الرَّدُّ على من يقسم البدع إلى حسنة وسيِّئة . - صوتيات وتفريغات الإمام الألباني
الرَّدُّ على من يقسم البدع إلى حسنة وسيِّئة .
A-
A=
A+
الشيخ : وههنا لا بد من أن نتساءل ؛ إذا كان الجمهور المعاصر اليوم يستدلُّ بهذا الحديث على أن في الإسلام بدعة حسنة ، وعلى ذلك فهو يفسِّره بالمعنى المعروف عنهم ؛ وهو قولهم : ( مَن سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً ) معناه : من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة فله أجرها ، فنحن نسألهم الآن بعد أن عرفنا سبب هذا الحديث : أين موضع هذه البدعة المزعومة والموصوفة عندهم بأنها بدعة حسنة في هذه الحادثة التي وقعت في مجلس الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وقال بمناسبتها : ( مَن سنَّ في الإسلام سنَّة حسنةً ) ؟

لقد سألت كثيرين ممَّن يحتجون بهذا الحديث على أنَّ في الإسلام حسنة ؛ فلم يستطع أحد منهم إطلاقًا أن يقول : البدعة الحسنة هي هذه مما وقع في المجلس ؛ لأنه لا يوجد في المجلس إلا أمرين اثنين يستحقُّ الوقوف عندهما :

الأمر الأول : هو صدقة الصحابة بدءًا من الأول ، وانتهاءً بآخر مَن تصدَّق منهم . والشيء الآخر : هو أن رجلًا منهم قام قبل كلِّ أصحابه الآخرين وسنَّ هذه الطريق وفتحها لأولئك الذين كانوا كما هو طبيعة الجماهير حينما يحضُّهم الواعظ المذكِّر بأمر مشروع قطعًا نجدهم واجمين ساكتين ، لكنَّ فردًا منهم يتنبَّه للموضوع ويتحمَّس له ، فينطلق ويتصدَّق إما آنيًّا أو ينطلق إلى بيته فيأتي بما يتيسَّر له من صدقة كما فعل ذلك الرجل في مجلس الرسول - عليه الصلاة والسلام - .

فإذًا قال الرسول - عليه السلام - : ( مَن سنَّ في الإسلام سنَّة حسنةً ) بهذه المناسبة التي قام الرجل الأول فتصدَّق بما تيسَّر له ، ثم تَبِعَه الآخرون ؛ فهل الصدقة بدعة ؟ الجواب : لا ؛ لأن الرسول - عليه السلام - أمرهم بنصِّ من الآية الكريمة ، ثم هو فوق ذلك حضَّهم على الصدقة بكلامه ؛ فلا أحد يتخيَّل أن يُقال : إن البدعة في ذلك المجلس إنما هي الصدقة .

إذًا ما هي البدعة ؟ ليس هناك - أيضًا - ببدعة يمكن أن تُوصف بأنها حسنة اللهم إلا أن يُقال : إن انطلاق الرجل الأول إلى داره ورجوعه بالصدقة هذا الانطلاق هو البدعة ، ولا أحد يقول بهذا ؛ لأنُّو الانطلاق والذهاب والإياب إنما هو من الأمور العادية التي ينطلق الإنسان فيها في نهاره وليله عشرات إن لم نقل مئات المرات ؛ فما هي البدعة إذًا في هذه الحادثة ؟ لم يستطيعوا ولن يستطيعوا مطلقًا أن يقولوا : إن في هذه الحادثة شيء وقع يمكن أن يُوصف بأنه بدعة حسنة .

إذًا لم يصحَّ تفسيرهم للجملة الكريمة من كلام الرسول - عليه السلام - : ( مَن سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً ) بقولهم : مَن ابتدع في الإسلام بدعةً حسنةً لأنه ليس في هذا المجلس بدعة وقعت ، وبناءً على ذلك قال الرسول - عليه السلام - ( مَن سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً ) .

فهذا - أعني ملاحظتنا لسبب ورود هذا الحديث - يدلنا على بطلان تفسير الحديث بذلك التفسير الخاطئ ؛ " مَن ابتدع في الإسلام بدعةً حسنةً " بأنه ليس في هذه الحادثة بدعة أو أمر وقع يمكن أن يسمَّى بالبدعة . =

-- إذا ممكن شوية تتراصوا ما أمكنكم ، دعوا الفرجات هذه ، لا تدعوها .

سائل آخر : السلام عليكم . --

الشيخ : = إذًا فمعنى الحديث كما يدل عليه سبب وروده هو هذا الرجل الذي انطلق وجاء بالصدقة فتح الطريق للآخرين للصدقة ؛ حيث كانوا واجمين وكانوا منكمشين على أنفسهم ، فهذه هي السنَّة الحسنة ؛ انطلاق الرجل ورجوعه بالصدقة هي هذه هي السنة الحسنة ، هذا الجواب من الوجه الأول .

والجواب من الوجه الثاني هو : هَبْ أن معنى ( مَن سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً ) ؛ أي : مَن ابتدع ، إلى آخر كلامه ، لكني أستدرك الآن فأقول : بعد أن عرفنا أن سبب ورود الحديث يدل على المعنى الصحيح للحديث وهو على ظاهره ؛ من سَنَّ : أي : من فتح طريقًا إلى سنَّة حسنة سَنَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قام هذا الرجل فأحياها بالنسبة للناس الحاضرين فله أجرها ، وأجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة ، بعد أن عرفنا هذا الحديث أقول : فمن المستحيل أن نتصوَّر أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول بمناسبة قيام هذا الرجل الأول ورجوعه بالصدقة المأمور بها نصًّا في القرآن والسنة أن يقول الرسول - عليه السلام - بمثل هذه المناسبة : ( مَن ابتدع في الإسلام بدعةً حسنةً ) ؛ هل تتصوَّرون أنُّو هذا الذي يتكلم الآن بين ظهرانيكم إذا حَضَّكم على صدقة - مثلًا - ، فقام رجل هو أبو أحمد - مثلًا - ودخل البيت وجاء بقرش بفرنك بليرة وضعها صدقة ، فتحمَّس الحاضِرون وجاء كلٌّ منهم بصدقة ، فقلت أنا : وأنا أعني من أنا رجل أعجمي ألباني هو ما فعل إلا الصدقة ، فأقول : مَن ابتدع في الإسلام بدعةً حسنةً ؛ هل يعني تهضمون هذا التعبير وهو لم يفعل إلا الصدقة ؟ ومع ذلك أنا أقول بمناسبة هذه الصدقة وانطلاقه ومجيئه بها : من ابتدع في الإسلام بدعةً حسنةً ، هذا إن قلته وليس بعيدًا عني لأنُّو العرق دسَّاس ، فأنا رجل أعجمي قد أخطِئ في كثير من الأحيان أو قليلها من حيث التعبير العربي ، فما هو غريب عني إن أخطأت مثل هذا الخطأ ، لكن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي هو أفصح من نطق بالضَّاد حقًّا وإن كان هذا الحديث لا أصل له : ( أنا أفصح من نطق بالضَّاد ) هذا حديث لا أصل له عند علماء الحديث ، لكن كواقع هو بلا شك أفصح مَن نطق بالضَّاد ؛ إذ الأمر كذلك فكيف يقول هو ما لا يليق بأعجمي مثلي أن يقول بمناسبة صدقة : " من ابتدع في الإسلام بدعةً حسنةً " ؟

الواقع إن الذين ينسبون إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - هذا التفسير لهذا الحديث الصحيح هم ينسبون الرسول - عليه السلام - إلى العيِّ من الكلام والجهل بالبيان الذي هو - عليه الصلاة والسلام - من مزاياه ومن خصائصه أنه كما جاء في الحديث الصحيح أُوتِيَ من جوامع الكلم ؛ فهذا النبي الذي خصَّصَه ربُّنا - تبارك وتعالى - بخصائص امتاز بها على سائر الرسل والأنبياء منها أنه أُوتِيَ جوامع الكلم ؛ كيف يقول بمناسبة صدقة قام إنسان فسَنَّها للحاضرين : ابتدع في الإسلام بدعة حسنة ؟! هذا أبعد ما يكون صحَّةً أن يُنسب إلى رجل عادي مثلي ؛ فضلًا أن يُنسب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وهو الذي في الأصل أفصح مَن نطق بالضَّاد ، ثم إن الله - عز وجل - ميَّزَه بأنه أُوتِيَ جوامع الكلم . هذا الدليل وحده يكفي لإبطال تأويل الحديث بقولهم : من ابتدع في الإسلام بدعةً حسنةً .

الوجه الثاني الذي يدل على بطلان هذا التأويل لهذا الحديث الذي هدموا به حديثًا صحيحًا بعمومه ؛ ألا وهو قوله : ( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) ، كذلك الوجه الثاني ؛ فإننا نقول : إن هذا الوجه يؤكِّد بطلان ذلك التفسير السابق ؛ لأننا نقول ، عفوًا يؤكد الوجه الثاني على أنه لا يصح لهم أن يتَّخذوا الحديث دليلًا على أن في الإسلام بدعة حسنة حتى لو سلمنا لهم بصحة تفسيرهم للحديث ، فنقول لهم : هبوا أن معنى : ( مَن سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً ) مَن ابتدع في الإسلام بدعةً حسنةً ؛ هبوا جدلًا أن الأمر كذلك ، لكننا نجد أن الحديث ذكر السُّنَّتين بوصفين أو بصفتين متباينتين ، الصفة الأولى حسنة ، والصفة الأخرى سيِّئة ، تُرى ما هو السبيل لمعرفة السنة الحسنة من السنة السيِّئة ؟ ما هو الطريق لتمييز هذه السنة الحسنة من السنة السيِّئة ؟ أهو العقل ؟ الجواب : لا . أهو العادة التي وجدنا عليها الآباء والأجداد ؟ أيضًا سيقولون : لا . إذًا أهو الشرع ؟ سيقولون : نعم ، هو الشرع لا ريب .

إذ الأمر كذلك فنحن نسلِّم إذا كان هذا هو التفسير لهذا الانتباه لوصف السنة بأنها حسنة وبأنها سيِّئة ؛ إذًا ليس الأمر بوصف السنة التي بمعنى البدعة أنها حسنة أو أنها سيِّئة راجع لعقول الناس وأهوائهم وعاداتهم أو عواطفهم ، وإنما المرجع في كلِّ ذلك إنما هو الشرع ، إذا كان الأمر كذلك فنحن نقول لهم : هاتوا بدعةً بمعنى لغوي - أي : حدثت بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ، وهاتوا الدليل من الشرع على أن هذه البدعة حسنة حتى نتفق جميعًا على أنه يوجد في الإسلام مثل هذه البدعة ؛ لأن الخطر يكمن في تبنِّي القول بالبدعة الحسنة من جهة تحكيم عقولنا وأهوائنا على استحسان بعض البدع لما ذكرتُ آنفًا أنه حين ذاك هذا الموضوع ينافي التوحيد الخالص لله - تبارك وتعالى - الذي من أجل هذه المنافاة قال الله - عز وجل - في حقِّ النصارى : (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ )) ، فإذا كانت البدعة التي يحسِّنها بعض الناس استحسان من عند أنفسهم ثم تابعهم ناس على ذلك فهو التشريع في الشرع بدون دليل ، أما إذا سلموا معنا أن السنة الحسنة هي التي جاء وصفُها أو قام الدليل الشرعي على وصفها بأنها حسنة ؛ فحينئذٍ نحن لا نكون في الحالة متَّبعين لأهواء الناس وعاداتهم وعقولهم ، وإنما نكون متَّبعين للشرع الذي أقام الدليل على استحسان هذه البدعة بذاتها .

مواضيع متعلقة