الجواب عن شبهة أن الأحاديث يرويها الصحابة وهم بشرٌ ؛ فيمكن أن يكونوا أخطؤوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
الجواب عن شبهة أن الأحاديث يرويها الصحابة وهم بشرٌ ؛ فيمكن أن يكونوا أخطؤوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
A-
A=
A+
الشيخ : كان هناك سؤال في الدرس الماضي عن مشكلة يُثيرها بعضُ الناس اليوم حول بعض الأحاديث التي يظهر لهذا البعض بأنها مُنافية للعلم أو لم يُثبِتْها العلم على الأقل ، فأجَبْنا عن ذلك بما يعني رَفَعَ الإشكال وأزالَ الشبهة إن شاء الله ، وكان من جملة الإشكالات التي ذكرها السَّائل في سؤاله المشار إليه هو أن الذين رَوَوا هذه الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هم بشر مثلنا ، هم الصحابة ، هم بشر مثلنا ؛ أي : يمكن أن يكونوا أخطؤوا فيما نسبوا إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، فعَم يذكِّرني الأخ " عيد " الآن ، أنا أذكر أني أجبت عن هذه الشبهة ، فيذكِّرني بأنك أجبت فعلًا ، لكن القضية فيما يبدو تحتاج إلى شيء من الشرح ، فأنا قلت يومئذٍ : بأن هؤلاء الصحابة نعم بشر ، لكن هؤلاء هم الذين نقلوا إلينا الشريعة كلها وهم ثقات وحفَّاظ وعدول ، وهؤلاء الذين نقلوا إلينا هذه الشريعة هم الذين أنفسهم هم الذين نقلوا إلينا تلك الأحاديث التي استشكَلَها أولئك الناس ، فلا يصح في الشرع بل ولا في العقل أن نجعل هؤلاء الناس ثقات في جانب وغير ثقات في جانب ، والجانبان يشتركان في أنَّهما داخلان في مدخل نقل العلم ، فهؤلاء الصحابة ينقلون العلم عن الرسول - عليه السلام - ، علم الحلال والحرام والأخلاق والآداب و وإلى آخره ، كلُّ ذلك نقلوه عن الرسول - عليه السلام - ؛ فَهُم حجة حتى عند هؤلاء الناس ، لكن حينما ينقلون أمورًا غيبيَّة ولما يصل العلم إلى معرفة كُنْهِها وحقيقتها يصبح هؤلاء الناس من الصحابة غير ثقات ، لا يوجد شيء من هذا في العلم إطلاقًا .

ولذلك فنحن نقول : علم الحديث علم مستقلّ له أصوله وله قواعده ، وهو علم لا سبيل لغيره إلى معرفة الحوادث التي مَضَتْ قبلنا ولم نشهَدْها بأنفسنا ، ولا يوجد هذا العلم في أمة من الأمم منذ وُجِدَت هذه الأمم على وجه الأرض إلا في الأمة الإسلامية ، وهذا مما فضَّلَ الله - تبارك وتعالى - أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - به ، وذلك أمر بدهي ما دام أن الله - عز وجل - خَتَمَ الشرائع كلها بدين الإسلام ، وخَتَمَ الأنبياء والرسل جميعًا بخاتمهم محمد - عليه الصلاة والسلام - ؛ فإذًا ذلك يستلزم أن يكون الإسلام له قواعد وأصول صحيحة يُبنى عليها نقل تلك الأحاديث والأقوال التي كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يتكلَّم بها ما دام أنه وَكَلَ ربُّنا - عز وجل - إليه - صلى الله عليه وسلم - أن يشرحَ للناس هذا القرآن السماوي : (( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )) ؛ فهذا يستلزم أمورًا : أول ذلك أن يكون الجيل الأول الذي بُعِثَ فيهم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بقرآنه وتولَّى شرحه وبيانه إليهم ينبغي أن يكون هذا الجيل في مستوى نادر المثال من حيث الفهم أوَّلًا ، والضبط والحفظ ثانيًا ، وإلا كيف يتحقَّق وعدُ الله الصادق : (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )) إذا افترضنا أن أصحاب الرسول - عليه السلام - هم كأولئك الذين دعا عليهم الرسول - عليه السلام - بالويل حين قال : ( ويلٌ لأقماع القول ) ؟!

نعم ؟

السائل : أقماع القوم .

الشيخ : القوم نعم ، ( ويلٌ لأقماع القوم ) ، ما هي الأقماع ؟ جمع قمع ، القمع اللي بينحط على - مثلًا - " تنكة " منشان نصب الزيت حتى ما ينكب ، فأقماع القوم يعني بيفوت الكلام بيقوم بيطلع ؛ ما يثبت فيهم ، هذا تنبيه ... من كلام الرسول - عليه السلام - ؛ يعني ويل للذين يستمعون القول ولا يحفظونه ولا يتَّبعونه ، فيستحيل إذًا ما دام أن الله - عز وجل - وَعَدَنا بأنه أنزل القرآن وأنه حافظه ؛ لا بد أن يسخِّر له فعلًا ناس يقومون بهذا الواجب الديني ؛ فَهُم - أي : الصحابة - ليسوا أقماعًا ، وإنما كانوا حُفَّاظًا ، ويُضرَب لهم المثل في الحفظ بحيث لا تعرف أمة في أفرادها مش في جماعاتها كجماعات من جماعات أمة محمد - عليه السلام - في دقة الحفظ والضبط ؛ لذلك قوله - تبارك وتعالى - : (( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )) يتطلَّب أنُّو هذا البيان سَيُنقل إلى ناس حفاظ ، ثم هؤلاء الحفاظ عليهم واجب ثاني ؛ وهو أن ينقلوه إلى مَن بعدهم ليستمرَّ خبر الله - عز وجل - الصادق : (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )) ، وإلا هل يصدق هذا الخبر الإلهي فيما لو أنُّو الصحابة حفظوا هذا الشرح وهذا البيان وهذه الأحاديث التي تلقَّوها من الرسول - عليه الصلاة والسلام - ثم لا شيء وراء ذلك ؛ أي : لم تنتقل هذه الشريعة المشروحة في كلام الرسول - عليه السلام - إلى الجيل الثاني وهم التابعون ؟!

طبعًا لا يصدق حين ذاك قول الله - عز وجل - : (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )) ، ولا يمكن أن يكون الأمر كذلك ؛ أي : أن لا يصدق ، بل لا بد أن يصدق ؛ فكيف ذلك ؟ بهؤلاء الوسطاء الذين نقلوا إلينا بيان الرسول - عليه السلام - ، فالجيل الأول هم الصحابة الكرام وهم قد أُمِرُوا بالتبليغ كما قال - عليه الصلاة والسلام - : ( بلِّغوا عني ولو آية ، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومَن كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النار ) ، كذلك حَضَّهم على التبليغ بالدعاء لهم بالنَّضارة فقال : ( نضَّر الله امرأً سمع مني مقالتي ، فوعاها ، فبلَّغها ) إلى آخر الحديث .

إذًا هؤلاء الصحابة إن شَكَكْنا فيهم ، في ضبطهم ، في صدقهم ؛ معنى ذلك لا قيمة حينئذٍ لإيمان المؤمن بأنُّو القرآن كلام الله ، لماذا ؟ لأنُّو أوَّلًا : هذا القرآن الذي هو كلام الله ما جاءنا وحيًا من السماء إلينا مباشرةً ، وإنما إلى الرسول - عليه السلام - ، وهو إلى الصحابة ، والصحابة إلينا بالتسلسل ، وثانيًا : لا قيمة لهذا النقل لألفاظ القرآن إلا بأن ينقلوا - أيضًا - معه معناه وبيانه كما عرفت من الآية من السابقة : (( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ )) ؛ فَهُم - أيضًا - إذًا الصحابة نقلوا شيئين اثنين : البيان والمُبيَّن ، البيان السنة وأحاديث الرسول - عليه السلام - ، والمُبيَّن هو القرآن الكريم .

إذًا كل مسلم يجب أن يعتقد ضرورةً أن هؤلاء الصحابة يجب أن يكونوا حفاظًا وصادقين فيما نقلوه عن سيد المرسلين ، فإن شَكَّ شاكٌّ في هؤلاء في جانب من رواياتهم انهدمَ الجانب الآخر بطبيعة الحال ؛ لأنُّو لا يمكن أن يُقال هذا إنسان حافظ غير حافظ ؛ لأنُّو جمع بين المتناقضين ، فإذا ما انتقلنا من الجيل الأولى إلى الجيل الثاني وهم التابعون ؛ أيضًا لا بد أن نستلزم ضرورةً أن هؤلاء التابعين قاموا بالواجب نفسه الذي قام به الجيل الأول وهم أصحاب الرسول - عليه السلام - ، وإلا - أيضًا - دَخَلَ النقص في دين الإسلام ، إذا قلنا كما يقول بعض الناس - وهنا الشاهد - أنُّو هدول بشر ، ممكن أنُّو يغلطوا ، ممكن أنُّو ينسوا ، ممكن ممكن إلى آخره .

نحن نعم نقول : الإمكان العقلي واسع النطاق ممكن ، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث هو بشر ممكن أن يُقال فيه ما يُقال عن أقل بشر ، لكن مش كل ممكن واقع ، ليس كل ممكن واقع ، أنا بأقول : ممكن أنُّو رب العالمين يخلق إنسان له رأسان - مثلًا - ؛ ممكن ؛ لأن الله على كل شيء قدير ، لكن هل وقع هذا ؟ وممكن بقى الإنسان يتوسَّع في افتراض الأمور الممكنة نظريًّا ، ثم لا يجدها من واقع الحياة ، فممكن أنُّو هؤلاء البشر أن يُخطئوا ، لكن الله - عز وجل - حَفِظَ طائفةً من هؤلاء البشر عن أن يقعوا فيما يُخِلُّ بنقل الرسالة وتبليغ الأمانة ، أول هؤلاء الصحابة ، ثم جاء من بعدهم التابعون ، فالتابعون لا شك فيهم ناس - كما يشهد بتاريخ الحديث نفسه - فيهم ناس - مثلًا - كان في عندهم سوء حفظ ، وبعد ذلك فيهم مَن كان متَّهمًا في صدقه إلى آخره ، ولكن لتظلَّ حجة الله - عز وجل - قائمة سخَّر الله لرواة الحديث كلهم من تابعين فَمَن بعدهم أئمةَ الحديث ؟ سخَّرَهم لِيُميِّزوا الحافظ من غير الحافظ والصادق من الكاذب ، وهذا علم - كما أشرت آنفًا - لا وجود له في غير الإسلام .

خذ الآن أيَّ تاريخ إفرنسي أو إنكليزي أو ألماني أو أي شيء ؛ هل تجد فلان ثقة وفلان غير ثقة ، فلان حافظ وفلان غير حافظ ، فلان أبوه بيشهد بابنه أنُّو بيكذب ، الابن بيشهد بطبقة أخرى بأبوه أنُّو بيكذب ؟! هذه التفاصيل في علم الجرح والتعديل لا وجود لها إطلاقًا في أمة من الأمم إلا في أمة الإسلام ، كلُّ ذلك ليتحقَّق خبرُ الله الصادق : (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )) ، فلما بيقول القائل بكل بساطة بل بكل بلادة : إي هدول بشر ممكن أن يغلطوا ؛ هذا كأنُّو إما ما قرأ أو سمع شيئًا عن جهود علماء الحديث طيلة القرون الطويلة ، أو أنُّو مَحَاها من ذهنه بالمرة ؛ لأنُّو هو مَثَله كمثل الولد السفيه الذي يرث مالًا كثيرًا من أبيه ، ثم لأنُّو ما تعب عليه ما بيقدِّر قدره ، وسرعان ما يذهب هذا المال منه ؛ لأنُّو هاللي ما تعب على الشيء ما بيقدِّره ، وهكذا هؤلاء الجهَّال ، بيقول لك : هدول بشر فممكن يخطئ ؛ نعم يا سيدي هدول بشر وممكن يخطؤوا ، لكن هاللي بيخطؤوا تميَّزوا بهالتاريخ الطويل عن الذين لا يخطئون في رواية الحديث ، والذين يكذبون فيه تميَّزوا - أيضًا - عن الذين لا يكذبون بل يصدقون وهكذا .

لذلك ليس هناك مجال لإنسان يأتي في هذا الزمان يقول : رواة الحديث من الصحابة فمَن دونهم هدول بشر وممكن يخطئوا ؛ لأنُّو معنى هذا هدر وتعطيل جهود العلماء هؤلاء على مرِّ القرون كلها ، وهذا طبعًا حماقة ليس بعدها حماقة ؛ لذلك لعل هذا المقدار يكفي لنردَّ هذه الشبهة الأخيرة بالنسبة للأحاديث المتعلقة ببعض الأمور الغيبية أو الطِّبِّيَّة أو الفلكية أو نحو ذلك مما لم يكتشفها العلم ، فيقال : ما دامت هذه الأحاديث رواها لنا أولئك الصحابة الذين ثبتَتْ عدالتهم وضبطهم وحفظهم ، ثم تلقَّاها عنهم أولئك التابعون من الذين ثبتَتْ عدالتهم وضبطهم وحفظهم ، ثم أتباع التابعين وهكذا حتى سُجِّلت في بطون الكتب بأسانيدها ، وهذه الأسانيد معها ضوابطها التي تبيِّن هذا الحديث هو صحيح أو غير صحيح ؛ ما دام أن الأمر كذلك فليس من السهل أن يأتي إنسان هو أجهل من أبي جهل في هذا العلم ليقول : إي هذا الحديث غير معقول ، وكونه رواه الصحابي الفلاني أو التابعي الفلاني فهو بشر يخطئ .

أنا سأخاطب هذا الإنسان بلغته سأقول له : أنت بشر تخطئ أم أنت معصوم ؟ سيقول : لا ، أنا أخطئ . طيب ، فما الذي رجَّحَ خطأ القوم على خطئك أنت ، فجزمت بأنهم مخطؤون وأنت مصيب مع أنك أنت واحد ، عقلك واحد ، حكمك واحد ، ثم جاهل في هذا العلم تمامًا ؟!

لذلك فهذا المعول يهدم به صاحبُه نفسَه قبل أن يهدمَ به غيره ، وكما قيل : " على الباغي تدور الدوائر " .

مواضيع متعلقة