شرح قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ومن أفتى فتيا بغير ثَبَتٍ فإثمه على مَن أفتاه) ، وخطورة الفتوى بغير علمٍ صحيح وصور ذلك . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
شرح قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ومن أفتى فتيا بغير ثَبَتٍ فإثمه على مَن أفتاه) ، وخطورة الفتوى بغير علمٍ صحيح وصور ذلك .
A-
A=
A+
الشيخ : والفقرة الثالثة والأخيرة من هذا الحديث قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( ومن أفتى فتيا بغير ثَبَتٍ فإثمه على مَن أفتاه ) .

في هذه الفقرة حكمٌ خاصٌّ يتعلق بأهل العلم الذين يتعرَّضون لِفُتيا الناس وإفتائهم ، وهذه مسألة في الواقع ثقيلة على وزان قوله - تعالى - لنبيِّه - عليه السلام - : (( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا )) ؛ ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد أوجَبَ على المُستفتَى أن لا يتسرَّع في الإفتاء ، بل عليه أن يتثبَّت ، وليس التثبُّت إلا أن يعرف الحكم من كتاب الله ومن حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فإن أفتاه دون أن يتثبَّت هذا التثبُّت ؛ وهو بأن يرجع إلى كتاب الله وحديث رسول الله ، فتبنَّى المستفتي رأيَ المفتي وفتواه ، وكان قد أفتاه بإثمٍ فإنما إثمُه على مفتيه .

ومن ههنا نتوصَّل إلى مسألة خطيرة وخطيرة جدًّا ؛ وهي أن العالم حينما يُستفتى في مسألة فيفتي بغير استناد إلى الكتاب وإلى السنة ؛ فهو يفتي بغير ثَبَتٍ ؛ لأن الحديث يقول : ( ومن أفتى فتيا بغير ثَبَتٍ ) ؛ أي : بغير سند وبغير بيِّنة وحجة ، ومعلوم لدى كلِّ مسلم أن الحجة في الإسلام ليس هو إلا الكتاب والسنة ، وإلا ما استُنبط منهما من إجماعٍ وقياسٍ صحيح ؛ فمن أفتى بغير ثَبَتٍ - أي : بغير حجَّة - من كتاب الله أو من حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على التفصيل السابق فقد أفتى بغير رشدٍ وبغير حجَّة ، فإثمُه حينَ ذاك إثم المستفتي حين ذاك على مفتيه ؛ فماذا يجب على المفتي ؟ يجب التثبُّت قبل كل شيء ، ولا يتسرَّع بالفتوى ، ومعنى هذا أنه يجب أن يراجع المسألة إن لم يكن راجعها ؛ فكيف يُراجعها ؟ ومن أين يستقي الجواب الصحيح على ما استُفتي ؟ هو بالرجوع إلى الكتاب والسنة ؛ لأن الحديث يقول : ( بغير ثَبَتٍ ) ؛ أي : بغير حجَّة ، وما هو الحجة في الإسلام ؟ هو القرآن والسنة كما قال - عليه الصلاة والسلام - : ( تركت فيكم أمرَين لن تضلُّوا ما إن تمسَّكتم بهما ؛ كتاب الله وسنَّتي ، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض ) ، فيا تُرى من استُفتِيَ في مسألة أو في قضية فأفتى برأي عالمٍ أيّ عالمٍ كان ، وهو يعلم أن المسألة فيها قولان فأكثر ؛ فهل أفتى بثَبَتٍ ؟ بحجة ؟

من أفتى بناءً على قول فلان وهو يعلم أن المسألة فيها قولان فأكثر ؛ فهل أفتى بثَبَتٍ بحجَّة وبيِّنة ؟

الجواب : لا ؛ لأنه حينما تكون المسألة من المسائل الخلافية فقد صدر للعلماء فيها قولان فأكثر ، فهو أفتى بقولٍ من القولين دون أن يُدعِمَ فتواه ولو في نفسه على الأقل بآيةٍ من كتاب الله أو بحديث من سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهذا لا يكون قد أفتى عن ثَبَتٍ وعن حجة وعن بيِّنة ، فيكون فتواه بهذا الخطأ لا يتعلَّق إثمه على المستفتي ، وإنما على المفتي فإثمه عليه ؛ إذًا على كلِّ مستفتٍ أن يتثبَّت في فتواه ؛ أي : أن يستند في فتواه إلى كتاب الله وإلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومعنى هذا الكلام العلمي بعبارة واضحة بيِّنة أن المستفتَى أن العالم إذا استُفتِيَ في مسألة ما ؛ لنضرب على ذلك مثلًا :

رجل سأله : خروج الدم ينقض الوضوء ؟ قال : نعم . وهو يعني أنه مذهب الحنفي هكذا يفتي ، فإذا نحن رجعنا إلى هذا الحديث نفهم أن هذا الجواب إثمه عليه ليس على المستفتي ؛ ليه ؟

لأنُّو في قولين آخرين في هذه المسألة ، فالمذهب الحنفي يحكم ببطلان الوضوء بمجرَّد خروج الدم عن مكانه ، المذهب الشافعي يقول : لا ينقض الدم الوضوء مطلقًا مهما كان كثيرًا ، مذهب الإمام مالك وأحمد يفصِّل فيقول : إن كان الدم كثيرًا نقضَ وإلا فلا .

فالذي أفتى قال : ينقض . وين الحجة والمسألة فيها خلاف ؟ والله - عز وجل - يقول : (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )) ؛ ولذلك فلا يجوز للمسلم المتمذهب بمذهب واحد إذا استُفتِيَ في مسألة أن يفتي على مذهبه ؛ لأنَّه هناك مذاهب أخرى ؛ فهذا يجب أن يمسِكَ عن الفتوى ، فإن أفتى فهو آثم بدليل هذا الحديث ، وهو قوله - عليه السلام - : ( ومن أفتى فتيا بغير ثَبَتٍ ) - أي : بغير سند وحجة - ( فإثمُه على مَن أفتاه ) ، فالذي يقول : خروج الدم ناقض للوضوء أو غير ناقض ، أو ينقض إن كثيرًا ولا ينقض إن كان قليلًا ؛ أي جواب كان ؛ إذا كان لم يستند صاحبه على سند من الكتاب ومن السنة فإثمه عليه وليس على المستفتي ؛ لماذا ؟ لأن المستفتي أدَّى واجبه حينما قال له ربُّه : (( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )) ؛ جاء هذا الذي لا يعلم إلى مَن يظنُّه أنه من أهل الذكر فسأله ، فأفتاه ؛ فإثمه على هذا المفتي .

هذا المفتي حينما يُسأل عليه أن يراقب الله - عز وجل - ، وأن لا يفتي إلا عن ثَبَتٍ وحجة وسند ، فإن لم يفعل فهو آثم ، وقد نبَّهَ لهذه الحقيقة الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - حين قال : " لا يحلُّ لرجلٍ أن يفتي بقولي ما لم يعلَمْ من أين أخذت دليلي " . هذا نصٌّ عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - أول الأئمة الأربعة يفسِّر لنا هذا الحديث .

هذا الحديث يقول : مَن أفتى بغير ثَبَتٍ فإنما إثمه عليه وليس على المستفتي ، فيقول الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - : " لا يحلُّ لرجل أن يفتي بكلامي ما لم يعلَمْ من أين أخذت دليلي " ؛ فهذا الحنفي الذي سُئِلَ : الدم إذا خرج ينقض الوضوء ؟ فأجاب : نعم ، لا يجوز له هذا بحكم هذا الحديث ، وبحكم قول الإمام السابق ؛ لأنه لم يعرف دليله .

ومعنى هذا أو حصيلة هذا الحديث هو وجوب دراسة الكتاب والسنة لكي يتمكَّنَ المفتي من أن يفتي بالدليل من الكتاب والسنة ؛ فلا يلحقه إثم ؛ حتى ينجوَ مما لو أخطأ في الفتوى ؛ لأنه ليس معنى مَن أفتى معتمدًا على الكتاب والسنة أنه معصوم عن الخطأ ؛ لا . ولكن إذا اجتهد فأفتى بما فَهِمَ من الكتاب والسنة فله حالتان ؛ إما أن يكون أصاب فله أجران ، وإما أن يكون أخطأ فله أجر واحد ، لكن هذا إنما هو - أي : الأجران - إذا أصاب ، والأجر الواحد إذا أخطأ ؛ إنما هو للذي يفتي اعتمادًا على الكتاب والسنة ، أما الذي يقلِّد - والتقليد جهل باتفاق العلماء ولا يتبصَّر في الفتوى - فهذا ليس له أجر حتى ولا أجر واحد ، بل عليه وزر ؛ لأنه أفتى بغير ثَبَتٍ وبغير بيِّنة وحجة .

حصيلة هذا الحديث هو وجوب الرجوع على العالم في كلِّ ما يفتي إلى الكتاب والسنة .

مواضيع متعلقة