًا وقال : ( قتلوه قاتلهم الله ! ) ؛ أي : صاروا سببَ قتله بسبب إفتائهم إياه بالجهل ، ( قتلوه قاتلهم الله ! ألا سألوا حينما جهلوا ؛ فإنَّما شفاء العيِّ السؤال )) .

إذًا للمسلم أن يتعلَّم بطريقة السؤال ، وللمسؤول أن يجيب عن كل سؤال إذا لم يكن فيه شيء من التنطُّع ، أو الغمز أو اللمز ، وإنما كان ظاهره أنه يسأل ليستفيدَ علمًا بهذا الأسلوب من السؤال ، وبالتالي على المسؤول أن يُجيب ، وليس له أي عذر في أن يمسك عن الإجابة ؛ اللهم إلا في حالة واحدة أشرت إليها آنفًا ؛ إذا ظهر أن السائل لا يسأل تعلُّمًا ، وإنما يسأل تعنُّتًا ، أما إذا كان السائل يريد فعلًا أن يحقق هذا المبدأ الذي أثبتناه في نصوص من الكتاب والأحاديث النبوية ، يريد أن يتعلم العلم ، ويتفقَّه بالدين ؛ فمن الواجب على المسؤول أن يبادر إلى إجابته ، وإلا لحقه الوعيد الشديد الذي جاء ذكره في الحديث الصحيح ؛ ألا وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( من سُئل عن علمٍ فكتمَه ؛ أُلجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نار ) ، ونحن نعلم أن الغنيَّ الذي أنعم الله - تبارك وتعالى - عليه بكثير من المال أنه يجب عليه أن يُعينَ به من حوله من الفقراء والمحتاجين ، لا سيَّما حينما يتوجَّه إليه سائل يسأله مما أعطاه الله - عز وجل - من مال ، وهذا السائل يستحق أن يُعطى شيئًا من ذلك المال ، أما إذا كان اتخذ التَّسوُّل والسؤال مهنةً له يكتسب بمثل هذه المهنة غير الشريفة شرعًا ؛ فلا ينبغي حينذاك أن يُعطى لكي لا يُعانَ على مخالفة الشرع ؛ ذلك لأنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقول : ( لا صدقة لغنيٍّ ، ولا لذي مرَّةٍ سويٍّ ) .

كذلك ومن باب أولى إذا جاء السائل يسأل عن العلم وجب أن يُقدَّم إليه العلم ، ولا يُنهر ولا يُزبر ولا يُردُّ إلا بالتي هي أحسن ، ومن أجل ذلك قال - تعالى - : (( وأما السائل فلا تنهر )) .

على هذا كان من الواجب حينئذٍ على المسؤول أن يكون سؤاله على ضوء الكتاب والسنة ، قد ذكرنا لكم في اجتماع سابق - أو لبعضكم - أن العلم إنما هو قال الله ، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وما سوى ذلك ؛ فهو من نافلة العلم ؛ حيث لا يجب على المسلم أن يلتزم إلا ما قال الله ، وما قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .

وإذا كان هذا هو الواجب على العالم أن يُجيب به من الكتاب والسنة ؛ فيجب أن تعلموا - أيضًا - أنَّ طلب العلم يجب أن يكون في حدود الكتاب والسنة ، والسنة - كما نعلم جميعًا - هي تفسيرٌ لكتاب الله - عز وجل - ، - أيضًا - سبق توضيح هذا ؛ فلا بد من تثبُّت المسلم من السنة ؛ لأنها قد دخل فيها ما ليس منها ، وكثرت الأحاديث الضعيفة والموضوعة في بطون الكتب ، إن لم نقل جلها فكثيرٌ منها لا تخلو من الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، لذلك كان من أوجب ما يجب اليوم على طلاب العلم أن يتوجَّهوا لدراسته إنَّما هو علم الحديث ، ومع الأسف الشديد كنَّا إلى عهد قريب لا نسمع لطلاب علم الحديث ذكرًا ؛ ذلك لأنَّ هذا العلم على مرِّ السنين لم يكن له منزلة تذكر عند الحُكَّام ، وبالتالي لم يكن لأهل هذا العلم منزلة عند الحكَّام أو رواتب أو وظائف أو ما شابه ذلك ، لكن الآن ولا شك أننا نلمح انطلاقًا جديدًا لبعض الشباب في كتير من البلاد الإسلامية ؛ حيث ينصرفون إلى دراسة علم الحديث والسنة ، ودراسة هذا العلم له علمان ، دراسة السنة له جانبان .

الجانب الأول ما يتعلَّق منه بعلم الحديث بأصول مصطلحه ، وبمعرفة تراجم رجاله ورُواته ، وهذا ثمرته أن يتمكَّن طالب العلم من الحكم على أيِّ حديث اطَّلع عليه بسنده يتمكَّن بواسطة هذا العلم - علم المصطلح وعلم الرجال - أن يحكم على ذاك الحديث بما يستحقُّه من صحة أو ضعف .

أما الجانب الثاني أو العلم الثاني الذي يتعلَّق بعلم الحديث هو علم أصول الفقه ، علم أصول الفقه هو علم يُساعد طالب العلم على أن يفقهَ كلام الله - تبارك وتعالى - ، وكلام نبيِّه - صلى الله عليه وآله وسلم - ، يفهم ذلك فهمًا صحيحًا ، ويبعد عنه الشبهات والإشكالات التي قد تعرض له كما نشاهد هذا كثيرًا من كثير من الشباب في كل البلاد التي طفتُها ، فيُشكل عليهم الحديث ، ولا إشكال فيه ؛ لأنه لم يدرس هذا العلم ؛ ألا وهو علم أصول الفقه ، علم أصول الفقه هو عبارة عن قواعد ، وقف عليها العلماء بسبب استمرارهم في دراسة الكتاب والسنة ، ثم صنَّفوا هذه القواعد تيسيرًا على طلاب العلم ، صنَّفوها في كتاب من الكتب التي تركوها تراثًا ضخمًا لمن بعدهم ، ويسمى هذا العلم الذي صنَّفوا فيه بعلم أصول الفقه ، فأصول الفقه هو الذي يتفقَّه به الانسان في كتاب الله وفي حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، بل هو الذي ينبغي ألَّا يصرفَه إلى غير هذا الفقه ، الفقه لكتاب الله ولحديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يستعين على فَهمهما بهذَين العلمين ؛ أصول الحديث ، وأصول الفقه ، أصول الحديث لكي يميِّز الصحيح من الضعيف ، أصول الفقه لكي يستعينَ به على فهم كتاب الله وحديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فهمًا لا تعارض بينهما .

قد يحسن لتوضيح هذه النقطة أن نذكر بعض الأمثلة ، هناك ما يُسمَّى بعلم أصول الفقه " المنطوق والمفهوم " ، أو " دلالة المنطوق ودلالة المفهوم " ، والعلماء اختلفوا في هذا المجال ، والجمهور يقولون على أن دلالة المفهوم حجَّة كدلالة المنطوق ، ما هو المنطوق ؟ وما هو المفهوم ؟

المنطوق هو ما يتبادر إلى ذهن الانسان السامع للكلام ، والمفهوم يكون ضمن ذلك الكلام ولكن ليس صريحًا ؛ مثلًا ربنا - عز وجل - يقول : (( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنَكم الذين كفروا )) ، فقوله - تعالى - : (( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا )) منطوقه واضح ، وبحيث لا تدل الآية على جواز القصر في الصلاة إلا بشرط تحقُّق الخوف ، (( وإذا ضربتم في الأرض )) أي : سافرتم ، (( فليس عليكم جناح )) أي : إثمٌ ، (( أن تقصروا من الصلاة )) بشرط إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، فمفهومه هذا هو المنطوق واضح ، مفهوم النص هنا أنه إن لم تخافوا أن يفتنَكم الذين كفروا ؛ فعليكم جناح إذا قصَّرتم في السفر ، هذا المفهوم هل هو حجَّة ؟ وإذا كان حجَّة ؛ هل هي حجة مطَّردة ؟ هل هي حجَّته مطَّردة ؟ أما كونه حجة ؛ فهو ما عليه جماهير علماء الأصول ، خلافًا للحنفية ، أما أنه حجة مطَّردة ؛ فالجواب حجَّة غالبة ، وليست حجة مطَّردة ، لم ؟ لم هو حجة على القاعدة العامة الغالبة ؟ وليس بحجة في بعض الأحيان ؟

دليل الأول أي : دليل كون المفهوم حجَّة هو هذه الآية مع ربطها بالحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " من طريق رجل من التابعين ، قال لبعض الصحابة : لو أني أدركتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لَسألته . قال له : عمَّ كنت تسأله ؟ قال : كنت أسأله عن هذه الآية التي تقول : (( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا )) ، نحن الآن نقصر وما نخاف المشركين أبدًا . قال : لقد سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقلت : يا رسول الله - ولعل السائل هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - - قلت قال : قلت : يا رسول الله ، ما بالنا نقصر وقد أمنَّا ؟! قال : صدقة تصدَّق الله بها عليكم ؛ فاقبلوا صدقته .

يفهم من هذا الحديث أنَّ مفهوم النص حجَّة ؛ كيف ذلك ؟ لأنه لو لم يكن حجَّة لَقال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - للسائل : أنت تأخذ بمفهوم النَّصِّ ، ومفهوم النَّصِّ ليس بحجَّة ، فالنَّصُّ أفاد أنه إن خفتم أن يفتنَكم الذين كفروا ؛ فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ، أما إن لم تخافوا فأمرٌ مسكوتٌ عنه ، هذا منطق من يقول بأن مفهوم النَّصِّ ليس بحجة ، لكن لمَّا رأينا السائل وجَّه ذلك السؤال إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يقل له - كما ذكرنا - : أنت تفهم بمفهوم النَّصِّ ، وهذا ليس بحجة ، بل وجدناه قد أقرَّه على استشكاله ، وهذا الاستشكال الذي دفعه إلى سؤاله - عليه الصلاة والسلام - ، فأجابه بالجواب الذي يُطمئنه ، فهو من جهة يقرِّره أن فهمك سليم ، حيث فهمت أنُّو القصر لا يجوز بدلالة هذه الآية ومنطوقها إلا بتحقُّق الخوف الذي هو الشرط ، وفهمت بالمفهوم أنه إذا لم يتحقَّق هذا الشرط ؛ فليس هناك قصر ، فقرَّره على هذا الفهم ، لكنه قال له - كأنه يقول له - : أصبت في فهمك للآية ؛ أنَّها تدل على أن القصر في السفر لا يجوز إلا بشرط الخوف ، ولكن الله - تبارك وتعالى - تفضَّل على عباده ، فرفع عنهم هذا الشرط ، وهذا معنى قوله - عليه السلام - : (( صدقة تصدَّق الله بها عليكم ؛ فاقبلوا صدقته )) .

إذًا لا بد من أن ندرس هذَين الأصلين ؛ أصول الفقه كي لا نفهم القرآن فهمًا خطأ ، فهذا المفهوم هنا مفهوم المخالفة - مخالفة الشرط - ذلك الصحابي فهم أن له دلالة ، وهذه الدلالة تعطي أن القصر في السفر لا يجوز ما دام ما في شرط ، والرسول - كما قلنا - أقرَّه ، لكن قال له ربنا تفضَّل على عباده ؛ فرفع هذا الشرط ، وهي صدقة من الله علينا ، فواجبنا حينذاك أن نتقبَّل صدقة ربِّنا - تبارك وتعالى - علينا .

قلت : إن مفهوم النَّصِّ عند الجمهور حجَّة ، ولكن ليس حجة دائمًا كالمنطوق ، وإنما في الغالب ، وذلك لأنَّنا نجد بعض النصوص في القرآن الكريم هي - أيضًا - منطوق ، وفيها مفهوم ؛ لكن هذا المفهوم لم يُؤخذ به ، مثلًا قال الله - تبارك وتعالى - : (( ومن يدع مع الله إلهًا آخر لا برهان له به )) ، فـ (( برهان له به )) هذا المنطوق ، وحسابه عند الله ، لكن من ادَّعى مع الله إلهًا آخر له برهان ؛ فلازم يكون بقى على حسب طريقة المفهوم ليس له ذلك الحكم ، فيقال هنا : إن هذا المفهوم لا يُؤخذ به ، ومثله تمامًا قوله - تعالى - : (( لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة )) ، منطوقه واضح ، كلُّ إنسان يفهمه ، لكن مفهومه لا بأس أن تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة ، هذا المفهوم ، فهذا المفهوم وذاك لا يُقال به ، ولا يجوز لمسلم أن يتبنَّاه ، وذلك لقيام الأدلة على أن الرِّبا كلَّه حرام ، قليله وكثيره ، حتى قال - عليه الصلاة والسلام - : ( درهم ربا يأكله الرجل أشدُّ عند الله - تبارك وتعالى - من ستٍّ وثلاثين زنية ) ، فمثيل هذا الحديث وأمثاله في التحريم الدرهم القليل جعلَنا لا نعتدُّ بمفهوم قوله - تعالى - : (( لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة )) ، وكذلك قد ثبت أنه لا رب مع الله خالق ، ولا إله مع الله يقينًا ، وأن كل من يدَّعي أن مع الله إلهًا آخر ؛ فطبيعته أنه لا دليل معه ، ويعبِّر بعض العلماء عن مثل هذا المنطوق الذي فيه مفهوم أن الله - عز وجل - في كلٍّ من الآيتين السابقين ذكرًا إنما تحدَّث عن طبيعة الأمر الواقع ، ما هو الأمر الواقع بالنسبة للذي يدعو مع الله إلهًا آخر ؟ لا برهان له ! ما هو واقع الربا الذي نهى الله - عز وجل - في كتابه عنه ؟ كان واقعه يومئذٍ أنهم يأكلون الربا أضعافًا مضاعفة ، بمثل هذه العلامات يفهم العلماء ويميِّزون المفهوم الذي لا يُؤخذ به من المفهوم الذي يُؤخذ به ، هذا مثال من الأمثلة التي قد تستعصي على بعض الأذهان من الذين لم يكتبوا ، ولم يدرسوا شيئًا من أصول الفقه .

كذلك علم الحديث يجب أن ندرسَه على ضوء ما ذكرنا آنفًا من معرفة الجرح والتعديل ، ومعرفة أصول علم الحديث ومصطلحه ، متى يُؤخذ الحديث عن الراوي ؟ ومتى لا يُؤخذ به ؟ وكيف أن الراوي أحيانًا يكون ثقةً حجَّةً ضابطًا ، ومع ذلك في بعض الأحوال والظُّروف لا يُؤخذ حديثه ، وأحيانًا لا يكون ثقةً ولا ضابطًا ؛ ومع ذلك يُؤخذ بحديثه ، هذه أمور يجدها الانسان في علم المصطلح ، وحينما يدرسها ويَفقهها ؛ حينئذٍ لا يُشكل عليه كيف صار حديث ذاك الثِّقة ضعيفًا ، وكيف صار حديث ذاك الضَّعيف صحيحًا ، يحتار كثير من الناس المبتدئين في هذا العلم ؛ لذلك نحن نحضُّ مَن كان عنه استعداد لطلب العلم ، عنده استعداد نفسي أوَّلًا ، ثم عنده استعداد وقتي وزمني ثانيًا ؛ فعليه أن يهتم بدراسة علم السنة بالطريقين اللَّذين ذكرناهما ؛ أصول الحديث وأصول الفقه الذي يساعد على فهم الحديث ، وبذلك يتمكَّن أن يحظى بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي قال : ( من يُرِدِ الله به خيرًا يفقهْهُ في الدين ) ، وهذا واضح - إن شاء الله - ؛ لأن من كان لا يميِّز بين الحديث والصحيح ؛ أي ليس عنده علم يمكِّنه من تمييز الصَّحيح من الضعيف ؛ فسوف يخلط ، ويخلط في الشرع شيئًا كثيرًا ، وكذلك إذا كان جاهلًا بعلم أصول الفقه ؛ فسيُشكل عليه التوفيق بين بعض الآيات والأحاديث ، بل وبين بعض الأحاديث مع أحاديث أخرى ، ولعل بهذا القدر كفاية ، لنتوجَّه للإجابة عن بعض الأسئلة - إن شاء الله تعالى - .

السائل : جزاك الله خير .

مواضيع متعلقة